الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
اتّسمت العلاقة بين دمشق وطهران منذ العام 1975 بخصوصيّة لم تعرفها المنطقة. بدأت دمشق بنسج هذه العلاقة من خلال فتح المجال للمعارضة الإيرانية للشاه، المتمثلة بحركة تحرير إيران، التي كان يتقدمها مهدي بازركان ومصطفى شمران والكثير من القيادات الإيرانية التي أسَّست في ما بعد حرس الثورة الإيراني، وأتاحت الفرصة لهم للتدريب في سوريا ولبنان والتنقل بسهولة بينهما، فكانت دمشق أوّل من تلقّف التغيير الجيوسياسي الزلزالي الذي حصل في إيران بعد نجاح الثورة، وخصوصاً إبان الانهيار الكبير للمشروع العربي، بعد أن أخرجت مصر نفسها من دورها التاريخي والجغرافي بوهم إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وحصول التنمية بالتموضع مع الولايات المتحدة.
على الرغم من اختلاف بنى النظامين السياسيين وأيديولوجيَّتهما، فإنهما خاضا معاً أطول تجربة هي أكبر من تحالف، واجها فيها متغيّرات زلزالية على مستوى العالم، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يشكّل مظلّة الحماية الدولية لدمشق في مواجهة الاستهداف الغربي الإسرائيلي المستمرّ، فكانت ثمرة هذه العلاقة الاستراتيجية هي المقاومة التي تشكَّلت بعد غزو “الجيش” الإسرائيلي جنوب لبنان، واجتياحه أول عاصمة عربية بيروت، ونجاح هذه المقاومة في أن تصبح الرقم الأصعب في معادلات القوة الإقليمية، بقدرتها على استهداف وتر أخيل المشروع الغربي المستمرّ منذ نهايات القرن التاسع عشر مع تمدد المشروع الاستيطاني.
على الرغم من الاختبارات الكبيرة التي خاضها الطرفان في كلّ الحروب التي حصلت في غرب آسيا على مدى أكثر من 4 عقود، ونجاحهما معاً في مواجهة كلّ التحديات الوجودية على نظاميهما السياسيين، بل على بقاء الدّولتين اللتين خضعتا لمحاولات التفتيت والتفكيك، بدءاً من حرب الخليج الأولى، مروراً بحرب الخليج الثانية والثالثة وحروب لبنان، إلى أن جاءت الحرب الكارثية على سوريا، واجتماع أكثر من 84 دولة على مسألة تمزيقها، استطاعت إيران أن تتفوَّق على نفسها، وعلى كلِّ المحاولات لمنعها من إحداث نهضة علمية واقتصادية كبيرة، لكنها لم تستطع أن تعوّض سوريا التي تعتبر الشريك الوحيد الحقيقي لها في المنطقة، وخصوصاً بعد الحرب عليها، وعجز الطرفين عن رفع مستوى التعاون بينهما في المجالات الاقتصادية والعلمية والاجتماعية إلى المستوى الذي شهده التعاون العسكري والسياسي، رغم كلّ المحاولات التي تمت بينهما، وبمسؤولية الطرفين، لأسباب بنيويَّة تتعلق بتركيبة الدولتين.
أدى الانقسام الكبير في التوجهات السياسية لكل من التيارين الإصلاحي والمحافظ، اللذين يضمان قوى سياسية متنوعة تحت جناحيهما، دوراً أساسياً في ذلك، على الرغم من اتفاقهما على التوجّهات السياسية العامة لإيران.
يستند هذا الانقسام إلى طبيعة رؤية كل منهما للعلاقة مع الغرب في تقدير مصلحة إيران وخروجها من إطار العقوبات والحصار الاقتصادي، فكانت رؤية التيار الإصلاحي تعتمد على إمكانية إيجاد توافق مع الغرب باتفاقيات وتفاهمات تنعكس على الداخل الإيراني بنمو اقتصادي كبير يتيح له استقطاب الإيرانيين نحو الاصطفاف خلفه في توجهاته السياسية في الداخل والخارج، بينما كانت أغلبية قوى التيار المحافظ تعتقد أنَّ الانفتاح على الغرب وفق الشروط الغربية سيكون على حساب استقلالية القرار الإيراني ودوره الإقليمي المتصاعد في غرب آسيا في الدرجة الأولى.
انعكس هذا الانقسام سلباً على سوريا، بفعل امتلاك قوى التيار الإصلاحي سلطة القرار التنفيذية، التي سيطروا عليها عملياً في أغلب الرئاسات التنفيذية التي تتالت على الرئاسات الإيرانية، ما جعل البيروقراطية التنفيذية في مفاصل الحكم الإيراني قادرة على عرقلة خطط التوجّهات التي رسمها صانع القرار الإيراني تجاه سوريا.
لم يكن الأمر مقتصراً على البيروقراطية الإيرانية في تعزيز العلاقة بين البلدين على المستويات كافة، فالبيروقراطية السورية لها دور كبير في ذلك أيضاً، فأغلبها ينتمي في الأساس من الناحية الفعلية إلى كتلة وازنة في بنية الدولة السورية، مرتبطة بالتوجهات الاقتصادية والعلمية في الغرب، ومصالحها الاقتصادية ترتبط بنظام الرشى المالية الغربية وتفرعاته المالية، إضافةً إلى سيطرة اقتصاد الظل على جزء كبير من الاقتصاد السوري، واندفاعه إلى الاعتماد على شركات حقَّقت فيوضات مالية كبيرة جراء الالتفاف على العقوبات الاقتصادية.
كان لإلغاء الاتّفاق النوويّ بين إيران والولايات المتحدة على يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتشديد العقوبات الأميركية إلى الحد الأقصى، إضافةً إلى اغتيال أيقونتي إيران قاسم سليماني ومحسن فخري زادة على يدي أميركا و”إسرائيل”، دور أساسي في إسقاط المراهنة على إمكانية تحسن الوضع الداخلي الاقتصادي والإداري في إيران، الذي ترافق مع بروز ظاهرة الفساد بشكل فاقع بين المستفيدين من نظام الالتفاف على العقوبات، الذين ينتمون بأغلبيتهم إلى التّيار الإصلاحيّ ويرتبطون به، ما رفع من سوية الوطنية الإيرانية، وانتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً لإيران، في خطوةٍ تعبّر عن حسم انقسام القوى السياسية في خياراتها، والتوجه نحو توحيد السلطات التشريعية والبرلمانية والتنفيذية، بما يصنع تناغماً في ما بينها في سياسات الداخل والخارج.
تُعتبر دمشق التي عانت في فترة الحرب عليها من البيروقراطية التنفيذية الإيرانية أحد أكبر الرابحين من التغيير السياسي الإيراني، فهي تدرك أنَّ الفريق الإيراني التنفيذي الَّذي كان يعرقل الكثير من الاتفاقيات بين البلدين، تم إخراجه من السلطة، وهي تتوقَّع أن تتلقّى دعماً اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً أكثر من السابق، وخصوصاً إذا ما تمت العودة إلى الاتفاق النووي بينها وبين الدول خمسة زائد واحد، لكن نجاح هذا الأمر يحتاج إلى شروط سورية داخلية، تتعلَّق بالتخلّص من البيروقراطية السورية المعرقلة، المرتبطة بالمنظومة الاقتصادية الغربية، وإعادة الدورة الاقتصادية الطبيعة، بالاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية والبشرية المتبقية فيها، وتقزيم الاقتصاد الموازي الذي يسيطر على أكثر من 84% مما تبقى من الاقتصاد السوري.
تستطيع دمشق أن تلاقي التغيير الحاصل في إيران بتغيير داخل البنى السياسية والاقتصادية والعلمية، ما يجعلها تتلقَّف فرصة جديدة للخروج من كارثتها. إنَّ قيامها بهذا الأمر سيفتح لها الآفاق للانخراط في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية والمشروع الأوراسي اللذين تعتبر إيران أساس نجاحهما، وتشكيل نظام دولي جديد، قاعدته الأساس المشاريع الآسيوية التي ترسم مستقبله، فهل ستُقدم دمشق على ذلك؟