جوني منيّر | كاتب وباحث لبناني .
الفشل في حلّ الأزمة الحكومية لا يكمن في افتقار المبادرات الى افكار جديدة، لا بل على العكس، فلقد بات ثابتاً أنّ حلّ هذه المعضلة يكمن في مكان آخر مرتبط بنحو وثيق بتطور المفاوضات الاميركية ـ الايرانية.
بالتأكيد، يمكن إنجاز ولادة سهلة وسريعة للحكومة لو كان اطراف الأزمة يتطلعون الى المصلحة العامة والانهيار الاقتصادي والمالي، الذي ازال الطبقة الوسطى ودمّر المؤسسات، ودفع اللبنانيين الى الهجرة، في موجة شبيهة بما حصل عام 1989. لكن المصالح الخاصة والمكاسب الذاتية هي التي تتحكّم بمفاصل التأليف، ما يجعل من السهل ربط هذه الأزمة بالملف الاقليمي الكبير والشائك، لا بل الخطر ايضاً. لذلك، تتساقط المبادرات الواحدة تلو الاخرى على الرغم من الأفكار المتعددة. وآخر هذه المبادرات قد يطلقها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في عظة عيد الفصح الاحد المقبل، وهي مؤلفة من اربع نقاط أُشبعت درساً. وليس مستبعداً ان يُصدر «حزب الله» ترحيباً بتصور البطريرك، مع الإشارة الى الزيارة اللافتة للمسؤول الايراني لبكركي امس.
وعلى الرغم من هذه الإيجابية التي ستظهر، الّا أنّ الحكومة لن ترى النور حيث من غير المستبعد ان تظهر عقبات جديدة.
هي مرونة في الشكل، اما المضمون فله علاقة بالواقع الاقليمي، وهنا بيت القصيد. فالمفاوضات الاميركية ـ الايرانية لا تزال تحصل من خلال وسيط او ربما وسطاء (سلطنة عمان في شكل اساسي، وأخيراً شاركت فرنسا في نقل بعض الافكار)، بعد رفض طهران البدء بمفاوضات مباشرة الآن. لكن ادارة جو بايدن التي كانت تصرّ على نتائج سريعة، اصطدمت بعوائق عدة جعلتها اكثر واقعية: ايران تريد الاتفاق لكن توقيتها لم يحن بعد. في الواقع ومع إتضاح صورة الانتخابات الرئاسية الاميركية لمصلحة بايدن، كانت الاوساط الديبلوماسية الايرانية تتحدث في الكواليس عن ثابتتين: الاولى، انّ المفاوضات لن تكون سريعة وستستهلك وقتاً ليس بقصير. والثانية، أنّ لا تعديل على الاتفاق النووي وهو ما سيتطلب مناورات وشدّ حبال وتجميع اوراق خلال المفاوضات لجعل الادارة الاميركية تلين وتعود الى النص الاصلي من دون اي أضافات. مع الإشارة هنا الى انّ المفاوضات الجدّية لن تبدأ قبل الانتخابات الرئاسية الايرانية والتي ستكون نتائجها معبّرة وذات معنى سياسي.
وخلال الايام الماضية، بدا للادارة الاميركية انّ طهران تعمل على تجميع اوراقها التفاوضية من مأرب في اليمن الى العراق وسوريا وهي الساحة الأصعب، وصولاً الى لبنان والأزمة الحكومية التي تكاد تدمّر ما تبقّى من هيكل الدولة.
وإضافة الى الرسائل المشفّرة التي ارسلها الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، جاء كلام مساعد رئيس مجلس الشورى الايراني حسين امير عبداللهيان، الذي رسم معادلة ثلاثية جديدة هي المقاومة والجيش والحكومة القوية. في هذه المعادلة رسائل سياسية عدة تربط تأليف الحكومة بها. هو كان يقصد بالحكومة القوية أن تتضمن تمثيلاً سياسياً وهو ما اسهب السيد نصرالله في شرحه قبل ايام معدودة.
اسرائيل تعتقد انّ ايران تريد تسجيل نقاط أمنية رداً على اغتيال قاسم سليماني، قبل دنو موعد الانتخابات الرئاسية، لذلك عمدت الى تحذير الايرانيين من السفر الى الامارات والبحرين وتركيا. ولأنّ طهران تسعى الى تجميع الاوراق القوية، رفض الحوثيون الجلوس على طاولة المفاوضات مع السعوديين في سلطنة عمان قبل رفع الحصار كاملاً. بداية تردّد الحوثيون ما سمح بوصول باخرة واحدة الى شواطئهم، قبل ان يعودوا الى التصلّب وعلى اساس الاندفاع للسيطرة على مأرب بكاملها.
في المقابل، فإنّ ادارة بايدن التي تراهن على الوضع الداخلي الصعب للايرانيين، ترى انّ لا مفرّ امام طهران من ازالة العقوبات عنها، والتي لا يمكن ان تحصل الاّ من خلال المفاوضات. لا بل انّ ادارة بايدن، والتي لديها تجربة وافية في اسلوب التفاوض الايراني الصعب، تعرف ايضاً انّ ثمة نقاشاً ايرانياً داخلياً صاخباً حيال كلفة الوقت لإعادة استنهاض الاقتصاد. لكن ادارة بايدن لا تملك كثيراً من الوقت، فهي امام التحدّي الصيني، والأهم امام تحدّياتها الداخلية الصعبة جداً. فعلى سبيل المثال، أظهر آخر استطلاع للرأي أنّ 8% فقط من الاميركيين يعتقدون انّ التهديد الرئيسي لأسلوب حياتهم خارجي، في مقابل 54% يعتقدون انّه داخلي وبسبب مجموعات اميركية. وغالبية هؤلاء ينتمون الى المجموعة التي اقترعت لمصلحة دونالد ترامب، والتي بلغت 70 مليون اميركي، ومعه بدأت اوراق الضغط المضاد تظهر. فالأكراد استعادوا حركتهم وباشروا في خطة لإعادة تموضع قواتهم في سوريا، والأهم استعادة «داعش» والتنظيمات المتطرفة حيويتها في سوريا والعراق. وقائد القيادة المركزية الاميركية كينيت ماكينزي، كان قد حذّر في كلمة القاها في شباط الماضي في مركز ابحاث في واشنطن، من أنّ تنظيم «داعش» سيستمر على شكل تمرّد، وسيحاول تجديد نفسه وتطوير اهدافه.
وكذلك حذّر من ظهور جيل جديد من الموالين للتنظيم، من خلال انتشار افكاره وسط المعتقلين في المعسكرات التي لا تشرف عليها قواته في سوريا والعراق. والأهم، تقديراته التي تشير الى نحو 10 آلاف مقاتل «داعشي» في هذه المعسكرات، بينهم نحو 2000 اجنبي. ولوحظ خلال الاسابيع الماضية تزايد نشاط «داعش» وعودة عملياته الانتحارية، لكن التلاعب بالتنظيمات الارهابية قد لا يقتصر على طرف واحد. ففي الرسائل السياسية والضغوط التي تترافق مع ترتيب المصالح، لا مكان للرحمة او للأخلاق.
فخلال المرحلة الاخيرة، لحظت العواصم الاوروبية تسرّب ارهابيين الى لبنان. وباب الخطورة، انّ عدداً من هؤلاء يحملون جنسيات فرنسية واوروبية وهم من اصول عربية ـ افريقية (تونس والجزائر والمغرب)، ورصد انّ بعض هؤلاء حاولوا السفر بحراً وبطريقة غير شرعية الى اوروبا. ما يعني تهديد الأمن الاوروبي. وقد تكون زيارة المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم لفرنسا، تناولت الملف الأمني لتنظيم «داعش» في المنطقة، حيث التوقعات تؤشر الى تصعيد نشاطه والمخاطر الناجمة عن ذلك. ويأتي هذا التخوف الاوروبي ليضاعف سعي الاوروبيين الى ولادة الحكومة اللبنانية، ويقرأ البعض منهم في وجود 16 جهادي عربي ـ افريقي في لبنان، على انّه رسالة تهديد لفرنسا واوروبا. وقد يكون الاجتماع الثلاثي عبر تقنية الفيديو بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ونظيره الروسي فلاديمير بوتين والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل، تناول في جانب منه عودة الخطر الارهابي وخلفياته المتشعبة. وربما جاء رفع الصوت الاوروبي ونبرة التحذيرات حيال التلكؤ في الملف الحكومي، مرتبطاً بالردّ على هذه الرسائل. ايران ومن خلال عبد اللهيان تمسّكت بحكومة قوية، اي حكومة سياسية وفق التوازنات الحالية، وباريس ومعها اوروبا ردّت بحكومة تكنوقراط لوقف الانهيار، اي حكومة خارج نفوذ «حزب الله» من دون ان تكون ضدّه. وفي موازاة هذا العنوان، شدّ حبال عنيف حول الملف النووي، وضغوط ميدانية متبادلة، فيما عامل الوقت يبدو موجعاً لا بل مأسوياً على اللبنانيين. المشكلة تبقى في الذهنية والمصالح الذاتية والشخصية للطبقة السياسية اللبنانية.