محمود بري | كاتب وباحث سياسي
هل هناك من هو أكثر سذاجة من اللبناني؟
قبل الإسراع في رمي الجواب مثل من يرمي من مدفع غير مرتدّ، ينبغي على الأقل، إدخال السؤال في “الفهّامة”…(بالإذن من صاحبها) وانتظار الجواب.
الفهّامة تُفيد بداية بأن السذاجة في هذا المقام تعني درجة خفية من التخلّف العقلي بالمعنى المتعارف عليه في المصحّات العقلية… وقبل أن يعترض أحدٌ مُستنكراً على طريقة أيّ لبناني من الصنف الشائع، تُقاطعه الفهّامة بأن المتخلّف هو من لا يزال يأمل أن يؤلف هذا الطاقم السياسي المُريع، حكومة الإنقاذ المُنتظرة، في حين أن أول ما يحتاجه البلد، هو من يُريحه ويُخلّص البلد من هذا الطاقم السياسي بالذات، لأنه مكمن الداء الذي لا شفاء بغير الخلاص منه.
الرئيس المُكلّف يجول بلاد العالم تائهاً يبحث عن “قادوميّة” مُتاحة توصله إلى مملكة الخير التي طردته وترفض استقباله، ويُقال أنه لن يتخلّى عن التكليف إلا حين يفقد الأمل بموافقة الرياض عليه. وهذا بحد ذاته مُصيبة (…). أما فاعلو الخير الكرام في الداخل المافيوي، فهم يتجلّون على الشاشات، كالنجوم المُذنّبة، يبتسمون للكاميرا ويُمنّون المواطن بحكومة سيعملون لإنتاجها على حساب وقتهم وهواياتهم…إنقاذاً للبلاد والعباد، بينما القطعان البشرية تبتلع لُعابها بانتظار الفرج الذي تعتقد أنه سيهبط عليها من كُمّ مشعوذ.
وسط ذلك يخرج الثنائي ليكشف السرّ الذي لا يعرفه أحد، ومفاده أن سعد الحريري هو أقوى شخصية سياسية سنّية في البلد، والوحيد المناسب لرئاسة الحكومة. لكن الفهّامة تعترض من جديد زاعمة أن شعبية سعد تقتصر على ثلّة المنتفعين الذين زرعهم، كما كان يفعل المرحوم والده، في مُختلف مستويات الإدارة، وهم جميعاً من “الأوادم”. إلا أن هؤلاء، وفي أحسن الأحوال، لا يشكلون كل السنّة ولا نصفهم ولا رُبعهم… ونتائج الانتخابات النيابية الأخيرة تقدّم الدليل المُثبت على هبوط شعبيته حيث أن نسبة ما ناله المكلف من أصوات السنّة يومها لم تبلغ خُمس المسجّلين على لوائح الشطب، الأمر الذي اضطر حليفه الأول إلى نجدته بأصوات شيعية كما يعلم الجميع. وهنا تستدرك الفهّامة بالتأكيد على أن أسلوب زرع الأزلام داخل مفاصل الدولة، ليس زلّة الحريرية السياسية وحدها، بل إن الجميع ارتكبوا هذه النقيصة وأبدعوا في في ممارستها بكل فظاظة، حتى بعد أن اصدرت الحكومة ذات جلسة قراراً بوقف التوظيف في الدولة. فهذا المسلك اصبح بعد الطائف من الأعراف التي توافق عليها المعنيون في وطن الـ “قصب-مَصّ”. وحسب الدكتور حسن مقلد فهؤلاء دفعوا إلى القطاع العام عشرين ألف موظف في الأشهر الأخيرة. وهؤلاء، لمن يسأل، هم عماد “البرغش الإلكتروني” الذي لا يملّ اليوم من نصرة الذين عيّنوهم. والحق كله على… الحرب التي أوصلت هذه الزمرة السياسية إلى الحكم بتدبير ودعم من مسؤولين سوريين كباراً تبيّن في ما بعد أنهم كانوا يعملون ضد مصلحة بلدهم وبلدنا، ولتدميرنا جميعاً.
المرحوم رفيق الحريري كان له من الحجم والهالة والعلاقات ما أتاح له قيادة المركب في تلك الظروف الإستثنائية. وقد تمكّن بقدرة قادر من إرساء دعائم جسر تفاهم حيوي بين دمشق وبيروت، وبين لبنان والمقاومة، حتى بدا في مرحلة ما وكأنه وزير خارجية لبنان وسوريا وحزب الله في آن واحد معاً. وربما يكون هذا الدور الذي برع فيه قد أزعج قوى متضررة فعملت على إزاحته.
لكن الفوارق بين الرئيس الشهيد والرئيس المكلف تماثل ما بين الماء والنار . فالأخير خاض (من دون أي نجاح يُذكر) “باريس 1 و2 و3 “، وكل ما يشبه ذلك، وفشل فشلاً ذريعاً وأظهر عدم كفاءة مثيراً للأسى. وجاءت أحدث “ضرباته” حين طالبه البرلمان في جلسة مناقشة رسالة رئيس البلاد مؤخراً، بالإسراع في تأليف الحكومة، فإذا به يخرج من البرلمان إلى المطار مباشرة، ليسافر وتضيع آثاره… وكأنّ ما سمعه لا يعنيه البتّة.
الثابت أن هذا الرجل الذي لا يتوب عن إطلاق الرصاص على ساقيه، حقق في وقت قليل ما يحتاج إلى عمر لتحقيقه. فهو خسر بجدارة تأييد المملكة العربية السعودية له، كما خسر دعم فرنسا –ماكرون، ولم ينجح في جذب أيّ اهتمام أميركي، وبالتالي لم يعد له سوى الثنائي الداخلي داعماً ومؤيداً ومناصراً. لكن تفاقم الأوضاع سوءاً في الداخل مع استمرار لا مُبالاة المكلّف ودعاماته، لم يترك للصلح مطرحاً، فارتفعت أصوات المتحفظين على تأييد المكلّف ، بخاصةٍ داخل جمهور الثنائي، وتنامى شيء من الريبة مع تساؤلات حسّاسة وصلت أحياناً إلى تخوم الاتهام. ومن دون أن يقولها أحد، بات واضحاً أنّ على الثنائي واجب تبرير خطيئته للرأي العام عموماً ولمناصريه من باب أولى، والأسباب الحقيقية الموجبة التي تدعوه إلى محض المكلف هذان التأييد والثقة، شريطة أن يأتي التبرير خارج لغة اللغة الكرتونية الشائعة التي باتت مكشوفة ومُستهلكة، مع الإشارة إلى أن الشارع، وبصراحة، بات يطرح تساؤلات خبيثة ويُجيب عليها بما يختزن من رصيد هائل من الإحباط وعدم الثقة…
على الجميع أن يتذكر أن لا سرّ في لبنان، وأن الأخبار الجيدة تمشي والأخبار السيئة تركض.