غالب قنديل | رئيس مركز الشرق الجديد
مخبول وبلا ذاكرة من يتصوّر أيّ حركة صغيرة على أيّ جبهة في المنطقة حول فلسطين المحتلة لا تخضع للدراسة والتقييم عالي الدقة والأهمية في دوائر التخطيط القيادية العليا الأميركية الأطلسية والصهيونية. وتشير المعلومات والوقائع باستمرار إلى قيام المؤسسات القيادية الأطلسية الصهيونية بفحص دائم ومتواصل، يّبنى عليه تقييم سياسي وعسكري يرصد التفاعلات والتأثيرات التي تنطوي عليها، وانعكاسها المحتمل على ميزان القوى المتصل بالصراع العربي – الصهيوني.
أولا: لم يكن ما جرى على جبهتنا الجنوبية مجرد حدث عابر، بل هو اختبار حقيقي ومدروس لواقع الجبهة ومعادلات الصراع ولفرضيات تراود المخطّطين ودوائر القيادة العليا الأميركية الصهيونية، التي تُجري إعادة تقويم مستمرة للوضع. وقد قررت استكشاف الانعكاس المحتمل للانهيار الاقتصادي والمالي اللبناني على معادلات القوة. وكانت مراكز التخطيط والبحوث الأميركية مهتمّة، منذ ظهور مؤشرات الانهيار الكبير، باستكشاف النتائج والانعكاسات في البيئة الشعبية الداعمة للمقاومة، ومدى تأثيرها في النسيج الاجتماعي اللبناني والهيكل القيادي لحزب الله وحلفائه الكبار في الواقع السياسي. وقد ارتقب الصهاينة في التحولات بوادر استنزاف وتوهين من خلال تداعيات الخنق الاقتصادي المفروض على لبنان، وشرعوا يعملون عليها منذ البداية. ولذلك استحق الاختبار بعد مرور فترة غير قصيرة على فرض الحصار والعقوبات، وهذه وسيلة لقياس نتائج الخنق الاقتصادي، ولقراءة حاصلها المباشر وانعكاسها على ميزان القوى، وبالتحديد مدى تأثيرها في منظومة القيادة والسيطرة، وطاقة الردع التي تثير قلق العدو.
ثانيا: أكدت النتيجة الفعلية لاختبار القوة اضطرار العدو للانكفاء والتراجع بفعل ثبات قدرة المقاومة، ورسوخ منظومات القوة ومعادلات الردع، التي أرغمت الصهاينة على الانكفاء قبل سنوات. والأكيد أن ردّ حزب الله المدروس، الذي كان أقرب إلى الرمزية، وما يُصطلح عليه عسكريا، التحذير الميداني بالنيران أو الوخز الاستراتيجي لفرض الانضباط بمعادلات القوة، والانكفاء مجددا خلف الجدر، كما قال سيد المقاومة سابقا. فالتناسب بين قوة النيران وطبيعة المجابهة وحدودها، هي خاصية مبهرة في أداء المقاومة المتقن، الذي يثير الإعجاب عند الخبراء والباحثين الاستراتيجيين في العالم والمنطقة، وبالذات في الكيان الصهيوني نفسه. ومجددا ظلّت يد المقاومة هي العليا، وكلمتها هي الفاصلة، ورضخ العدو الذي ثبت لديه ان الفرصة التي يبحث عنها، ويفترض توافرها، هي مجرد افتراض رغبوي مستحيل التحقق بفعل يقظة المقاومة وديناميكيتها، ورسوخ التحوّلات المتراكمة في منظومات قوة الردع. وبينت الوقائع مجددا أن تقديرات العدو رغبوية جامحة، يكثر معها هامش ارتكاب الهفوات والأخطاء.
ثالثا: من أبرز تداعيات النتائج الفعلية لهذه الجولة، التي ظلت في حدود مناوشات القشرة، ولم ترق إلى أيٍّ من درجات الاشتباك، أن الكيان الصهيوني المحبط، والذي سبق أن انكسرت عنجهيته، وتهشّم جبروته، تلقى صفعة قوية، تؤكد عجزه، خصوصا مع طاقم قيادي مستجد وطامح، جرّب حظّه في التهوّر، ونطح أسوار الردع التي أشادها المقاومون، فكسر قرنيه وتراجع، بينما تفاعلت الأحداث داخل الكيان ومستوياته السياسية، وفي وسائل الإعلام ودوائر التخطيط تردّدت العِبرة عن الكلفة الباهظة التي سيدفعها العدو، لو تمادى بالعدوان مرة أخرى. مما يعني إغلاق الرهان على استثمار الانهيار الاقتصادي والمالي لهزّ التوازنات. علما أن سجال المقاومة مع الكارثة الاقتصادية يوشك أن يقود إلى مبادرات هجومية، تلاقي فرصا هائلة وواعدة، تثبت من جديد براعة السيد نصرالله في إبداع ما يحوّل التهديدات إلى فرص، وهو ما طرح سيد المقاومة بعض عناوينه ومفاتيحه مؤخرا. وقد يكون في خطابه المرتقب جديد من خطواته الشجاعة والوخزات الاستراتيجية المؤلمة، التي يعدّها بإتقان، ويسددها للحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي في سجال الوجود والتحرّر والكرامة.