تحليلات و ابحاثكتاب الموقع

دراسة فى أوراق بطرس غالى :الطريق إلى القدس

دراسة فى أوراق بطرس غالى :الطريق إلى القدس ...

الدكتور احمد عز الدين | كاتب وباحث مصري

كُتبت هذه الدراسة قبل عشرين عاما بالتمام والكمال ، لكنها تنشركاملة على هذا النحو للمرة الأولى ، ويبدو لي أنها اختارت بنفسها توقيت نشرها اليوم .

(1)
لم أستطيع أن أجد تفسيرًا محددًا لتلك العلّة العامة التي وضعت مذكرات د.بطرس غالي في مواجهة مصير لا تستحقه. فقد تصوَّرت عند قراءتها للمرة الأولى أنها ستجد من كل القوى السياسية والمدارس الفكرية في بلادنا، اهتمامًا يرقى إلى التعامل معها تعاملاً نقديًا ، وأن حلقات الحوار حولها ستُنصب، ومعارك الفكر ستنشُب، ليس باعتبارها تسجيلاً لوقائع في التاريخ الذي مضى، ولكن باعتبارها رؤية حية لتاريخ ما زال في طور التكوين والتشكيل.
ولعل تصوري كان يرجع إلى عدة أسباب:
أولاً: إن المستقبل لا ينمو من عوامل ليست قائمة في الواقع، ولذلك فإن ما نحن بصدده الآن ليس مجتث الجذور أو منقطع الصلة بتلك المغامرة التاريخية بأشخاصها ووقائعها ومناخها كما سجلتها يوميات أحد الذين كانوا قرب مركز انفجارها العاصف.
ثانيًا: إن الذاكرة التفاوضية الإسرائيلية قد تركت بصماتها قوية على هذه اليوميات.. وهي ذاكرة ماتزال مشرعة كالسيف في وجه كل حلقة تفاوضية جديدة. وهي في النهاية ككل ذاكرة محصلة تراكم مواقف وتجارب وأحداث. يصعب إلغاؤها أو التحلل منها، ولذلك فإن تراكم الأحداث والوقائع كما سجلتها يوميات بطرس غالي، كما تعين على تأمل هذه الذاكرة بنية ونمطًا عامًا. فإنها تعين على تأمل وجه هذا السلام المراوغ.
ثالثًا: أن هذه الرؤية لم تصدر عن معارض لكامب ديفيد. كما هو حال وزير الخارجية السابق محمد ابراهيم كامل مثلاً، ولكنها تصدر عن مسئول سابق، التصق بروح هذه المغامرة منذ الوهلة الأولى.وعاش تفاصيلها وتضاريسها، ولم يخرج منها أو عليها، ولم يمثل طوال الوقت أحد أدواتها العملية المباشرة، ولكنه مثل أمام الرأي العام المصري ومؤسساته المختلفة الغطاء الأيديولوجي لها. ولذلك فإنه لايتحدث بمنطق الخروج على التجربة، ولكن بمبدأ الاندماج فيها والدفاع عنها وهو ما يكسب الوقائع التي يرصدها مصداقية أكبر.
رابًعا: أن هذه الرؤية لا تصدر عن سياسي محترف، أو عن موظف عام بدرجة وزير، ولكنها تصدر – أيضًا – عن أكاديمي مصري رفيع المستوى. ولهذا فقد نشب الصراع دائمًا بين شخصين في إهابه: الموظف العام، والأكاديمي العلمي. وإذا كان الموظف العام قد انتصر بشكل ساحق وألغى الأكاديمي في مراحل مهمة في التنفيذ العملي للسياسة. فإن الأكاديمي حاول أن يراجع دور السياسي التنفيذي والموظف العام، ولهذا تبدو لحظات استيقاظ الأكاديمي، حادة النقد، مصقولة الضمير، يقظة الإحساس.
خامسًا: إن الذين شقوّا عصا الطاعة فكريًا وسياسيًا على كامب ديفيد. ودفعوا ثمنًا باهظًا. دمًا وعمرًا ومصادرة وغربة بسبب ذلك، بمقدورهم بعد سنوات من خلط الوراق، أن يطمئنوا إلى سلامة اختياراتهم السياسية، وإلى أنه كان حريّا بهم أن يدفعوا راضين وقانعين ثمن ما تكبدوه قيود ومناف. فلم تكن معارضة كامب ديفيد وقفًا على أولئك الذين ينتمون إلى تيار القومية العربية. أو إلى أفكار التحرر الوطني والعدل الاجتماعي، فقد كانت “عصابة الخارجية المصرية” – على حد تعبير مناحيم بيجين- تجلس في الصفوف الأمامية للمعارضة، بل أن سفير الولايات المتحدة الأمريكية في مصر (هيدمان إيلتس) وهو دبلوماسي محترف وأكاديمي مجتهد، صاغ منذ الوهلة الأولى للتوقيع على الاتفاقية المصرية الإسرائيلية، تعبيرًا أكثر حدة من كل ما صاغته فلول المعارضة، فقد همس في أذن بطرس غالي وهو يهم بمغادرة موقعه الديبلوماسي في القاهرة قائلاً: “إن اتفاقية كامب ديفيد، هي كارثة”.
ولم يكن أولئك الذين رأوا أن الاتفاقية لا تمثل صيغة صحيحة ومتوازنة لتحقيق سلام عادل وشامل حتى بحكم موازين القوى في ذلك الوقت، وإنما تمثل حلاً ناقصًا بالفعل جاحدين أو منكرين. أو يعيشون في متحف التاريخ، فقد كان ذلك بالضبط هو رأي هنري كيسنجر نفسه، والذي لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يقول لبطرس غالي على مائدة قريبة من المائدة الرئيسية في البيت الأبيض، تحت أمطار كلمات الإعلام. وفي وهج الاحتفال بعرس السلام: “أنني مندهش جدًا، كيف وافق السادات على هذه الاتفاقية.. لقد كان بمقدوره أن يحصل على أكبر من ذلك بكثير”.
غير أنني لم أستطع بعد ذلك، أن أمنع نفسي من البحث عن تفسير لذلك التجاهل، أو ذلك الاهتمام الشكلي، الذي وصل إلى حد اغتيال المذكرات. ولعلي قد وجدت بعضًا من أسبابه:
أولاً: أن الذاكرة التفاوضية تبدو مغلقة على نفسها ولا تتمتع بحس نقدي، ولهذا فهي لا تريد أن تشير إلى خطأ أو تعترف بنقيصه، أو تركز على قصور، ولهذا فهي لا تبدو مهيأة لاستخلاص العبر والدروس من تلك الأخطاء التي فرضت عليها.
ثانيًا: أن تحول الخصومة السياسية إلى شكل من الخصومة النفسية لا يتيح للفرقاء السياسيين أن يقدموا مراجعة نقدية لمواقفهم، والمراجعة النقدية شيء غير النقد الذاتي، الذي هو تنفيس عن أزمة ذاتية بغية اجتيازها لا تجاوزها. ولهذا فإن هذه الخصومة النفسية مع كامب ديفيد وشخوصه ومناخه ووقائعه، لم تلتقط من المذكرات، إلا ما قد يثير السخرية أو التندر، بل حولتها صحف معارضة تتسلح بشعارات قومية إلى نكته سياسية، قد تثير الضحك، ولكنه ضحك كالبكاء.
ثالثًا: أن إعادة قراءة المذكرات واستخلاص الحقائق منها، يصطدم مباشرة بموقف نفسي آخر، وهو التأقلم مع حالة هذا السلام، وسواء بالنسبة للمؤيدين الذين يغمرهم إحساس عميق بوصولهم إلى شاطئ سيادة خياراتهم السياسية، أو بالنسبة للمعارضين الذين تحول كامب ديفيد لديهم إلى حالة واقعية قائمة، عليهم أن يتعاملوا معها على هذا الأساس، ولذلك فإن المراجعة هنا تبدو عملاً صداميًا سواء من واقعية القبول، أو واقعية الرفض.
رابعًا: أن معارك السياسة في بلادنا قد شابها حس ثأري واضح، وهو حس ثأري يوسع الهوة بين القوى السياسية وبعضها. فما نزال نتنفس خصومات في التاريخ ومعارك في التاريخ، وثارات في التاريخ.
إن هذا الحس الثأري يفضل أن يتصرف دائمًا بمنطق التجاهل، فالتجاهل هو اكثر درجات تصغير الآخرين، والتعبير عن ازدرائهم، واعتبارهم غير قائمين في الواقع، ولعل هذا الحس الثأري ساهم في تجاهل المذكرات بمنطق تصغير شأنها، ومكوناتها، وموضوعها، قبل صاحبها.
خامسًا: إن الاختلاف السياسي على المستوى الوطني عمل مشروع، فوق أنه مفيد. لكن الاختلاف حول تحديد أولويات العمل الوطني، ليس مفيدًا في كل الأحوال، ولعل جانبًا من مشكلة العلاقة بين القوى السياسية المختلفة في مصر، لا يتعلق أساسًا بتباين أو تناقض مواقفها ورؤاها للقضايا الأساسية المطروحة على البساط الوطني.ولكن في منهجية ترتيب هذه الأولويات، بالرغم من أن هذا الترتيب ينبغي أن يكون في موضع توافق وطني عام.

ولهذا فلا غرابة في أن هناك من يرى أن قضية أوضاع البورصة المصرية، تتقدم في ترتيب الأولويات على قضية دور مصر الإقليمي.
تلك هي انطباعات الخطوة الأولى التي تولدت داخلي بعد قراءة المذكرات، ولعل الخطوة التالية في التعامل مع أوراق بطرس غالي هي رسم حدود شخصية م خلال أوراقه، قبل رسم حدود المواقف داخل الأوراق من خلال صاحبها.

-2-

يبدو أن الموسيقار محمد عبد الوهاب، هو الذي استطاع بحسّه الرائق، أن يلتقط المفتاح الأساسي في شخصية د.بطرس غالي، فقد كان له على حافة لقاء ساهر في بيت المستشار ممدوح عطية، وزير العدل الأسبق، أنه راقب تعبيرات وجهه ونبرات صوته أثناء أحاديثه التلفزيونية بعد معاهدة كامب ديفيد، وانتهى إلى قناعة بأنه ينبغي أن يصبح ممثلاً في السينما بعد أن يترك وظيفته في الخارجية. ومع أن د.غالي أعتبر ذلك مجرد مزحة من “سيناترا” العالم العربي، إلا أن وقّعه قد حرك شيئًا في أعماقه، دفعه إلى تسجيله.
إن الممثل يؤدي دورين في وقت واحد، دورًا طبيعيًا في الحياة هو الذي يعيش في أهابه.. ودورًا آخر هو جزء من سيناريو قصة فرضت عليه، أو اختار أن يلعب دورًا فيها، أي أنه يعيش ازدواجية مؤقتة أو مزمنة بين دورين أو أكثر. ولعل د.بطرس غالي قد أحسن التعبير في مذكراته عن هذه الازدواجية، ولست أقصد الازدواجية بالمعنى الأخلاقي أو القيمي، فالرجل متجانس مع ميراثه الاجتماعي والثقافي والنفسي.
ولكنني أقصد الازدواجية التي تتشكل من المسافة بين بنية هذا التكوين والميراث وبين طبيعة الأدوار التي تفرضها الظروف أو تحددها المصائر والحاجات.
لعلي لا أجانب الصواب إذا قلت إن هذه الازدواجية، من واقع أوراق د.بطرس غالي تتبدى من خلال أبعاد ثلاثة: ازدواجية أولى ذات طبيعة عملية بين فكر وفهم الأكاديمي، وبين متطلبات والتزامات دور الموظف العام ، وازدواجية ثانية ذات بعد نفسي بين الميراث الاجتماعي التاريخي، وبين واقع الحاضر وطبيعة الحضور، وازدواجية ثالثة بين هوية وطنية وانتساب إلى العالم الثالث، وبين انتماء ثقافي كامل إلى الغرب، لقد اكتشف ذات مرة وهو يغادر جنوب آسيا إلى سويسرا أن على متن طائرة فوق السحاب، مستمتعًا بموسيقى “كورساكوف” أنه انتماؤه – بتعبيره- ولا انفصام فيه، غير أن المشكلة الحقة في ذلك كله. أن كلاً من هذه الازدواجيات لا تعمل عملها مستقلة عن الأخرى، وإنما تعمل متفاعلة ومتداخلة التأثير، لتشكل في النهاية حالة واحدة، ولكنها متعددة الوجوه:
• هروب إلى الخلف أحيانًا، أمام صدام الأفكار والقناعات، وهو ما أسماه التراجع التكتيكي.. مثلما حدث في أزمة المادة 6 من معاهدة السلام، والتي تنص على أن الاتفاقية المصرية- الإسرائيلية ستكون لها الأولوية على كل الاتفاقيات العربية، وقد استخدم د.غالي نفسه، تعبير الكارثة في مواجهتها لأنها ستبعد مصر تمامًا عن التزاماتها العربية، وحين سأله السادات بعد أن اختنقت المفاوضات مع سايروس فانس ومع إصرار د.مصطفى خليل، و”عصابة الخارجية المصرية” على تغييرها: “مارأيك با بطرس في صياغة المادة 6”. وقال بطرس: “أن المادة تنطوي على قيود على مصر، ولكن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تسهل على مصر الاحتفاظ بكامل حريتها السيادية”! وضحك السادات قائلاً: “إنك أنت يا بطرس الذي ستدافع عن المعاهدة أمام البرلمان.. إذا كنت ترى أن هذه المادة لاتحتاج إلى تعديل، فإنني لن أعارضك”.. وبقيت المادة في مكانها بدفاع بطرس، الذي حسبه تراجعًا تكتيكيًا.
• هروب إلى الأمام أحيانًا أمام ضغوط الأعصاب وخوران العقل، بحثًا عن سلوى، أو عن استمتاع عابر، فبعد فشل محادثاته بصحبة مصطفى خليل في واشنطن، وصولاً إلى اتفاقية سلام، آثر أن يذهب إلى باريس في طريقه إلى القاهرة، واختار فندق كريون، وعددًا من الأصدقاء، وزجاجات من الشمبانيا وأنخابًا عن السلام الذي يتحقق، وفي داخل كامب ديفيد نفسه، وحين تحول إلى سجن ، غالب قيوده بالذهاب منفردًا إلى السينما للتسرية عن نفسه، وفي أعقاب فشل مباحثات اخرى في بلير هاوس، لم يجد بديلا عن أن يتوجه في المساء إلى مناسبة اجتماعية. حيث لفتت نظره مغنية سوداء بجمالها الخلاّب، وعينيها الساحرتين، وطول قامتها – كما يقول – حيث دعاها إلى الرقص، وكان الوحيد الذي راقصها طوال السهرة. حيث نسى صراع اليوم كله سواء مع جيمي كارتر، أو موشي ديان، وفي أعقاب جولة مباحثات فاشلة أخرى اختار أن يذهب بصحبة أشرف غربال إلى بيت ريفي لمليونير أمريكي صديق للأخير، حيث استمتع بالمناظر الطبيعية الساحرة.
• أما الوجه الثالث فهو سعي دائم للبحث عن نقطة توازن بين ضغوط هذه الازدواجيات ، ولكن توازن قلق يميل مع الوقت إلى أحد الجانبين ، أنه يهرب من الانفعال بطريقة خاصة للغاية ، فهو يخرج رأسه من قبعّة المشكلة الضيقة، ثم يضعها في سلّة وهمية فضفاضة، عندما رافق السادات – مثلاً – أثناء صلاته في المسجد الأقصى، غلبه الانفعال، ووجد نفسه على وشك البكاء، ولم يجد وسيلة للتغلب على ذلك سوى أن يُرغم نفسه على التفكير في الحذاء الذي تركه على باب المسجد ، ماذا يمكن أن يحدث لو لم يجده عند خروجه، في تلك الكومة من الأحذية الموجودة هناك، وفي ليلة وجوده الأولى في قلب تل أبيب بصحبة السادات، آثر أن يجفف انفعال عقله، بحرارة وجدانه، فارتجف في الليل إشفاقًا من أن ألا يتمكن العالم العربي ، أبدًا من استعادة القدس، ولهذا يبدو د.بطرس غالي شديد الصبر في مواقف ، تستحق الغضب العارم وشديد الانفعال في مواقف تتحمل الجلد، فرئيس الدولة يهمله أحيانًا ، ويتهمه أحيانًا- بألفاظه- أنه “لا يفهم شيئاً في السياسة” ويعلن غير ما يعتزم ، ويقوده من حرج تفاوضي إلى آخر، ورئيس الوزارة يوبّخه لأنه يفكر كأكاديمي. ويطالبه بان ينسى أنه كان أستاذًا بالجامعة؛ لأن المشاكل الدولية لا يحلّها القانون الدولي ، ومناحم بيجين يتندّر عليه كلما رآه ويحول اسمه إلى نكتة مبتذلة، وموشي ديان يتجاهل أسئلته الكثيرة أما يوسف بورج، فقد سأله على مائدة اجتماع في هرتزليا وسط مشاعر إخفاق حادة: “يا دكتور بطرس هل تم اجراء الطهارة الشرعية لك ، فردّ برأسه إيجابًا.. فاستطرد “بورج” قائلاً له: “حسنًا ، لأنك بعقليتك، وبعضوك التناسلىّ واحداً منا من الناحيتين” وطوال هذه المواقف وغيرها، لم يبد غالي غضبه مرة واحدة ولعلة اعتبر كلمات “بورج” نوعًا من التحية على الطريقة الإسرائيلية .
ولهذا – أيضًا – يبدو رغم أن مصداقيته العامة ليست في موضع اتهام، فقد غطى أوراقه الحقيقية وقناعاته بأبخرة ملونة، تشبه قنابل الدخان التي تغطي بها بعض الوحدات العسكرية، اتجاه انسحابها غير المنظم ، أمام البرلمان المصري ، حين أسندت إليه مهمة الدفاع عن المعاهدة، وقد أكد لأعضائه ما رآه – في أوراقه – مناقضًا لما حدث ، فقد اعتبر في دفاعه أن القدس جزءً من الضفة الغربية ، واعتبر إطار كامب ديفيد يتسع لغير مصر، وخلال مفاوضات الحكم الذاتي اضطر أن يقول للصحفيين أن مصر أجرت اتصالات غير مباشرة مع القيادة الفلسطينية وتنتظر النتائج، رغم أن ذلك كان يجافي الحقيقة – حسب اعترافه- لأن الاتصالات لم تتم إلا مع عناصر غير مؤثرة في الضفة وغزة ولم تكن هناك نتائج تُنتظر من ورائها.
غير أن مسألة استخدام قنابل الدخان ذات وقع أعمق لديه ، فحين انتقل طائرًا ذات مرة من بيئة رثة في دولة أسيوية ، إلى بيئة نظيفة ولامعة في دولة أوروبية لم ير فرقًا سوى أن أوروبا التي لم تستطع أن تقضي على الفقر، استطاعت أن تنجح في إخفائه ، لهذا – أيضًا – يتخلل اوراقه خط دفاعي عميق عن الذات، فهو دائم التحذير، دائم القلق، دائم الشكوك، دائم التوجس، لكنه يطرد أشباح ذلك كله عمليًا ، إما بتضخيم النظرة إلى الأرباح، وإما بتقليل النظرة إلى الخسائر، لكنه – أحيانًا – يستجلب النوم بعيدًا عن الأشباح ببعض الأقراص المهدئة – كما حدث في كامب ديفيد – أو يستجلب صفاء النفس، وراحة البال، بالتعويض عن تحسن الظروف في المستقبل، لقد ركبوا خطًا تليفونيا مباشرًا بين الخارجية المصرية والإسرائيلية، بعد المعاهدة ، ولكن الخط لم يعمل أبدًا، بينما لم يتوقف د.بطرس غالي عن رفع سماعة التليفون، كلما استبان ضجيجًا من حوله، مع أن أحدًا على الجانب الآخر لم يرد على تحيته مرة واحد، لقد ظل الرد- كجودو – فى المسرحية العالمية التى تحمل إسمه – لايأتي أبدًا، ولكن انتظاره لم يتوقف!

(3)
تتبدى بعض ملامح تلك الازدواجية ذات البعد النفسي، بين الميراث الاجتماعي التاريخي، ووقائع الحاضر والحضور، في شخصية د.بطرس غالي ، في إصداره التلقائي والفوري، لبطاقات هوية تاريخية خاصة، لكل الأماكن التي يعاشرها، من مبنى وزارة الخارجية إلى نادي محمد علي، إلى مبنى رئاسة الوزراء ، إلى رئاسة الجمهورية، فعندما قضى ليلة منفردة في إحدى غرف مكتب رئيس الوزراء ، تذكر أنها واحدة من الغرف التي كان تستخدمها الأميرة شويكار كقاعة استقبال ، وعندما ذهب إلى قصر رأس التين، مقر الحكومة في الاسكندرية، تذكر أنه مقر فاروق المبني على طراز الروكوكو. أما قصر المنتزه فهو بالنسبة له القصر الصيفي الثاني للملك فاروق ، ونادي السيارات في سيدي بشر ، أفخم نوادي الصفوة في عهده، وفي قصر الدوبارة مقر رئاسة الوزراء تذكر أن أمه كانت صديقة لشويكار ( أولى زوجات الملك فؤاد والتي اتهمت بإفساد فاروق بعد ذلك)، وأن أمه كانت مخلصة في ولائها للأسرة المالكة، وحتى عندما زار دلهي وقادوه إلى القصر السابق لنظام حيدر آباد ذكّره المبنى الضخم بقصر عمه واصف الذي كان قائمًا بجوار السفارة الفرنسية على النيل ، والذي كان بحجمه وبنائه وأثاثه الفرنسي من طراز ماجوريل. وعندما قُدّر له خلال جولة من المفاوضات المصرية – الإسرائيلية أن يحلّق فوق أنشاص مع مصطفى خليل في الطريق إلى الإسماعيلية ، تذكر أن كل الأراضي المحيطة بقصر الملك، كانت في وقت من الأوقات ملكًا لأسرته، ولكن عندما أبدى الخديوي اهتمامه بالمنطقة باع جده الأرض له. ولعل هذا البعد النفسي ظل يعمل إلى جانب ذلك، كمحدد لكثير من سلوكياته وخياراته،إن ذاكرته تتفتّح في الماضي، وتبدو وردة يانعة طافية فوق المياه الراكدة للتاريخ، حينما كانت أسرته واحدة من مائتي أسرة، تفرض سطوتها الاجتماعية والفكرية على المجتمع المصري، في عهد الملكية، وهو يستعيد دائمًا هذا التاريخ ، أو قل إن هذا التاريخ قادرًا على استعادته دومًا، وملأ اشرعته برياحه القوية، وملئه أحيانًا بالرفعة والزهو، وأحيانًا بالانكسار والإحباط، وإذا لم يكن د.بطرس غالي أسيرًا فكريًا بشكل كامل لهذا الماضي، فهو واقع لا محالة في إساره النفس، لقد كان هذا البعد النفسي هو الذي شكل المادة الأولية لاهتمامه الأول بالسودان، ثم انفتحت مروحة السودان على إفريقيا كلها. إن الاهتمام بالسودان يرجع إلى أمه؛ لأنه كان يُقال له وهو صبي صغير أن جده بطرس غالي – الذي حرص على إهدائه كتابه – هو الذي سلم أثناء توليه وزارة الخارجية ، السودان إلى البريطانيين، عندما وقع عام 1899 الاتفاقية التي أقامت الحكم الثنائي بين مصر وانجلترا في السودان، الذي كان المصريون – على حد تعبيره – يعتبرونه من الأراضي الخاضعة لسيادتهم الخاصة، ” وكان ذلك من الأسباب التي دفعت من اغتالوا جدي في أحد شوارع القاهرة “، ومنذ سنوات شبابه كان يريد أن يفهم المزيد عن علاقات مصر والسودان.
وكان هذا البعد النفسي ذاته هو الذي أدخله في لجاج لغوي مع ممدوح سالم رئيس الوزراء، حينما استقبله ليخبره باختيار السادات له عضوًا في تشكيله الوزاري الجديد، فقد أحس نفسيًا ، بأنه سيوضع في ازدواجية جديدة بين موروثه وبين موقعه الوزاري الجديد. لقد أمضى نصف ليلة مع ممدوح سالم يلقي قصائد ذات محتوى اجتماعي نفسي، تعبر عن قناعته بالتناقض بين تاريخيه تكوينه وطبيعة الوظيفة الجديدة. لقد قال لممدوح سالم متعجبًا: كيف يمكن أن أقبل هذا المنصب؟ إن جميع القوانين الاشتراكية قد طُبّقت علىّ، من قانون الإصلاح الزراعي الأول، حتى الثالث. وأجابه ممدوح سالم بهدوئه: نحن نعرف ذلك.
وقال: إن ثروة زوجتي قد وُضِعت تحت الحراسة، وقد تعرض أفراد أسرتي لمعاملة مماثلة، وعلى ذلك نحن لا نتمتع بسمعة سياسية طيبة لدى لدى من قاموا بالثورة. وأجابه ممدوح سالم: نحن نعرف ذلك. وقال: إن قوانينكم جعلتني عدوًا للشعب، وليس من مصلحة مصر أن تعرضوا علىّ هذا المنصب. وأجابه ممدوح سالم: نحن نعرف ذلك. وكرر د.بطرس اعتزاره مرة أخيرة ، ولكن صبر ممدوح سالم كان قد نفد بعد منتصف الليل، فأجابه قائلاً: أنك تُضيِّع الوقت، لقد أذيع مرسوم تشكيل الوزارة من الإذاعة والتليفزيون. بل كان هذا الميراث نفسه هو الذي قطع عليه طريق التردد، حينما أبلغ بعد ثلاثة أسابيع فقط من اختياره وزير دولة بلا عمل، باختياره وزير دولة للشئون الخارجية، لقد اتصل به مكتب نائب الرئيس وقال له: صدر قرار جمهوري بتعيينك وزير دولة للشئون الخارجية، وقائمًا بأعمال وزير الخارجية، وبهذه الصفة سوف تنضم إلى الوفد المصاحب للرئيس في زيارته لإسرائيل غدًا السبت، وكان جماع رده المباشر: أني على استعداد لخدمة الوطن في أي موقع يطلب مني، ثم سجل في يومياته أنه “لم يتردد لحظة واحدة في قبول هذه المهمة” واختفى ذلك التناقض، الذي شكل ليلة الانضمام إلى التشكيل الوزاري في موقع لم يكن يعرفه. إنه يفسر ذلك بأنه شعر بأن المهمة “واجب وطني”، وأنه قد اجتذبه ما فيها من تحد غير مألوف، لكنه يستعيد في موضع آخر أمنية قديمة لوالده لم يقدر لها أن تتحقق، فقد كان جده رئيسًا للوزراء ووزيرًا للخارجية وكان عمه وزيرًا للخارجية، في الفترة ما بين الحربين العالميتين، وشغل أحد أعمامه الآخرين منصبًا مماثلاً. بين أعوام 1914 و 1922. وقد ظل أبوه يدفعه إلى الدخول في مجال العمل السياسي، وعندما عاد من فرنسا بعد حصوله على الدكتوراه سخر والده من عزمه على التفرغ للبحث والتدريس ثم جاءت الثورة، فغيرت المسرح الاجتماعي ، ولم تعد أسرته تتعلق بمثل هذه الطموحات ، وعندما تجدد الطموح فجأة ، تشبّث به، وقبل أن يلعب دوره الذي ينطوي على تحدّ، وعلى مخاطر، ثم انفتحت شهية هذا الطموح لمنصب وزير الخارجية ، الذي ظل يكافح للحصول عليه، ولكن السادات خذله أكثر من مرة، بعد أن وعده به، وعندما فاتح رئيس الوزراء ذات مرة في وعد السادات له بمنصب وزير الخارجية، قال له أنه سأل السادات وأنه أخبره بأنه لم يعد بذلك مطلقاً، وضغط بطرس غالي على شفتيه، ومنع نفسه من أن يقول لرئيس الوزراء: “إما ان أكون كاذبًا ، وإما أن يكون الرئيس كاذبًا “، فقد أنعش هذا الوعد روحه لأسابيع، وأرّقه وألمه لسنين، لقد كتبت قبل ذلك عن بعض مظاهر تلك الازدواجية التي عاشها د. بطرس غالي في موقعه بين رؤية وفهم الأكاديمي وبين متطلبات وضرورات دور الموظف العام ، وقلت أن الموظف العام قد انتصر أغلب الوقت على الأكاديمي، وصادره، ولم يسمح له أن يتنفس حضورًا أو تأثيرًا. لقد استشعر الصدمة مبكرًا فعندما حاول أن يعطي مجلس الوزراء درسًا في العلاقات الدولية كما لو كان قد عاد إلى قاعة المحاضرات، اكتشف أنه يتلقى دروسًا في كيمياء الحياة في دوائر الحكم العليا، واضطر إلى أن يعيش أوضاعًا يصعب عليه استعادتها دون غضب. كان بعيدًا عن الدوائر المحيطة بالرئيس، واضطر إلى أن يوطد علاقته بموسى صبري ليصبح خط اتصاله بالسادات، وبعد أن اكتسب خبرة في وضعه الجديد، عرف أن الطريق الفعَال لاكتساب المعلومات يأتي من خلال المصادر غير الحكومية، فالسادات لا يحرص على إطلاع مستشاريه على الحقائق ، أما زملاؤه فيعتبرون المعلومات مصدرًا للقوة، وبالتالي يكتنزونها، واضطر إلى أن يؤم طرقًا جانبية للحصول على المعلومات، ولهذا كان دائب المفاجأة،لأن رصيده من المعلومات لم يكن يتيح له أن يتلمس بدقة موضع الخطوة التالية. في لقاء مع السفير الإيراني بالقاهرة اكتشف أن اتفاقًا قد أبرم بين السادات وشاه إيران على أن تقوم إيران بمد السلاح في صراعها ضد أثيوبيا ، ورغم خطورة القرار ، ودخوله في صلب مسئولياته فقد عرفه من مصدر أجنبي. كان ذلك باعثًا له على الضيق، ولكنه لم يكن باعثًا على التمرد، فكلما واجه مشكلة من هذا النوع، التف حولها، وأصبح ذلك سبيله إلى تجنب الصدام.

(4)
ربما يعاتبنى بعض تلاميذ ومريدي د. بطرس غالي على أنني قلت عنه أن الموظف العام قد انتصر في إهاب شخصيته على الأكاديمي ، وربما يرون في ذلك تجريدًا متعسفًا لكثير من مواقف د.بطرس غالي من بعدها الفكري والسياسي.
والحقيقة أنني – أولاً – لم أختلق حالة جنوح الأكاديمي في بركة الموظف، لكن د. بطرس غالي قد شخصها بنفسه، عندما بدى لذاته وقد استعاد صوته كأستاذ للقانون الدولي، في مجلس الوزراء .وتحول المجلس أمامه إلى قاعة محاضرات، ثم اكتشف مباشرة أن المجلس قد لقّنه درسًا في كيمياء العلاقات في دوائر الحكم العليا. وتأكد من هذه اللحظة أن على الأكاديمي أن يخبئ نفسه داخل ضلوعه، وأن يقنع بالتحول أحيانًا ، وبالقلق أحيانًا، وبتوزيع تأملاته وقلقه على نفسه وحده.
.. ثم إنني – ثانيًا – حاولت وبشكل تلقائي، وربما تحت تأثير وهج الأكاديمي في رأسي، أن أجد له مبررًا يحول دون اتهامه بما قد يكون دور الموظف العام ، قابلاً لأن يتهم به. لقد كان الأكاديمي مغيبًا ، وكان بعيدًا وكان معزولاً في المناخ الخانق الذي أحاط به ، وقد تصرف الموظف العام وحده، وعليه تقع المسئولية، وفي تصرفاته يمكن للاتهامات أن تجد مكانًا. بل لقد أحس دبلوماسي وأكاديمي أمريكي آخر هو هيرمان إيلتس، بأزمة الأكاديمي المصري ، وواجه منذ اللحظة الأولى بمخاوفه متسائلاً: هل ستتمكن من المحافظة على مصداقيتك واحترامك؟ ومضيفًا بحروف ضاغطة: “لا يجوز للوزير أن يتخلى عن الباحث”، ولذلك فإن الأكاديمي الذي استيقظ وأعلن عن حضوره في أوراق د.بطرس غالي هو الذي اخذ يحفر بدأب وعمق خطًا دفاعيًا ذاتيًا عن صاحبه، منذ السطور الأولى من شهادته. ففي المقدمة يقول أنه يعرض صورة الدبلوماسي المصري في ذلك الوقت واضطراره لأن يتصرف معتمدًا على ما كان يعرفه في وقت اتخاذ القرار، وأن القصة الواردة هنا لا تمضي إلى أبعد مما عرفه أو اعتقده في ذلك الوقت، ولكنها اعتذارية مستقبلية واضحة ، لا يقدمها أو يتقدم عليها غير أكاديمي ممنهج.. لكن هذه الاعتزارية عبّرت عن نفسها في أكثر من شكل وأسلوب بعد ذلك ، ربما منذ اللحظة الأولى لزيارة الكنيسيت الإسرائيلي ثم ارتفع صوتها أكثر فأكثر في مفاوضات كامب ديفيد، ثم تحوّل الصوت إلى نشيد، كأنه النشيج في الاسماعيلية وبلير هاوس، وفي اللحظات الأخيرة لتدبيج المعاهدة المصرية – الإسرائيلية، لكنه ظل صوتًا مكتومًا، رغم أنه مشبّع بالقلق والمخاوف. لقد أخذ صوت “جان فرانسواه بوانسيه”، سكرتير عام الرئاسة الفرنسي. يرن في أذنيه: “إذا لم تتمكن من الوصول إلى اتفاق بشأن الفلسطينيين قبل توقيع المعاهدة المصرية – الإسرائيلية فكن على ثقة أنك لن تحصل على شيء فيما بعد من الإسرائيليين”.. ولذلك أخذ يكرر لنفسه :”إن المعاهدة ينبغي الاّ تُوقّع قبل الحصول على حق تقرير المصير للفلسطينيين “. بل إنه كتب في يومياته بخط واضح، أمام ما رآه من تعجل السادات ، وتخطيه لمساعديه، وتركيزه على الانسحاب من سيناء: “إنني على يقين من أنه لا يمكن لأية معاهدة سلام أن تدوم إلا إذا تضمنت تدابير لحقوق الفلسطينيين، حدها الأدنى تقرير المصير”. وحتى في اللحظات الحاسمة، وعندما وافق السادات على وثيقة مصالحة، لم يعرف عنها أحد من أعضاء الوفد المصري شيئًا، برّر موقفة بأنه وقّع لأنه كان على يقين من أن بيجين لن يوقِّع، وظلّ يعتقد أن انسحابًا متزامنًا على كافة الجبهات يربط الانسحاب من سيناء بالانسحاب من غزة والضفة الغربية ، كان يمكن تحقيقه في كامب ديفيد، لو أن السادات أصر على ذلك.. لقد كان المشروع الأمريكي – كما يقول – مضطربًا ، وسلسلة من الحلول الوسط، وغير مترابط الأجزاء، الأمر الذي يعني أن مصر قد تتهم بتوقيع سلام منفصل، وبأنها تخلت عن العرب، لكن السادات بدا غافلاً عن ردود الفعل العربية . “وكنت أخشى من أن الأمريكان يخدعون أنفسهم، وأن السادات بدوره سوف يخدع العرب” غير أن د. بطرس غالى لم يذهب مرة واحدة إلى السادات ليقدم معارضة متماسكة لموقفة المتداعي، فكلما انتابته المخاوف من هذا الصلح المنفرد، ومن ضياع الحقوق الفلسطينية ، كان يذهب إلى أعضاء الوفد الأمريكي أو الوفد الإسرائيلي، ليحاول إقناعه بضرورة الربط بين الانسحاب من سيناء ، والانسحاب من غزة والضفة الغربية ، حاول أن يقنع عزرا وايزمان مرات ، وحاول أن يقنع موشي ديّان مرات، وحاول ذلك مرات أخرى مع برجنسكي ، فقد قال له أن الاتفاقية دون غزة والضفة الغربية ستصبح بلا محتوى ، وأنه لا يستبعد انهيار النظام المصري ، وحين ذهب في رجاء أخير إلى إيلتس، يحثّه على الربط بين الانسحاب من سيناء والانسحاب من الضفة وغزة ، قال له ضجرًا: “إن أي اقتراح ينبغي أن يأتي من السادات ” . وهكذا حرّضه على أن يذهب إلى السادات ، ولكنه لم يفعل ولم يعترض . وفي خضم الوقائع كلها ، لم يعارض السادات سوى مرة واحدة حين أمر الوفد المصري بحزم حقائبه لمغادرة الكامب، بعد اختناق المفاوضات، فقد ألحّ على السادات في البقاء واستكمال المفاوضات واستشاط السادات غاضبًا وقال له: “إنك لا تفهم شيئًا في السياسة” .. وحتى عندما طلب منه السادات أن يسير إلى جواره وهو يمارس رياضة المشي في كامب ديفيد، وتحدث إليه، وكأنه يلقي خطابًا إلى نفسه ، على أنه سيحصل على غزة وسيعطيها هدية للملك حسين ، ليكون له منفذ على البحر الأبيض، الأمر الذي سيسعده وينضم إلى المفاوضات، لم يعلق على ما قاله السادات ولم يرفض أو يعترض. رغم أن الأكاديمي والديبلوماسي في داخله، كانا في لحظة واحدة رافضة ، وهكذا كلما أمعن السادات في الانقلاب على مواقف عصابة الخارجية المصرية ، ورتّب من وراء ظهورها شيئًا غير ما اتفقوا عليه ، سعى بطرس غالي إلى شخصية أمريكية أو إسرائيلية، يستدر عواطفها النبيلة ، لكي تسعى إلى إيجاد ربط بين اتفاقية مصرية ، وإطار عربي ، ولم يكن ذلك هو موقف الأكاديمي دون ريب، ولكنه كان موقف الموظف العام الذي حاول أن يهدىء ابراهيم كامل وزير الخارجية عند انهياره ، بمنطقه الخاص، لقد قال له: أن دور الوفد المصري ثانوي لأن القرار في النهاية قرار سياسي وسيتم اتخاذه سواء شاءوا أم أبوا “إن علينا أن نقدم مشورتنا للرئيس غير أن القرار النهائي له” وعندما احتدم الخلاف بين ابراهيم كامل والرئيس وكان كامل على حق – كما يقول غالي بصدق- ولكنه لم يتمكن من عرض مواقفه بفاعلية ، “حاولنا ان نتدخل إلى جانب كامل، لكن السادات لوح لنا بالسكوت”، فسكتوا!لقد كان يستطيع دائمًا أن يخرج من أهاب موقف إلى آخر، ومن انفعال حاد إلى نقيضه الهادئ، ومن توهج إلى انطفاء، ولذلك فهو يشتعل غضبًا بسرعة ، ولكنه نادر التذمّر، وغير مناور ، في أحد مؤتمرات القمة الأفريقية أبلغه فوزي عبد الحافظ – سكرتير السادات برسالة وصفها بأنها مهمة ، وكانت الرسالة عبارة عن إسناد دور إضافي له إلى جانب الرئيس ، يتلخص في أن عليه ألا ينسى أن يأخذ معه من فوق المنضدة، كيس تبغ الرئيس ، بعد انتهاء الجلسة الافتتاحية ورغم أنه أدرك أن كيس التبغ والغليون لهما عند سكرتير الرئيس أهمية تتجاوز بكثير قرارات المؤتمر – لكنه رغم ذلك – قبل بالمهمة التي أوكلها إليه السكرتير وتذكرها في اللحظة ألأخيرة ، وبحث عن كيس التبغ والغليون ليحملهما معه ، ولكنه تأخر في التقاطهما ، الأمر الذي لم يعجب السكرتير ، فاندفع وانتزعهما منه بشدة ولم يجد غالي تفسيرًا لسلوك السكرتير الخشن معه، إلا أنه رآه غير جدير بهذه المسئولية ، كانت المهمة تدخل في سياق دور الموظف العام ، وكان الأكاديمي ينوء بحملها ، دون أن يغضب أو يتمرد… في لحظة توهج الأكاديمي كتب بطرس غالي :”أنني لم أستطع ان أقبل واقعية السادات أو أفهمها بشكل كامل “. وفي لحظات حرجة من المفاوضات كتب يقول : “إنني أثق في وطنية السادات ، وأثق في ذكائه، ولكنني لا أثق في توازنه” ، وبمقدور المرء أن يكرر من واقع أوراق د. بطرس غالي ، التقييم نفسه ، :أنه يثق في وطنية بطرس غالي ، ويثق في ذكائه ولكنه – أيضًا – لا يثق في توازنه !

(5)
إذا ما جمعنا بقع الألوان الخاصة بالرئيس السادات ، والتي تركتها ريشة بطرس غالي في عمق وجوانب لوحته المركبة “الطريق إلى القدس”، وأعدنا من خلالها رسم صورة شخصية له لانتهينا إلى قناعة مؤداها أنه إذا كان ثمة بطولة حقيقية في بناء هذه الشخصية وسلوكها خلال تلك الرحلة فقد كانت قاصرة على بعد واحد ، هو الإعلان عن نفسها في مواجهة بقية المسئولين المصريين ، لكن أثرًا واحدًا لهذه البطولة يصعب العثور عليه لا في علاقاته مع بيجن أو كارتر، أو في نمط التفاوض الذي ابتكره وفرضه على الخارجية المصرية ، أو في دفعه لصياغة علاقات مصر على الساحة الدولية ، ودورها الإقليمي والدولي ، بمعنى آخر فإنه يمكن وصف الدور وصاحبه بالبطولة ، على أساس أنه احتكر كل شيء لنفسه: الكلمة والدور والتصور والقرار، فقد ملأ جوانب المسرح السياسي ، وأعاد بناء الحبكة الدرامية مرات وفق تصوره ، وقام إلى جانب ذلك بدور المخرج ، وجميع الممثلين ، ولم يسمح لأحد بأن يرفع صوته. أو أن تزيد حركته عن حدود ” الكومبارس”، التي تعمّق تداخلاته الصوتية المتقطعة، انسياب تيار الدراما ، مثلما أراده البطل ، المؤلف، المخرج. إنني لا أتحدث عن وجهة نظر ذاتية، فدوري الوحيد هو إعادة تركيب بقع الألوان التي تركتها ريشة بطرس غالي ، لبناء صورة شخصية ، وهي عملية قد لا تزيد عن لعبة تكوين الصور المعروفة في محلات لعب الأطفال باسم (بازل) . لقد كان هذا الدور ينعكس ضيقًا على بطرس أحيانًا ، وتذمرًا ، وفزعًا أحيانًا ، ويأسا في أحيان كثيرة ، لكنه لم يكن يتصادم مع قناعة بطرس النظرية ، التي ظلت ترى أن الفرد وحده هو المحرك الأساسي للتاريخ ، وربما لهذا السبب لم يخرج عن مداره المحدد حول النواة أو “البروتون” ، لقد قال له صديقه الباحث المرموق د. مجدي وهبة، في الليلة السابقة لمصرع السادات ، وهو يحاول أن يُخرج بخاره المكتوم: “إنك في السلطة، ولكنك معزول في برج عاجيّ. لقد فقدت كل اتصال مع الواقع السياسي”. وقد كانت رؤية مجدي وهبة دقيقة وأمينة، فقد كان بطرس غالي ما يزال يحاول أن يرمم جسور مصر الخارجية التي انهارت، دون أن يستبصر انهيار دعامتها الداخلية أيضًا ، في ذلك الخريف المصري الغاضب. غير أن الحقيقة أن الرئيس السادات نفسه كان يتنفس في كل أفعاله وأقواله نظرية الفرد، باعتباره صانعًا فرداً للتاريخ ولذلك كانت رهاناته فردية الطابع. كان رهانه إسرائيليًا على مناحم بيجن شخصيًا، فقد ظل يؤمن أن قوة إسرائيل السياسية تنبع منه ومن يهود الشتات . فقبل منه ما يصعب قبوله. وكان رهانه أمريكيًا على الرئيس كارتر شخصيًا ، الذي سيفرض على إسرائيل تصوره عندما يعاد انتخابه لفترة رئاسة أمريكية تالية ، ولقد عالج صدمته بعدم إعادة انتخاب كارتر، بإعادة التعبير عن أحاسيسه الداخلية بشكل مقلوب. لقد قال له بطرس غالي في نوفمبر 1980أنه “من المحتمل ألا يُعاد انتخاب كارتر”، وغضب السادات وقال له: “إنك تنصت دائمًا إلى الشائعات وتعتبرها حقيقية”، مؤكدًا قناعة قديمة ومتجددة له : “عندما يُعاد انتخاب كارتر سيحصل لنا على تنازلات من الإسرائيليين ، ويحل جميع مشاكلنا “. ثم عقّب مؤنبًا وزيره المتشائم: “لابد أن تتعلم كيف تنظر يا بطرس”. لكنه حين تلقى نبأ هزيمة كارتر ارتدى ثياب العرّاف ، وهمس في أذن وزيره: “تعرف يا بطرس، كنت أعلم أنه لن يُعاد انتخابه”، ولم يكن السادات مؤمنًا بدور الفردفقط..في صناعة التاريخ، ولكنه كان على يقين أنه شخصيًا يرتدي قميص هذا الفرد، ولعل ذكاء بطرس غالي مكّنه من اقتحام هذه المساحة المغلقة ، فأمام مظاهر نفور متصل بين السادات وموشي ديان. اقترح بطرس على ديان لكي يكسب ودّ السادات، أن يبدأ لقاءه بسؤال عن مبادرته التاريخية ، ومتى راودته فكرتها بالضبط ، وأصابت خطة بطرس نجاحًا سريعًا ، فقد ابتسم السادات في وجه ديان ابتسامة عريضة عندما طرح سؤاله، وقال له بحرارة أن الفكرة جاءته أول مرة عندما كان مسافرًا بالطائرة لزيارة الشاه ، لكن خطة النجاح كادت أن تتحول إلى فشل ذريع، فقد خيبت الإجابة أمل ديان . لأنه وهو المشبع بنزوعه الفردي أيضًا ، كان يتصور أن إجابة السادات ستضع زيارته السرية للرباط (سبتمبر 1977)، كأصل لزيارة السادات إلى القدس. واصطدمت الأدوار المعلّقة في التاريخ. بنزعات أصحابها الذاتية . ومنذ اللحظة الأولى لزيارة إسرائيل، وزّع السادات حبوب تفاؤله على الجميع ، فقد كان على يقين أن مجرد الزيارة سوف تحل المشكلة، وأن الحل قابع في انتظاره عند أقرب منحنى خارج مطار بن جوريون . لكن تفاؤل مرافقيه لم يصمد سوى سويعات قليلة، وكان أسرع الجميع إحساسًا بالخيبة المبكرة د.مصطفى خليل، لقد غاص في نفسه ثم طرح على عزرا وايزمان سؤالاً حول مائدة الاتصال الأولى ، في تل أبيب : هل تملكون حقًا قنبلة ذرية ؟”ودار وايزمان حول المائدة، وملأ كوبه ثلجًا ، وكأن أذناه لم تلتقط صوتًا، وعلى متن طائرة العودة همس د. مصطفى خليل هذه المرة في أذن بطرس غالي :”هل تعتقد أنهم سيعيدون إلينا القدس”، ثم استطرد دون أن ينتظر إجابة : “أخشى أن أقول أن القدس قد ضاعت من العرب”. ولم يجد بطرس غالي بديلاً عن أن يطيب خاطره بإجابة ميتافيزيقية :”في نهاية الطريق الذي يتجاوز القدس سوف نجد القدس” كان يتحدث عن حتمية تاريخية ، رغم أنه أكثر الأكاديميين تعبيرًا عن عدم إيمانه وفزعه من الحتميات ، وكان ذلك طبيعيًا ، فعندما لا تسعفنا الأيديولوجية التي نؤمن بها ، نفتّش عن حل في الميتافيزيقا قد لا التي نؤمن بها. وبينما كان السادات يرى أن بيجن هو مصدر قوة إسرائيل وبالتالي مصدر السلام المنشود، كان بطرس يراه شخصية صخرية ، متحجرّة ، عدوانية ، وأنه خطر على السلام، وفي مساحة التنافر بين بطرس وبيجن، تدخل السادات دائمًا لقمع وزيره بشكل خشن، استرضاء لرئيس وزراء إسرائيل ، لقد رأى بطرس بعد أن تعددت اجتماعات لجان مفاوضات الحكم الذاتي دون إحراز أي تقدّم ، أن الإسرائيليين يغلقون تمامًا باب حل القضية الفلسطينية، وأن المباحثات أصبحت تشبه مسرحية لـ “برانديللو”، ست شخصيات تبحث عن مؤلف، الجميع يؤدون دورهم بلا سيناريو ، فالغرض من المسرحية هوكسب الوقت، وإخفاء الحقيقة المؤلمة ، وهو أنه لا توجد نية لحل القضية الفلسطينية، بعدها أعطى غالي تصريحًا لـ “جروزاليم بوست” قال فيه: “أن معاهدة السلام ستكون طلقة كاذبة إذا لم تحل القضية الفلسطينية”. والتقطت “مونت كارلو” التصريح، وقالت أن غالي يستنكر موقف إسرائيل السلبي من الفلسطينيين، وفوجئ غالي – أولاً – بإبراهيم نافع يتصل به ليخبره بغضب السادات من تصريحه، ثم فوجئ – ثانيًا – باستبعاده من المباحثات عند وصول بيجين، ثم فوجئ – ثالثًا – عند لقائه بالصحفيين الإسرائيليين أنهم يقولون له أن بيجن طلب من السادات استبعاده من المفاوضات ، وأن السادات وعده بأن يشد أذنه ويبعده عن عملية السلام. ثم أضافوا أنه سيتم استبعاده من التعديل الوزاري القريب. وأحس بطرس بانتصار بيجن، وقرب النهاية ، وبادر للمرة الأولى باستخدام الأسلوب المفضل للسادات ، البدء بالهجوم، قال للسادات: “إن الصحفيين الإسرائيليين أبلغوه بأنه – أي السادات – قد قدم تنازلات جديدة من أجل الإسراع بعملية التطبيع ، وأن الخطوط الجوية ستبدأ رحلتها بين البلدين “. ثم أضاف: ” غير أننا لم نحقق أي تقدم يتعلق بالقضية الفلسطينية”. وطور السادات هجومه المضاد بسرعة: “لقد تعيّن علىّ أن أقدم هذه التنازلات لكي أحِد من الأضرار الناجمة عن تصريحاتك الأخيرة للصحافة الدولية”. ثم أضاف بشكل قاطع: “إنني أطلب منك التوقف عن إعطاء أحاديث” بعدها بدا السادات ودودًا في الجلسة نفسها، لكن غالي قال لنفسه: “إنني أعرف السادات جيدًا ، وأن هذا السلوك الودي لن يعني شيئًا، وعندما تتطلب مصالحه استبعادي من الوزارة ، فلن يتردد”. ولم ينس السادات ما قاله لغالي استرضاءً لبيجن، بل يبدو أنه استمتع بتكراره ، فكرره مرة ثانية بشكل أكثر خشونة على مسمع “لينا” زوجته، فعندما رآها بعد ذلك قال لها بالحرف الواحد: “قولي لبطرس أقفل بقك”، ولم يكف السادات عن إعلان ثقته في بيجين ، وفي التزامه بنجاح مفاوضات الحكم الذاتي، وفي أن السلام سيظلل رؤوس الجميع ، وكان منفردًا فيما يبدو – أيضًا- بهذه الثقة. لقد جاء يوسف بورج إلى القاهرة وفي مبنى رئاسة الوزراء ، وأمام د.مصطفى خليل – رئيس الوزراء – توقف بورج فجأة عن الكلام وأسود وجهه، ثم أصبح في صفرة الليمون، ووضع يده على قلبه وهو يشكو من آلام مبرحة .
وفوجئ بطرس غالي بمصطفى خليل يقول له بقلق واضح: “يبدو أن الرجل يعاني من أزمة قلبية ، أخرجه من مكتبي، فإذا كان سيموت هنا معنا بدون شهود فأنهم قد يتهموننا بفعل ذلك” كان رئيس وزراء مصر يتوقع أن تتهمه إسرائيل بقتل وزير إسرائيلي ، فاجأته أزمة قلبية في مكتبه!

(6)
بعد ساعات من وصول الرئيس أنور السادات “تل أبيب” ارتأى الإسرائيلييون, أن يصدر بيان مشترك عن الزيارة, وحين تحلق المساعدون لوضع صيغة البيان, أصر أحد مرافقى السادات على أن تتضمن ديباجته, وصفًا للزيارة بأنها “زيارة سماوية” ولم يرق ذلك الوصف لأحد الإسرائيليين, فاستبدله بكلمة: “زيارة مباركة” لكن الوصف الجديد لم يرق أيضًا لمناحم بيجن, فأعطى المسودة للرئيس السادات, كى ينتقى الوصف الذى يراه مناسبًا لزيارته, فشطب كلمة “المباركة”, وألحق بالزيارة الوصف الذى اختاره بنفسه لها وهو “زيارة شجاعة” منذ ذلك الحين تحول وصف الرئيس السادات لزيارته إلى تعبير رسمى شائع. وكما اختار الرئيس السادات بنفسه وصف الزيارة, اختار بنفسه -أيضًا- الطريقة التى يجهضها بها, قبل أن تأخذ طائرته, مسار العودة إلى القاهرة. فقد قدم ثلاث تنازلات ذات طبيعة استراتيجية, على نحو مجانى, دون أن يحصل على أىّ مقابل لها, أو لزيارته من الطرف الآخر. ولم يقدر لأحد من مرافقى الرئيس السادات أن يعرف فحوى هذه التنازلات, إلا عندما حولها الإسرائيلييون إلى لحن افتتاحى, لكل حلقة تفاوضية تالية, بل أخذ مناحم بيجن, يكررها على مسامع الرئيس كارتر كلما ضمهما لقاء. لقد تجاهلت أوراق د. بطرس غالى الإشارة من قريب أو بعيد إلى هذه التنازلات المبكرة وذات الطبيعة الاستراتيجية, سواء عند حديثه عن وقائع الزيارة, أو عن رحلته الخشنة مع المفاوضات التالية عليها. ولا أستطيع الجزم بأنها من المسكوت عنه, فى شهادته عن قصد, أو أنها مؤجلة مع الأوراق الأصلية التى أوصى بنشرها بعد سنين عشر من رحيله , أم أن وقائعها كانت بعيده عن طبيعة دوره. وإذا قفزنا من أوراق د. بطرس غالى إلى اوراق موشى ديان, أو عيزرا وايزمان, أو كارتر نفسه, فسوف نجد تحديدًا دقيقًا لما قدمه الرئيس السادات مجانًا, بعد ساعات من وصوله, وخلال جلسة مباحثات يتيمة منفردة مع مناحم بيجن, وهى جلسة ليس ثمة محضر تسجيل لها, ربما لأن بيجن نفسه لم يكن يتصور حجم وطبيعة العطايا التى سيقدمها الطرف الآخر, فى غمرة اللقاء العاطفى الأول, لكنه أكد , بالقول مستعرضًا الإنجازات التى تمت: “لقد توصلنا فى القدس إلى اتفاق بنزع سلاح سيناء من الممرات حتى الحدود الدولية”. ووفقًا لمذكرات موشى ديان, فإن السادات وبيجن فى لقائهما المنفرد اليتيم “قد توصلا إلى ثلاثة مبادئ هى:
“1- لا حروب أخرى بين البلدين”.
“2- إعادة السيادة المصرية على شبه جزيرة سيناء”.(وحسب تعبير الإسرائيليين فإن السادات قد عجز عن فهم الفرق الدقيق بين إعادة سيناء كلها ، والتعبير الذى استخدمه بيجن وهو إعادة السيادة عليها, وظل تناقض الفهمين محور خلاف ملتهب لشهور طويلة بسبب تمسك الإسرائيليين بأن وعد بيجن لا يعنى إخلاء المستوطنات أو المطارات العسكرية)
“3- نزع سلاح معظم سيناء, مع ترك قوات مصرية محدودة تتمركز فى المنطقة المجاورة لقناة السويس, وأن يشمل نزع السلاح, ممرى متلا والجدى”.
وقد أضاف “ديان” بنفسه, وهو يقدم فى مذكراته أعقاب زيارة الكنيسيت, تنازلاً ثالثًا وهو موافقة السادات على اعتبار مضائق تيران من الممرات الملاحية الدولية, ولكن الأهم أن الإسرائيليين حولوا ما قدمه السادات فى زيارته للقدس إلى قاعدة ثابته لبناء تصورهم للسلام عليها, ويقول (ديان): إنه فى هذا اللقاء الذى عقد بطلب من السادات تم إيصاله إلى إسرائيل عن طريق السفارة الأمريكية فى القاهرة. أن” الورقة التى قدمتها كانت توضح بجلاء أن الأفكار المتضمنه فيها ترتكز على افتراض عقد معاهدة سلام كاملة بين مصر وإسرائيل, وأن يتم عقد هذه المعاهدة بسرعة, وألا يكون عقدها مشروطًا بعقد معاهدات سلام أخرى بيننا وبين الدول العربية الأخرى, وكانت الآراء التى تضمنتها الورقة, ترتكز على التزامين تعد بهما الرئيس السادات لرئيس الوزراء بيجن فى أثناء محادثاتهما فى القدس, وهما إذا انسحبت إسرائيل من سيناء, فإن السادات سوف يعلن أن مضائق شرم الشيخ تعتبر من الممرات الملاحية الدولية, وأن يتم نزع سلاح كل المنطقة الواقعة شرقى ممرىّ متلا والجدى “لقد ترك ديان ورقته السابقة فى أيدى التهامى” ثم حاول ان يتتبع رد فعل الرئيس السادات عليها, وكانت فرحته غامرة حين تبين أنه إيجابى, فعندما وصل سايروس فانس إلى إسرائيل قادمًا من مصر, تعمد ديان أن يسأله بوضوح عن ذلك: ” .. وران- كما يقول ديان- صمت محمّل بالحرج, ثم قال أحد مرافقى الوزير الأمريكى وهو يختار كلماته بعناية فائقة, أنه تولد لديهم انطباع فى أثناء مباحثاتهم مع الرئيس السادات بأنه تقبل المقترحات الإسرائيلية بوصفها نقطة انطلاق إلى المفاوضات” ويضيف ديان بأنه أحس بارتياح بالغ واختلس النظر إلى كاتب محضر الجلسة ليتأكد من قيامه بتسجيل هذه النقطة ، والحقيقة أنه قبل أن تبدأ المفاوضات الأساسية قبل الوصول إلى عتبات كامب ديفيد, كان الرئيس السادات يضيف إلى قائمة تنازلاته. جديدًا, كان أوضحه ما نقله هذه المرة إلى الرئيس كارتر كما دونه الأخير فى مذكراته -عن موقفه من قضية القدس- بألفاظ كارتر” .. ورغم أنه, -أى السادات- لم يكن يريد تقسيم القدس- بمعنى لا قدس شرقية أو غربية- فقد قال أنه يجب ان تكون هناك سيادة مشتركة على المنطقة التى توجد بها مواقع دينية”, ولذلك كان الرئيس السادات, صادقًا تماما وهو يقول للرئيس كارتر كما دون فى مذكراته أيضًا- ” إن مصر قد أعطت إسرائيل كل ما كانت تحلم به”, وحسب أوراق “فانس” فإن السادات أضاف إلى كارتر تنازلاً واضحًا جديدًا, “وهو أنه لا يصر على إقامة دولة فلسطينية”.
وعلى عكس البهجة التى سرت فى أوصال الإسرائيليين منذ لحظات الزيارة الأولى , مع فيضان التنازلات المجانية, فإن الإحباط والكآبة تحولا إلا زاد للطرف الآخر, منذ أول مائدة احتفال مدت كأنها كمين فى أحد فنادق القدس. على طرف المائدة قال بيجن -وفق شهادة ديان- “إن المشكلات التى أمامنا عديدة ومعقدة, وإننا لذلك يجب ان نحدد أسلوبًا وآلية لسير المناقشات وعندها بدت على السادات خيبة الأمل”. شئ من ذلك ذكره وايزمان فقد دخل إلى مائدة الاحتفال, وألقى نظرة على الحضور “كان يبدو أن جميع الجالسين على المائدة, كما لو كانوا قد عادوا لتوهم من تشييع أحد الجنازات”,” وحاولت ان أراقب السادات دون ان يلحظ ذلك. كأنه يبدو خائر العزم, مقطوع الرجاء”.

(7)
قال لي صاحبى وهو يحاورني:
لماذا تسفك كل هذا الحبر ن لتعيد مراجعة وقائع تاريخ استدارت فصوله إلى الوراء . رغم أنك كررت أكثر من مرة أن جزءًا من أزمة العلاقة بين القوى السياسية المختلفة في بلادنا أنها تحولت إلى ثارات في التاريخ. وبالتالي أصبحت معنى من مفهوم أوسع لسلفية جديدة . تبدو كأنها ميراث هذا التاريخ لأجياله الصاعدة..

قلت لصاحبي :
فوق أننا ما نزال نعيش أسرى إشكالية هذا التاريخ، فإن المراجعة النقدية ليست أداة لإشعال الفتن وإنما هي منهجية عقلانية لإطفائها.. إننا لانريد أن نتخاصم حول طائر أسطوري اسمه العنقاء ، أو كائن خرافي اسمه الغول، وإنما نريد ان نرسم صورة دقيقة تفصل الواقع عن الوهم، والحقيقة عن الأسطورة. وتفرز الزبد الذي يذهب، مما ينفع الناس . يمكننا – مثلاً – أن نقطع الشك باليقين ، من خطأ تلك المقولة التي حقنت بها أجيال كاملة عن إشكالية الصراع العربي – الإسرائيلي ،وأنها إنما تعود إلى وجود جدار نفسي قائم بين ضفتيه. وإن هدم الجدار النفسي ، سوف يشجع الجانب الآخر على أن يندمج اندماجًا طبيعيًا في نسيج الشرق الأوسط، لأن صور مخاوفه التاريخية لن تجد جدارًا تعلق نفسها فوقه.
لكننا نستطيع أن نرى بوضوح الآن ، أننا كلما هدمنا جدارًا نفسيًا ، انتصبت مكانه عدة جدران، وكأنها مصنوعة من نباتات شيطانية ، تتكاثر بالانقسام ، وتزداد تكاثرًا كلما قطعتها يد.
ويمكننا – مثلاً – أن نقطع الشك باليقين ، من خطأ تلك الرؤية التي ظلت تزعم أنه كلما أبحرت مراكب الطمأنة من ضفتنا إلى الضفة الأخرى، محملة بهدايا القبول، وأعطيات التنازل، أصبح الواقفون هناك أكثر إقدامًا واستعدادًا للموافقة على صيغ عادلة لإقامة السلام.
لقد ساد هذان الفهمان منذ العتبة الأولى التي هبطها الرئيس السادات ، في الطريق إلى القدس . فقد أراد أن يشبع الطمأنينة في وجدان الطرف الآخر، فأعطاه ما أراد، على حد تعبيره هو نفسه للرئيس كارتر ، لكن الفهم لم يكن قابلاً للشبع، أو الانطفاء، فمع كل تنازل جديد بدت شهية الطرف الآخر مفتوحة أكثر لمزيد من التنازلات.
إن بطرس غالي فد تحدث في أوراقه عن رحلته بالسيارة إلى فندق الملك داود بصحبة موشي ديان دون أن يغفل شيئًا من حديثه، ولكنه أغفل أشياء من حديث ديان . يقول الأخير فى مذكراته ( الأختراق ) أن د.غالي قال له: “أن على مصر أن تتفادى عقد صلح منفرد معنا مهما كان الثمن ، ولذلك فإن أي ترتيب نصل إليه ينبغي أن يشمل الفلسطينيين والأردنيين أيضًا ” ، ورد ديان قائلاً: “أن على مصر أن تكون على استعداد لتوقيع اتفاق سلام معنا حتى لم يلحق بها الآخرون” ثم أضاف في مذكراته ساخرًا :” لقد أثار حديثي القلق بشكل واضح في نفس غالي ، فقد كان يؤمن أن زيارة السادات سوف تحطّم الحاجز النفسي ، وأن طيبة قلب إسرائيل سوف تدفعها إلى التراجع إلى ما خلف حدود 1967″.
ولم يكن ذلك في الحقيقة هو إيمان “غالي” وحده وإنما كان الرئيس السادات نفسه قد أعطى عقله كاملاً لهذه الفكرة ، ومن الواضح أنها ازدادت رسوخًا فيه بمرور الوقت، ولذلك أصبحت مواقفة المتتالية وكأنها مجرد تعبير عن مباراة ذهنية بينه وبين نفسه للبرهنة على صحتها ، وهذا وحده ما يفسر تحليق تلك الأجنحة الرماديّة فوق مائدة العشاء التي نصبت في الليلة الأولى بفندق الملك داود . لقد قال السادات بعد ذلك لكارتر – من واقع مذكرات كارتر – “إن الوهم قد انقشع عني تمامًا بسبب موقف بيجن السخيف”، ثم قال لعيزرا وايزمان بعد أسابيع قليلة – من واقع مذكرات وايزمان أيضًا – “عندما ذهبت إليكم في القدس كن مقتنعًا بأنكم ستفعلون شيئًا ما لإظهار تقديركم لهذه الزيارة وكنت واثقًا أنكم ستعلنون في الكنيست عن انسحابكم إلى خط العريش رأس محمد على الفور” لهذا يبدو واضحًا لماذا سيطر الوجوم على أعضاء الوفد المصري على متن طائرة العودة ولماذا همس د. مصطفى خليل في أذن غالي قائلاً : “هل تعتقد أنهم سيعيدون إلينا القدس” قبل أن يضيف دون أن ينتظر إجابة “أعتقد أن القدس قد ضاعت من العرب إلى الأبد”. غير أن هذا لم يمنع الرئيس السادات من متابعة الطرق على البوابة المغلقة ذاتها ، وكأنه يطارد فكرته ليقنعها بأن تتجسد حقيقة واقعة دون جدوى.
لقد رصدت من واقع مذكرات كارتر وديان ووايزمان وغيرهم التنازلات الدولية التي قُدمت مجانًا لطمأنة قلب إسرائيل الطيب بدءًا من القبول بنزع سلاح أغلبي شبه جزيرة سيناء وإنتهاء بالشطب على الدولة الفلسطينية ، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فقد تواصل النزيف واستمر .
لقد قال الرئيس كارتر أنه: “عندما تبين بوضوح للسادات أن أحدًا لن يحضر مؤتمر جنيف في القاهرة اقترح عقد مؤتمر في القاهرة للإعداد لمؤتمر جنيف”. ووجهت الدعوة بالفعل إلى الدول التي حضرت مؤتمر جينيف الأول ، لكن السادات على حد تعبير كاتب إسرائيلي “كان واثقًا تقريبًا منذ البداية بأن إسرائيل فقط وربما الولايات المتحدة الأمريكية هما اللتان ستوافقان على الاشتراك في المسرحية التي يقوم فيها بدور مدير المسرح” ومع ذلك لا يزال المداحون يكتبون عن الفرصة التي أضاعها العرب والفلسطينيون ، بعدم موافقتهم على الاشتراك في هذا المؤتمر، لقد اختار مناحم بيجن الياهو بن اليسار لتمثيل إسرائيل في المؤتمر وقد أعطاه ديان – وفق المصادر الإسرائيلية – ورقة حدد فيها الموضوعات التي يحظر عليه مناقشتها في القاهرة وهي ، المشكلة الفلسطينية ، التنازل أو الانسحاب من الأرض ، إعادة عقد مؤتمر جنيف، أي أن المؤتمر التحضيري لمؤتمر جنيف في القاهرة كان من بين أهدافه قطع الطريق على مؤتمر جنيف ، ولذلك لم تترك أمام بن اليسار في القاهرة قضية مفتوحة للمناقشة سوى “اتفاقية السلام مع مصر”.
ولم يكن الأمر على هذا النحو مباغتًا لأحد. فقد كان السادات وفق مذكرات ديان يعرف أن موقف الإسرائيليين يتقاطع مع فكرة عقد المؤتمر لسبب واحد ، هو الهروب من آية مرجعية دولية ملزمة بالوصول إلى صيغة اتفاق تحت رأيه الأمم المتحدة ، والحقيقة أن الرئيس السادات نفسه قد أبدى للإسرائيليين موافقة مدهشة على استئصال الأمم المتحدة ومرجعيتها من المفاوضات قبل الاتفاقيات. وعندما كان عيزرا وايزمان في ضيافته بالاسماعيلية بعد أشهر قليلة قال له بالحرف الواحد: “فيم تحتاجون إلى الأمم المتحدة وفيم نحتاج إليها ، أيا كان الاتفاق الذي سنتوصل إليه فلن نكون بحاجة إلى ألأمم المتحدة وهكذا انفرد الإسرائيليون بالمصريين ، وانفرد الأمريكيون ببناء سقف مشروعيتهم فوق المفاوضات ، ثم تبيّن بعد ذلك أنه كان سقفًا من الورق.

(8)
..أمام كثافة وعمق هذا الخط الدفاعي الذاتي في أوراق د. بطرس غالى ، لم أجد ألا أحد تفسيرين ، أما أن المذكرات كما يقول صاحبها منقولة نصا عن يومياته التي كان يدونها يوما بيوم ، وأما أنها قد تم تنقيحها في فترة تالية . لتعميق هذا الدفاع الذاتي .. ولعلى أحسن الظن بصاحبها إذا قلت إنني رضيت بالتفسير الأول ، وهى أنها منقولة بقضها وقضيضها من يومياته دون إضافة . ولكن يترتب على ذلك ضرورة البحث عن تفسير أخر لهذه الازدواجية الواضحة بين الأقوال والأفعال ، التي ليس ثمة سبيل لرفعها سوى بالتمسك بقناعة ، أن الموظف العام وحده هو الذي كان يفعل ، أما الأكاديمي فقد كان متفرغا للكتابة .
ولم أجد بدا من أن أسحب هذه القناعة إلى موقف أخر للدكتور بطرس غالى وكان عبارة عن لقاء شخصي معه في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر عام 1983فقداكتشفت إنني ذهبت أتحاور مع الأكاديمي فلم أجد غير الموظف العام .
كان اللقاء في مكتبه بوزارة الخارجية خارج الأوراق وأشرطة التسجيل وفى حضور صديق من أبرز الباحثين والمفكرين والديبلوماسيين المصريين هو السفير مخلص قطب.
قلت للدكتور بطرس غالي :”لقد كان ما كان ، حدث الخروج ثم الخلاف ثم القطيعة مع العرب . وهناك متغيرات هائلة تتراكم من كل اتجاه وهناك قيادة جديدة فى مصر ، ولذلك فإننى أتصور أن الأمر الأولى بالجهد والرعاية الآن هو عودة مصر إلى العرب. وفوجئت بالدكتور بطرس غالى يرد بنبرة مشتعلة :”وماذا تفعل مصر بالعرب ؟!”.
قلت :”إنني أتحدث من منظور الأمن القومي العربي “.
قال وقد ازدادت نبرته اشتعالا :”إنني لا أومن بشيء اسمه الأمن القومي العربي “.
قلت: “قد نختلف على التشخيص. وربما نقبل فهمًا لهذا الأمن القومي العربي ، على أساس المصلحة المصرية المباشرة من إنه أقرب حتى إلى مفهوم المجال الحيوي في النظرية النازية ، أن موازين قوتنا إقليميًا ودوليًا معلقة بهذه المنطقة”.
أضاف وهو يضغط على حروفه: “ليس هناك شيء اسمه الأمن القومي العربي إنه شيء لا وجود له” .
ورد صديقي الباحث المفكر بأدبه الجم –محاولاً أن ينقذ الأكاديمي: “كيف يا دكتور وقد كنت تقوم في الجامعة بتدريس مادة الأمن القومي العربي”. وقاطعه د.بطرس قائلاً: “أنا لم أدرس شيئًا اسمه الأمن القومي العربي مطلقًا ” وران الصمت للحظات ثم خرج د.بطرس غالي حادًا كأنه المشرط: “لا يريد العودة إلى العرب إلا هؤلاء المثقفين الذين يقبضون الأموال منهم”.
وهبّ صديقي الباحث المفكر واقفًا بكرامة موفورة ، أما أنا فقد رددت بكلمات اندهشت بعدها كيف امتصها صبر الوزير قبل الأكاديمى.
قلت أنني ذهبت للقاء الأكاديمي، فتحاورت مع الموظف العام، وقد ظللت متمسّكاً بذلك التفسير بعد قراءة الأوراق. حتى لا أتجاهل وجود مصداقية ذاتية تطل من بعض سطورها ، وفي كل الأحوال فقد كنت أحسن حظًا من (محمود رياض) الذي لم يجد ذات مرة وهو يتكلم ويحذّر، لا الأكاديمي ولا الموظف. لقد وجد د.بطرس غالي نفسه جالساَ على مقعد مجاور لمقعد السيد محمود رياض الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية في طائرة معلقة في الجو بين الكويت والقاهرة . ثم وجد محمود رياض بانفعاله الدافيء يتحدث معه بلا انقطاع عن النزاع بين مصر والعرب: بعد زيارة الكنيسيت، ويكرر مرة بعد الأخرى، أن الخلاف بين مصر والعرب هو أمر ضار جدًا للجامعة العربي وللتضامن العربي ، ويقول د.بطرس أنه حاول أن يتابع حديث أمين عام الجامعة، ولكن رغبته في النوم على المقعد المجاور بالطائرة، كانت قوية جدًا فغطّ في ثبات عميق، ولعلي أتصور بمعرفة حميمة بمحمود رياض – وهو فى تقدير أفضل وزير خارجية لمصر وأفضل أمين عام للجامعة العربية على إمتداد ستين عاماً – أن صوته العميق الغور لم يتوقف محاولاً أن يهز جاره، ويوقظه، لعله ينصت إليه.
لكن الجامعة العربية نفسها كانت اسوأ حظًا مع د.بطرس غالي من أمينها العام، فعندما تعمق الخلاف المصري العربي . وانعقدت قمة عربية دون مصر قررت نقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس. كان رأي د. بطرس ألا تسمح مصر لهذا القرار بأن يأخذ مجراه وأن تبقى الجامعة في القاهرة، على أن تعلن أن الجامعة العربية الجديدة هي منظمة أخرى مختلفة ، أي أنها منظمة إقليمية جديدة ، ولو قدر لهذا الرأي أن يُنفذ، لنشأت منظمتان إقليميتان منفصلتان، ولتوجهت الجامعة الإقليمية الجديدة في القاهرة إلى دور شرق أوسطي لا علاقة له بالعرب أو بالعروبة، ولنكسرت القاعدة أو النظام المؤسسي العربي تمامًا . وقد فسّر د.غالي تصوره بأمرين أولهما ذرائعي، وذلك بأن تحتفظ الجامعة الجديدة بوثائق الأولى وأموالها ولا تردها إلى أصحابها . وثانيهما لاهوتي فقد حدث ذات مرة أن كان هناك إثنان من البابوات أحدهما في روما والثاني في أفينتون. والحقيقة أن هذا الحس الذرائعي ناضج دائمًا في تصورات وتصرفات د. بطرس غالي بدأ من سنارة : “غزة أولاً” وانتهاء بتبرير القبول بالمادة 6 من المعاهدة المصرية الإسرائيلية.
لقد استمر يلقي سنارة غزة أولاً. منذ أول لقاء له مع موشي ديان، وحتى لقائه الخير|، كان يعرف أن موشي ديان ليس سمكة صغيرة ستجذبها سنارة غزة أولاً ، وكان يعرف أن السادات أراد غزة أولاً في البداية ليلقيها كسنارة لجذب الملك حسين ولم يكن الملك بدوره سمكة صغيرة، وقد تأكد السادات بعد ذلك من أنه يلوح بسنارة ليست في يده ، ثم تاكد أنه لن يمكنه الحصول عليها، فتوقف وتحصن بشعار سيناء أولاً لكن غالي لم يتوقف عن استخدام سنارة غزة أولاً ، في بركة من الرمال المتحركة. غير أن د. بطرس غالي لم يكشف عن عمق هذا الحس الذرائعي إلا في حوار مع يوسف بورج ، فقد تقمصّ يوسف بورج دور أستاذ في التاريخ، وتقمصّ غالي بدوره دور أستاذ في الفلسفة، وعندما علم د. غالي بالصلة التي كانت تربط بين بورج وبين الفيلسوف اليهودي (مارتن بوبر) هنأه على هذه الصلة، وكشف له عن عمق تأثره ببوبر الذي اعتبره أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين مع العلم بأن فكر بوبر نفسه لم يكن غير طبعة أوروبية من البرجماتية الأمريكية . ولعل هذا الحس الذرائعي يجد صدى عميقًا في كتابات بطرس النظرية. فقد ظل يرى فى أطروحاته أن الحياة السياسية هي عملية نسبية وأن التطور التاريخي لا يعرف الحتمية ولا يسير وفق قوانين أو أنماط أو مراحل بعينها، ولذلك فمن الطبيعى تبني سياسات توفيقية تقوم على الاعتراف بحقائق الواقع القائم. وإذا كانت الدائرة الإفريقية هي إحدى الدوائر الاستراتيجية المصرية دون شك. فإنها الدائرة الولى لديه دون منافسة. وهو إذا لم يكن معاديًا للعروبة أو لانتماء مصر العربي في كتاباته ، فهو لا يرى وزنًا لنسب مصر العربي ، ولذلك فإن الدهشة لابد أن تعتريه من دفاعه النظري الحار عن القضية الفلسطينية وحديثه المشبع بروح القتال من أجلها . وقد كتب بعد توقيع معاهدة السلام يقول :”إذا لم تتابع مصر مصالح الفلسطينيين. فإننا سنخسر زعامتنا للعالم العربي ، كما أن السلام مع إسرائيل سيحيق به الخطر”. وفي نفس يوم التوقيع على المعاهدة ، قال لول بيللو الروائي الأمريكي اليهودي : ” إذا كنا قد فشلنا في حل المشكلة الفلسطينية ، فإن المعاهدة الموقعة اليوم لن يكون لها مستقبل “. ورد عليه بيللو قائلاً: “بوصفي يهوديًا لا أستطيع أن أقبل بذلك ولكن كإنسان ينبغي أن أعترف بأنها الحقيقة: لقد عبر الكاتب الأمريكي اليهودي بدوره عن ازدواجية أخرى . ليست بين الأكاديمي والموظف، ولكن بين اليهودي والإنسان.
ورغم هذا الدفاع الحار. فإنه عندما ذهب إلى مجلس الشعب المصري ليدافع عن المعاهدة التي وصفها في أوراقه بأنها سوف تضر بمصر وتضعف تأثيرها وسأله ممتاز نصار :/ ” هل مازالت مصر. تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ؟” أجابه قائلاً: “نعم مصر تعترف بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني ، وقد تعمّد – كما يقول- ألا يذكر أنها “الممثل الوحيد” وذلك تحسبًا للمستقبل . وعندما أبرق اليه يوسف بورج بأنه من المستحيل عقد مفاوضات الحكم الذاتى بالأسكندرية فى فندق يحمل اسم فلسطين ، نقل المفاوضات الى فندق سان استيفانو الذى رأى بورج فى أسمه الجغرافى علامة طيبة . فقد كانت المدينة كلها التى يحمل الفندق اسمها ميدانا لتوقيع معاهدة غير متكافئة بين روسيا وتركيا عام 1878 . لقد فهم د .بطرس أن بورج يستعرض عضلات ثقافته التاريخية . لكن بورج كان يتحدث عن حلم قديم جديد بالتمدد فى المياه الدافئة للشرق الأوسط !

(9)
إن من حق الذين ما يزالون منحازين إلى إستراتيجية المفاوضات فى كامب ديفيد ، أن يصوغوا ما يشاءون من قصائد المديح فى الرؤية والمنهج والمنتوج ، لكننى أخشى أن أقول أن الأمر لم يعد بعد كل هذه السنوات ، أمر تأييد أو تنديد ، رفض أو قبول ، فلم يعد لأى من الموقفين نصيب من تغيير الواقع الذى كان قائماً .
ولم يعد الهدف هو التنصل من نتائجه ، أو القفز من فوقه ، أو صياغة قصائد جديدة فى الغزل أو الهجاء ، وإنما هو من البداية إلى النهاية ، تأكيد أهمية منهج المراجعة النقدية فى حياتنا السياسية بشكل عام ، وفى هذا الحيز ، فقد عمدت إلى أن اُخضع مقدمات هذه المراجعة النقدية إلى قاعدة شهادة واحدة موثقة ، لا أعتقد أن الرئيس السادات نفسه ، كان يمكن أن يطعن فى ذمة صاحبها ولا فى ضميره الذاتى ، رغم أنه ما زال يُخيل الىّ أن اللجوء الى المراجعة النقدية على أسس منهجية علمية ، قد أصبح يثير أعصاب بعض الذين يتشحون بثياب العلم ، ربما أكثر من إستخدام الأحجار فى الحوار الفكرى معهم ، ذلك أن هذا المنهج وحده يستطيع أن يتجاوز آفتين فى منهجية التفكير السياسى العام :
الأولى : شخصنة القضية ، أى تحويل ما هو عام وموضوعى إلى مسألة شخصية بحته ، تخص شخصاً بعينه ، بحيث يتجدد الخلاف أو الإتفاق فوق خطوط الطول والعرض المتقاطعة فى هذه الصورة الشخصية ، وفى كل الأحوال فلم أكن بصدد جمع شهادات حول شخص بعينه أو شخصية بعينها ، وإنما بصدد مراجعة للرؤية ولإستراتيجية المفاوضات ونتائجها فى حقل التطبيق العملى .
الثانية : إستخدام منهج شائع وصفه أحد المفكرين الفرنسيين ذات مرة بأنه ” تعرية أرسطو لتغطية أفلاطون ” ، وكأنهما لا يملكان غير قميص واحد ، لابد أن يرتديه أحدهما ويتعرىّ الآخر ، لقد تصوّر البعض – مثلاً – أن تعظيم حرب أكتوبر يتطلب تصغير حرب الإستنزاف ، وتصور البعض – مثلاُ – أن تأكيد زعامة مصطفى النحاس ، يتطلب طمس وجه مكرم عبيد ، شئ من هذا المنهج ، حاول أن يتمدد بين الدور الرئيسى فى المفاوضات ، وبين دور مدرسة الخارجية المصرية ، على أساس أن هؤلاء الديبلوماسيين الذين ، أحاطوا بالدور الأول ، لم يكونوا يحملون غير رؤيتهم التقليدية الضيقة ، ولهذا لم يستطيعوا أن يستوعبوا الرؤية الجديدة ، وظلوا أسرى أفكارهم المتراجعة .
إننى لا أريد أن أصوغ دفاعًا ذاتيًّا عن هؤلاء الدبلوماسيين المصريين الذين كانوا حول مائدة المفاوضات أو بالقرب منها, ولكن يصعب على المرء أن يجد من يصدر أحكامًا قيمية بمثل هذا القدر من الاستهتار. على تلك المدرسة التاريخية التى أحب ان أطلق عليها مدرسة الدبلوماسية المصرية, والتى استطاعت أن تحفر فى مجرى النضال الوطنى العام. على امتداد قرن من الزمان, خصوصية وطنية جعلتها بخبراتها المتراكمة , وتراثها الممتد, وإبداعها الموصول, واحدة من أنضج وأرفع المدارس الدبلوماسية قدرًا, على الساحة الدولية الواسعة.
يكفى هذه المدرسة أنها استطاعت أن تفك عزلة مصر, وأن تعيد بناء جسورها الاستراتيجية, التى لحق بها كثير من التخريب والتدمير. وقد لا تكفى الصورة التالية لتبين مدى الدمار الذى لحق بهذه الجسور. ومدى هذا الجهد الخارق الذى أعاد بناءها. لكنها قد تكون دالة عليه.
لقد ذهب وزير خارجية مصر يبحث عن أصوات تدعمه, خوفًا من طرد مصر من منظمة الوحدة الإفريقية, بعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد, ولجأ إلى وزير خارجية الإمبراطور بوكاسا. الذى اشترط أن يعقد الاجتماع فى مكان خاص لا تطوله العيون, وتم الاجتماع بينهما بالفعل, فى مرحاض للرجال.
خلاصة القول أن علينا أن نفتح الأبواب أمام المراجعة النقدية دون تأثيم, ولن يتم ذلك إلا باستئصال هاتين الآفتين: شخصنة القضايا, وتعرية أرسطو لتغطية أفلاطون, ودون ذلك لن نخرج من الأزمة الفكرية إلى آفاق الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى