دمشق بانتظار الإفراج عن الاتفاق النووي الإيراني .

الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري

قلقت دمشق عندما سمعت خطاب الرئيس المصري أنور السادات في مجلس الشعب المصري في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1977، والّذي لم يكن وليد اللحظة، بل يعود إلى الانتكاسة في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، التي اندفعت فيها مصر نحو إيقاف الحرب بظروف مشبوهة في توقيتها وغاياتها وذرائعها، لتترك سوريا وحيدة في متابعة معركتها، رغم الدعم العراقي، ما دفع الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى البحث عن عمق يحمي بلاده من غدر التاريخ والجغرافيا، التي جعلت بلاد الشام ساحة لصراع الإمبراطوريات عبر تاريخ يمتدّ إلى أكثر من 5 آلاف عام، فعبّر عن أهمية وحدة بلاد الهلال الخصيب في المؤتمر القطري السادس في العام 1975، والتي تعزّزت مباشرة بعد وصول الرئيس السادات إلى القدس، فأُطلقت مباحثات الوحدة بين العراق وسوريا، وتمخّض عنها ميثاق العمل القومي في بدايات العام 1978.

في الفترة ذاتها، كان الصراع يتصاعد بين رؤيتي الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، المسالم والحالم بالوحدة الاندماجية، ونائبه القوي صدام حسين، القلق من المشروع ومن سيطرة دمشق على قرار بلاد الهلال الخصيب، فتلبّدت الغيوم بين البلدين بالاغتيالات واستعار الاتهامات، بفعل سياسات النائب في بغداد، ما زاد قلق دمشق وانكشافها إقليمياً، فهي تقع على حدود “الناتو” في تركيا من الشمال، ومن الغرب، تحد كلاً من لبنان الذي انفجرت فيه الحرب الأهلية بامتداداتها الإقليمية والدولية، وفلسطين التي تحتلها “إسرائيل”، وهي تشكل تهديداً وجودياً لبقاء سوريا. ومن الجنوب، تحدّ الأردن الذي تحوّل إلى غرفة عمليات عسكرية متقدمة لحلف “الناتو”، وإلى مركز لتدريب المجموعات المسلّحة التابعة لتنظيم “الطليعة” الإخواني، بدعم كل من العراق والمملكة العربية السعودية.

كان لنجاح الثورة الإسلامية في إيران الدور الأكبر في تحويل المسار السوري، للتعويض عن غياب الدور الإقليمي لمصر، والضغط على العراق الذي ذهب باتجاه الحرب على إيران بعد نجاح انقلاب صدام حسين على أحمد حسن البكر في 16 تموز/يوليو 1979. ولأوّل مرة، تعود دمشق وتأخذ دوراً إقليمياً منذ سقوط الإمبراطورية الأموية في العام 750م، بحكم احتياج الدول الخليجية والغربية إلى وسيط مع الجمهورية الإسلامية التي أحدثت انقلاباً جيوسياسياً كبيراً على مستوى الغرب والشرق.

رغم اختلاف النظامين السياسيين الحاكمين للبلدين ومنطلقاتهما العقائدية، فإن طبيعة العلاقة بينهما تأسَّست على ارتباط شديد بالمصير والثقة التي بدأت في أواسط السبعينيات، بعدما أمَّنت دمشق البيئة الآمنة لتحرك العناصر القيادية للثورة في لبنان وسوريا ومراكز التدريب العسكري، ما ترك آثاره العميقة في علاقة العاصمتين في مواجهة التهديدات العسكرية والأمنية منذ العام 1979.

تعرّضت سوريا لأسوأ كارثة إنسانية بعد وصول الاضطرابات إليها ضمن مشروع “الشرق الأوسط الكبير”، الذي تمّ وضع أسسه الأولى في مؤتمر “سي آيلاند” في الولايات المتحدة في العام 2004، وتكشّف الوضع الداخلي الذي لم تكن دمشق مستعدة له، فتحولت سوريا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي كبير بعنوان منع ولادة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب والثقافات والسياسات، فلم تجد دمشق حليفاً قوياً وعالي الثبات سوى طهران في البداية، رغم دعم موسكو وبكين السياسي في مجلس الأمن، لكن ذلك لم يمنع عنها العقوبات الاقتصادية التي ازدادت بشكل كبير بعد تطبيق قانون “قيصر”، الذي استطاع شلّ الحياة الاقتصادية بالتآزر مع سيطرة الاقتصاد الموازي على ما تبقى من الحركة الاقتصادية وغياب دورة الإنتاج بشكل شبه كامل.

تدرك دمشق أنّ حليفتها إيران تشكّل بيضة القبان ونقطة الارتكاز الأساسية في حسم مشروع استمرار القطبية الواحدة للولايات المتحدة أو الانتقال إلى مشروع نهضة قارة آسيا الذي تقوده كل من الصين وروسيا نحو نظام دولي جديد، وأن معركة الملف النووي الإيراني ليست سوى رأس جبل الجليد في هذا الصراع الدولي الكبير، وأن الإدارة الأميركية التي تدرك حجم المخاطر على مكانتها الدولية، تسعى جاهدة، وبإلحاح كبير، للوصول إلى اتفاق كامل مع إيران بعنوان العودة إلى الاتفاق النووي، ولو على حساب “إسرائيل” ودورها الإقليمي.

كما تدرك أن حليفتها طهران تقود الصراع بأشكاله السياسية والعسكرية، رغم الحصار الاقتصادي الشديد عليها، وباقتدار كبير، ما دفع دول العدوان على سوريا إلى إعادة النظر من جديد لمحاولة استيعاب دمشق ضمن إطار الجامعة العربية، بمبادرة روسية وغض نظر أميركي، بما يوحي بموافقة ضمنية بعد المنع السابق في العام 2019، وخصوصاً أن المملكة العربية السعودية هُزمت فعلياً في اليمن، رغم الإنفاق العسكري الذي وصل إلى حدود 750 مليار دولار، وكذلك الإمارات العربية المتحدة التي اكتشفت حدود حجم قوتها الحقيقي، فبدأت بالانسحاب من قاعدتها العسكرية في ميناء “عصب” الإريتري، وكان من الواضح إدراكها لذلك بدءاً من لحظة استهداف “أنصار الله” في اليمن لمطار أبو ظبي في شهر أيار/مايو 2019، فبدأت مسيرة العودة إلى دمشق وافتتاح سفارتها، بما يوحي بوجود اتفاق مع “أنصار الله” وإيران ودمشق.

تعلم دمشق أن العودة إلى الاتفاق النووي ستلقي بظلالها على “إسرائيل”، التي لن تستطيع بعدها الاعتداء على سوريا من دون ضوء أخضر أميركي تم إطفاؤه، وضوء روسي برتقالي مهادن بين الطرفين، وأن عواقب أي اعتداء ستتحمل مسؤوليته وحدها، وهي تصرخ الآن اعتراضاً على العودة إلى الاتفاق الذي سيتم تظهيره خلال أسبوعين.

كما تعلم أيضاً أن الموقف التركي سيكون شديد الحرج بالتعاطي مع العودة إلى الاتفاق النووي، فأنقرة تراقب ما يحصل بقلق، وهي أمام خيارين كلاهما مرّ، فإن استمرت في احتلالها الأراضي السورية قد تتعرض لضغوط اقتصادية غربية، بما ينعكس مزيداً من انهيار الليرة التركية أمام الدولار، وهي تحتاج إلى كمّ ضخم من الاستثمارات الغربية لإنقاذ اقتصادها المرتبط كلياً بالاقتصاد الغربي، وإن انسحبت، فإن ذلك سيضعها في مواجهة مع الداخل التركي، الذي لن يتوقف عن محاسبة رجب طيب إردوغان، الذي جرّ بلاده إلى مغامرات عسكرية خارجية تسببت بضعضعة الداخل التركي سياسياً واقتصادياً، والأمر بطبيعة الحال يرتبط بالحليف القطري الذي استجاب مبكراً للمتغيرات، بمحاولات الوصول إلى مصالحات بين تركيا وكل من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات، إضافة إلى الدور الجديد بالوصول إلى مصالحات بين إيران وكل من مصر والإمارات والسعودية.

كلّ ما يحصل في الإقليم يَصُب في مصلحة دمشق، وسيضعها أمام استحقاقات ما بعد الحرب والعمل على تغيير عميق في بنية النظام السياسي، بما يعزّز الدولة السورية ودورها الإقليمي، والانتقال نحو إعادة إعمار شاملة في كلّ المستويات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية، وخصوصاً ما يتعلّق ببيئة العمل الاقتصادي وتشريعاته، بما يتيح الفرصة لنهضة شاملة في سوريا، فهل ستفعل ذلك؟

Exit mobile version