جعفر خضور | كاتب سوري
في مستهلّ الحديث، بالرغم من الحِراك العربيّ الكاسر للجمود تجاه سورية والذي ظهر في مقدمته الإمارات عبر خطواتها الوثّابة مؤخراً من فتح للسفارة، واجتماع وفود تجاريّة، واتصالات رئاسيّة على مستوى البلدين، وآخرها، ما كللَّ هذا التواصل الذي أخذَ منحىً مختلفًا كليّاً، زيارة وزير الخارجية الإماراتيّ، عبد الله آل نهيان إلى دمشق في ٩ تشرين ثاني، وهي الأولى من نوعها على المستوى الدبلوماسيّ بعد قطيعة عشريّة، إلا أنَّ توصيف الموقفِ الإماراتيّ يبدو صعباً بعضَ الشيء، وتعود صعوبته إلى الترنّح الكبير الذي بدا واضحاً خلال مرافقته للحرب على سورية منذ عام ٢٠١١، وتغيّره بشكل تصاعديّ منذ ٢٠١٨ ولليوم، ما بين قطع العلاقات، وإغلاق السفارة، والمشاركة في ما يُدعى “التحالف الدوليّ لمحاربة تنظيم داعش”، “والتوقع بفقدان الرئيس الأسـد لسلطته”، وما بين إدانة تعليق العضويّة في جامعة الدول العربيّة، والتفاوض لإعادة فتح السفارة، والثناء على القيادة الحكيمة للرئيس الأسـد .
وبناءً على ذلك، يفرِضُ هذا الترنّح، وما تبعه من توزانٍ مُدرِك في الموقفِ والرؤية، التوصيف الدقيق لهذا الحِراك. الذي يكمن في التواصل الخجول الذي يخشى الرقابة الأميركيّة عليه، والآخر النادم من غرقهِ في وحولِ الآمال الصعبة المنال، لذا هو تواصلٌ بوتيرةٍ أعلى أكثر من كونه انفتاح بعد إغلاق، وتنطوي وجهة النظر في ذلك إلى الإدراك المتأخر، ربما، من قبل الطَرف الخليجيّ لخسارة حرب وكلاءه في سورية من جهة، والعمل التقنيّ المُمهِد للتواصل، وجثّ النبض السوريّ في هذه المسألة، وهو مُقاس بحسب ما هو مُعلن سياسياً، مما يفتح الطريق لزياراتٍ أُخرى من قبل دول عربيّة قد تكون السعودية من بينها “بحسب مصادر إعلامية” بعد زيارة وفد أمني سعودي لسورية من فترة ليست ببعيدة، وتتبعها مصر برأيي الشخصيّ، خصوصاً بعد الحديث المتواتر عن تنسيق اتصال بين الرئيس الأسـد ونظيره السيسي، من جهة أخرى .
وحري بنا التطرق إلى تحليل نوعيّة هذا التواصل والخطاب الحميميّ الإماراتي، ولتوضيح ذلك يمكننا الاعتماد على أهدافه المعلنة الطافية على السطح، والتي تتمثل بشكل أساسيّ في المساعدة الاقتصادية، والتفاهم، لترميم هدم الحرب، ونفخ الروح في الاقتصاد المُتعب، ونتيجةً لذلك يبدو هذا التعاون كهدف أساسي اقتصاديٌ، قد يرقى لتحالفٍ اقتصادي غيرَ سياسيّ لاختلاف وتباين رؤى معروفة، تكون بادئته استثمارات إماراتيّة في سورية، وتعاونٌ وتبادلٌ تجاريّ يعود بالنفع على البلدين، وظهرت خطوة تنفيذية بعد الزيارة من خلال اتفاق بين وزارة الكهرباء السورية وتجمع شركات إماراتية لإنشاء محطة كهروضوئية بريف دمشق باستطاعة ٣٠٠ ميغا واط.
ومن زاوية أخرى، تطرح العلاقات السياسيّة التي تشكّل المصالح عنوانها الرئيس تساؤلٌ حساس ومهم هل من مطلب إماراتي لفكّ التحالف الإيرانيّ – السوريّ تمهيداً لإخراجها من حلف تُعتبر الحلقة الذهبية فيه تحقيقاً لرغبة صهيونيّة مثلاً؟! أو تمرير التطبيع بحكم أنَّ الإمارات منصهرةٌ في الصّف الصهيونيّ وليست كالإمارات التي اعتبرت “إسرائيل” عدوّاً في ١٩٧١. وهذا واردٌ في الأدبيات الإماراتيّة التي بدأت وطالبت أميركا منذ زمن بعيد بتقويض إيران في سورية، بل وبشكل عام، وكانت تخفي في طيات قولها: “نرفض التدخل العسكري في سورية”، ذلك، وإن لم يكن واضحاً ومكشوفاً. ومن البديهي أن يُقابل ذلك في حال تم طرحه بالرفض من سورية التي تعتبر إيران حليف استراتيجي كبير، والذي كان عبر التاريخ أحد أهم وأبرز ملامح السياسة الخارجيّة السوريّة مدّ جسور التواصل والعون مع إيران منذ ثورتها في ١٩٧٩ عندما اعتبرت سورية أنّه: إذا كانت “إسرائيل” قد كسبت مصر بالسلام، فإنها خسرت إيران بالثورة.
لذا هو أمر غير مقبول، ومرفوضٌ مُسبقاً، ليكون العنوان أن العلاقة مع إيران خطٌ أحمرٌ محرّم لا تقتربوا منه ولا تفاوضونا عليه. وفي هذا تأكيد من مصادر دبلوماسية سورية كما وصفتها جريدة الأخبار وذكرت منها: ما لم تقدّمه سوريا من تنازلات قبل الحرب، أو في ذروتها، لن تقدّمه في نهايتها وهي منتصرة». وتضيف: «العلاقة بين دمشق وطهران أمتن بكثير مما يعتقد البعض». والأمر نفسه في موضوع التطبيع ووضوح الموقف السوري منه بأنَّ دمشق لن تطبع وعودة العلاقات لن تغيّر موقفها…وكما يقول علم الفلسفة “البديهي لا يحتاج لبرهان”.
وموازاةً للزيارة الإماراتية، لاقت دعوة الإمارات لسورية، وللرئيس الأسـد تحديداً لزيارة أبو ظبي، وأن تكون حاضرة في جامعة الدول العربيّة في مارس ٢٠٢٢ صدىً واسع، بعد شغور مقعدها مدّة ٧ سنوات، وبطبيعة الحال، إن حضرت سورية، فبرأيي لن تكون كلمتها تختلف كثيراً عن كلمتها في الجامعة بعد الغزو الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣، من تأكيد على الوقوف في وجه المشاريع الصهيو – أميركية، والتنبيه لخطورتها الهادفة إلى بثّ الفرقة بين العرب وإشعال النزاعات على طول المنطقة وعرضها .
بل وأكثر من ذلك، استعراض يكون ناظمه محاور عديدة ذات عناوين عريضة تتضمن مراحل الحرب، وأطرافها، ومموليها، وصراع الجماعات المستوردة نفسها في سورية، وبيان الحليف الحقيقيّ للشعب السوريّ، وتفنيد كلّ الأكاذيب التي سُبكت في سبيل أكبر اجتياح ممنهج ضدّها، وإيضاح الدروس والعِبر منها، وتصوير الفرق بين الخاضع المرتهن وبين المستقل الحرّ، لتكون نافلة القول كلمة سورية في مارس ٢٠٢٢، وفق عصر ٢٠١١ وبطريقة ٢٠٢٢، وإنها لمفارقة زمنيّة بين التاريخين ومرور ١١ عاماً على آذار الأسود حينها، وبين عقد القمة التي غُيّبت عنها سورية، ألا أنَّ مضمونها مفارقةٌ نوعيّة، ولا استبعد طرح سورية مبادرة لتعريف “الإرهاب”، الذي ناضلت من الثمانينات لكشف اللثام عنه وكانت أول من نادى بإيجاد تعريف له، من خلال طلب عقد مؤتمر دوليّ تكون مهمته ذلك. إضافةً لإعطاء التعريف الحقيقيّ لمفهوم “الثورة”. أيّ اختطاف الأضواء في تلك القمّة في حال حضورها على أرضِ الجزائر .
تماشياً مع ما تمّ ذكره، تتلخّص هذه العودة والتواصل بنقاطٍ أبرزها:
– الإدراك العربيّ ومن ضمنه الإماراتيّ المندفع بحتمية الانتصار السوريّ .
– الاعتراف الضمنيّ الخجول بالهزيمة والفشل في التقسيم .
– الموافقة الأميركية رغم تعبيرها عن القلق إزاء الزيارة الأخيرة للإمارات عن الرضا غير المُعلن والآخر على سبيل الاستثناء، وهذا نخر في قانون “قيصر”، يضاف له حديث في الأروقة الأميركية عن أن سورية لم تعد من أولويات إدارة بايدن مما قد يشي بتغيّر في التعامل كتكتيك خادم للاستراتيجيّة الأميركية القائمة على سرق الثروات، وتشكيل أوراق ضغط.
– خسارة حرب الوكالات وذهاب مليارات الدولارات أدراج الرياح لعدم تحقيق هدفها الرئيس .
– استكمال الانتصار المراحليّ بانتصارٍ سياسيّ بعد العسكري من موقع المنتصر الحازم، وهو من نصيب محور المقاومة الشريك الأساسي في الخروج من الحرب.
– برهنة الشرعيّة التي حاولوا تمييعها وضربها بل ولم يعترفوا فيها ببعض المراحل، وها هم اليوم في ضيافتها وفي العاصمةِ السياسيّة دمشق .
ولعلّه من المفيد أن نؤكّد أن الحفاوة التي لحظناها في الأوساط السياسيّة تضع عنوان لهذه المرحلة وهو “العودة للحضن العربيّ”، لكن هنا سنخرج عن العزف على هذا الإيقاع، لنعطي التشخيص الصحيح وهو عودة العرب للحضنِ السّوريّ وليس العكس، لأن الحضانة في مرحلة ما، سقطت من الحاضن عن المحضون بسبب الزواج من قريبٍ محرّم، عادى الحق والعرب والعروبة، وخالعَ الطرف الآخر على سيادته واستقلاله، ومهمٌ هذا التشخيص وإن كان غريباً للبعض، حتى لا يكون في ذلك تشويّهاً مفاهيميّاً يعطي البريق على صدأ ناخر، وبالتالي عادوا لسورية بعض اختلاق الصراع فيها، ودعمهِ عليها، لينتقلوا لمرحلة العبور منها، والدخول من الباب، بدلاً من الشباك كاللص، لذا دمشق ترحّب بكم… لكن بتوقيتها الذي صنعته وأطّرته بقرارها وسيادتها ومركزيّة دورها وصمود شعبها التاريخيّ وحكمة قيادتها في كل فصول الحرب.