دمشق والداخل.. بين الإقدام والإحجام

الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري

تتناثر المؤشِّرات، من كل حدب وصوب، بشأن التوافق الدولي على استمرار النظام السياسي في دمشق، مع الاختلاف فيما يتعلّق ببنيته المستقبلية ودوره الإقليمي. فأين موقف دمشق من كل ما يحدث، وخصوصاً ما يعني الشأن الداخلي؟

على الرَّغم من استمرار هيمنة الولايات المتحدة على المسارات السياسية والاقتصادية العالمية، وخصوصاً ما يتعلق بمنطقة غربي آسيا، بما في ذلك سوريا، التي تحوَّلت إلى ساحة الصراع الرئيسيّة بين نظام عالمي قديم يسعى لاستمرار هيمنته، ونظام عالمي جديد في طور الولادة، الأمر الذي جعل سوريا بوابة الإغلاق والدخول وفقاً لمعادلات القوة الجديدة..

على الرَّغم من ذلك، فإن الانقسام الداخلي بشأن كل شيء داخل الولايات المتحدة، أدى دوراً أساسياً في تراجع قدرتها على الاستمرار في الاندفاعات الخارجية، وخصوصاً مع ظهور قوى كبرى جديدة استطاعت تحدّيها كالصين وروسيا، بل وصل الأمر إلى تحدّيها من قوىً إقليمية، كإيران وكوريا الشمالية.

تغيَّرت نظرة الولايات المتحدة إلى سياساتها المتَّبَعَة في غربي آسيا، الأمر الذي جعل المسألةَ السورية في آخر أولوياتها، في مقابل تركيز اهتمامها على مواجهة الصين في الدرجة الأولى، ومحاولة فك “الرباط المقدَّس” بين موسكو وبكين، الأمر الذي دفع الإدارة الأميركية إلى التعاطي مع موسكو عبر سياسة الإغراءات، بعد أن فشلت الضغوط القصوى عليها داخلها، واستثارة المعارضة الملوَّنة التي قام بها ناڤالني، بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية، كما فشلت الضغوط في أوكرانيا، وبشأن جزيرة القرم، وفي سوريا.

اعتمدت الاستراتيجية الأميركية الجديدة، في غربي آسيا، على التخفُّف من الأعباء السياسية والاقتصادية والعسكرية، والإقرار لروسيا بدور المظلة الدولية للمنطقة، والعمل على احتواء إيران بعيداً عن الصين، من خلال محاولات العودة إلى الاتفاق النووي، في مقابل دور المظلة الإقليمية الأولى، والتي تشمل المناطق الممتدة من أفغانستان إلى شرقيّ المتوسط والبحر الأحمر والخليج، بما في ذلك الممرات البحرية.

كانت إشارة البدء نحو إعادة تركيب نظام إقليمي جديد بعد لقاء بوتين – بايدن في شهر حزيران/ يونيو من هذا العام، بعد الاتفاق الذي يتيح للدولة السورية إدخال مساعدات الأمم المتحدة والإشراف عليها، بالإضافة إلى بدء الإنعاش المبكّر، والاتصال الذي تجاوز ساعةً بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، في الأول من شهر آب/أغسطس.

تحوَّلت سوريا إلى ساحة اختبار لكل من واشنطن وموسكو بشأن إمكان إنجاز النظام الإقليمي الجديد، والذي بدأ مع مشروع الشام الجديد، والذي ضم كلاً من العراق والأردن ومصر، والعمل على ضم سوريا ولبنان إليه، بعد ضغوط اقتصادية هائلة عليهما، وصلت إلى حدّ الاقتراب من حالة الشلل العام، مع الحرص على عدم الوصول إلى حالة الانهيار الكامل، قبل كسره سياسياً بالإمدادات النفطية الإيرانية للبنان عبر ميناء بانياس السوري، الأمر دفع الإدارة الأميركية إلى الإسراع في إعلان الموافقة على مرور خط الغاز العربي والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر سوريا.

لم يكن اجتماع وزراء الطاقة في عمّان سوى إعلان مبطَّن عن مشروع الشام الجديد، الذي لم يَغِب عنه العراق إلا ظاهراً، والإقرار بتزويده لبنان بمادة الفيول. وترافق مع صمت كبير من كل القوى الغربية عما حدث في درعا ودخول الجيش السوري درعا البلد، واستعادة السيطرة الرسمية عليها، والانتشار في ريف درعا الغربي.

كل هذا لا يكفي، فهناك مجموعة من المشاكل المعقَّدة، والتي لا يمكن تجاوزها للوصول إلى حالة الاستقرار، من خلال عودة سيطرة دمشق على كامل الأراضي السورية المحتلة، بالإضافة إلى السياسات الداخلية، والتي لا يمكن فصلها عن احتلال القوات التركية جزءاً كبيراً من الشمال السوري، وتأمين بيئة آمنة للمجموعات التكفيرية في إدلب، وبقاء قوات الاحتلال الأميركية لمنطقة الجزيرة السورية، حيث تتركَّز الثروات النفطية والغذائية، بالإضافة إلى الكتلة السكانية الكبيرة من السوريين، الذين لجأوا إلى تركيا ولبنان والأردن، وهي تُقَدَّر بـ 5.6 ملايين وربما أكثر.

حصلت موسكو على إقرار واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى بدورها في حل الأزمة السورية، وهذا ما جعلها مرجعاً أساسياً في محاولاتها إعادةَ الحياة الطبيعية السورية ضمن التزامها “سوريا واحدةً موحَّدةً”، لكنّ هذا الأمر يتطلّب تعاوناً داخلياً على مستوى السلطة السورية، وعلى مستوى قوى سياسية وعسكرية في الجزيرة السورية (“قسد”)، بعد تبلُّغها قرار الولايات المتحدة سَحْبَ قواتها منها، وذهابها بوفد إلى موسكو بقيادة إلهام أحمد، ولقائه بوغدانوڤ، بالإضافة إلى قوى سياسية عسكرية مرتبطة بأجندات الاحتلال التركي، والتي ستتوجه إلى واشنطن نهاية هذا الشهر بقيادة أنس العبدة، لتبلُّغ قرارَ واشنطن، والعودة إلى موسكو للمتابعة.

المشكلة الأساس هي احتلال تركيا مَناطقَ واسعة من الشمال السوري، ورفضها القاطع الخروجَ منه، بحكم اعتبارها إيّاه جزءاً من الأراضي التركية، وفقاً للميثاق الملّي عام 1918، وتحجُّج الرئيس التركي إردوغان بملايين السوريين اللاجئين إلى تركيا، بالإضافة إلى مخيمات النزوح. ولا يمكن إرغامه على الخروج إلاّ ضمن سياق توافق أميركي روسي كامل على خروجه.

لا يمكن للتوافق الأميركي الروسي أن يتم تجاه هذا الاحتلال إلاّ بعد إيجاد مخرج سياسي يحفظ ماء وجه الجميع. ويستند هدا الحل إلى القرار 2254، لكن ضمن رؤية جديدة تلحظ أن النظام السياسي في دمشق غير قابل للإسقاط. وبالتالي، يتمّ الإقرار ببقائه عَصَباً أساسياً في مستقبل سوريا السياسي، في مقابل تغيير السياسات الداخلية، والعمل على استيعاب كل القوى السياسية، وخصوصاً القوى الكردية في شمالي سوريا، ضمن إطار المادة 107 لعام 2011، بما يعطيها حقوقاً ثقافية وإدارية خاصةً بمناطقها. وهذا ما أشار إليه الرئيس بشار الأسد في خطاب القَسَم، عبر الإشارة إلى تفعيل هذه المادة التي مضى عليها عشرة أعوام وهي في حالة التجميد كنتيجة من نتائج الحرب.

النقطة الأهم، بالنسبة إلى السوريين، هي إنعاش الوضع الاقتصادي الذي ترك ظله الثقيل على أكثر من 90 % من السوريين، بفعل العقوبات الاقتصادية الخارجية، وبفعل هيمنة اقتصاد الظل على دورة العمل الاقتصادي، الأمر الذي دفع مزيداً من السوريين، وخصوصاً من الصناعيين، إلى إغلاق معاملهم والهجرة إلى مصر وتركيا. كما دفع إلى تفريغ سوريا من أغلبية الخبرات التي تحتاج إليها من اجل إعادة الإعمار، إذا ما بدأت ذلك.

لم تخرج زيارة الرئيس الأسد موسكو ولقاؤه الرئيسَ الروسي بوتين – الذي ينتظر زيارة الرئيس إردوغان آخر هذا الشهر في سوتشي -عن سياق ما يجري في سوريا ومحيطها الإقليمي، وإن تركَّزت إعلامياً على وجود القوات غير الشرعية، ومنعها عودة سوريا إلى الحياة الطبيعية، وخصوصاً الشمال السوري وإدلب بالذات، إلا أن هذ الأمر لا يمكن أن يتمَّ عسكرياً بعد الإعلان عن توقف العمليات العسكرية، ولا يمكن أن يتم وفقاً لرأي الرئيس بوتين، إلاّ بإقدام دمشق على تغيير سياساتها الداخلية المؤجّلة، اقتصادياً وسياسياً.

لا حلَّ في سوريا لمشكلة الشمال وإدلب، بصورة خاصة، من دون الخروج من حالة الجمود المُنهِك للسوريين، والإقدام على إحداث تغييرات جذرية على مستوى الرؤية الداخلية، سياسياً واقتصادياً، وخلق بيئتين، قانونية واجتماعية، جاذبتين في إطار آمن للجميع، من أجل إعادة البناء الذي يستطيع السوريون وحدهم القيام به إذا ما تم الأمر.

الإحجام مدمِّر في الحالة السورية، والإقدام وحده يستطيع إنقاذ سوريا وشفاءها.

 

الميادين نت
Exit mobile version