خطاب يوم الجريح ..والمناطق الوسطى .
إيهاب زكي | كاتب وباحث فلسطيني في الشؤون السياسية.
في خطاب السيد حسن نصرالله في يوم الجريح، من الصعب فصل السياسي عن الشخصي، فلا تكاد تميّز إن كان سياسياً مبدئياً وبالتالي فهو شخصٌ مثالي، أمّ أنّه شخصٌ مثاليٌ وبالتالي فهو سياسيٌ مبدئي، فالثبات ليست سلعة تُباع وتُشترى، ولو قمنا بتسليعه تجاوزاً فهو ليس متوفراً في الأسواق السياسية، فالمتابع لمواقف السيد نصرالله يجد أنّ سمته الأساسية، هي ثبات الموقف وثبات النهج وثبات الغاية وثبات الكلمة، بينما الانطباع السائد شعبياً، أنّ لدى الساسة عموماً ألسنة لا قلوب لها، وألسنة لا ترابط بينها وبين الضمير، فهي مجرد عضلةٍ تنتفخ ببخار الوعود الكاذبة، الذي يتبخر عند أول استحقاق، فتتضاءل الألسن استعداداً للانتفاخ في موسم الكذب الجديد، بينما الكلمة في خطابات السيد هي ضميرٌ حي، فكل كلمة تبدو في الخطاب على أنّها مسؤولية نشورية -يوم النشور-، قبل أن تكون مسؤولية دنيوية أو سياسية أو وطنية، وقد مازحني صديق في معرض الجدّ جداً، أنّ ما يتعرض له لبنان من أزمات هو بسبب الحسد، لأنّ فيه قائداً سياسياً كالسيد نصرالله.
إنّ الحرب الأهلية التي تحدث عنها السيد نصرالله في بداية خطابه، كانت ولا زالت وستظل هي الكابوس الذي يسعى حزب الله لتجنيب لبنان واللبنانيين أوارها، وهي السقف الذي قال عنه لا يجب التفكير في الوصول إليه مهما كانت الظروف ومهما عصفت الأزمات، لكنه لم يتطرق للوجه الآخر لهذه المعادلة، وهو الثمن الذي دفعه حزب الله وسيدفعه لتخطي فخاخ الحرب الأهلية المنتشرة في كل مكان، فالصبر الذي احتمله الحزب والتصبّر الذي احتملته بيئته، على التجاوزات والاستفزازات والإهانات والاستهدافات، كما الصبر على الاتهامات وظلمها والإدانات وزورها، فهذا الاحتمال سيظل تاريخياً سبباً لعدم الانزلاق، وسيظل وساماً يزيّن صدر حزب الله وجبين بيئته، وستلهج صفحات التاريخ بكلمة السر لإستحقاق هذا الوسام، اسم السيد نصرالله وكلمته، خصوصاً أنّ منطلقات السيد نصرالله في تجنب الاقتتال الأهلي لا تنبع عن ضعف، ولا عن قلة حيلةٍ أو قلة العدد والعتاد، ولا خلفية حزبية لها أو مذهبية على الإطلاق، بل إنها منطلقات المصلحة الوطنية اللبنانية ومصالح لبنان وشعبه، ومنطلقات الضمير والأخوية والإنسانية، وكل هذا متوجٌ بالمسؤولية النشورية.
كان واضحاً في خطاب السيد نصرالله، أنّ حزب الله يتجنب لعب دور الدولة، بذات درجة تجنبه للحرب الأهلية، فلم يدعِّ الحزب يوماً أنّه الدولة، بل كان على الدوام الأكثر التزاماً بدور الدولة، بل والأكثر حرصاً على تظهير شخصيتها الاعتبارية، فلم يوفر أيّ غطاءٍ لأيّ تجاوزٍ قانوني، ويضع أفراده وبيئته تحت تصرف أجهزة الدولة في حال ارتكاباتهم المخالفة للقوانين المرعية، وهذا بعكس الكثير من الأحزاب والسياسيين، الذين يضعون الخطوط الحمراء على ارتكاباتهم ومرتكبيهم، ومع ذلك فهو المتهم الأول والأخير بتقويض الدولة والسطو على شخصيتها الاعتبارية، وقد ذكر السيد نصرالله مثالاً حين ذكر تقدم الكتلة النيابية للحزب بمشروع قانون لرفع الحصانات الذي رُفض، كما ذكر أنّ السلاح ليس لمحاربة الفساد، أو لفرض توجهات حزبية، وهذا يعني أنّ هذه مسؤولية الدولة بمؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، وعليه فالحزب يقوم بما يقتضيه موقعه الحكومي والنيابي من مسؤوليات، كجزءٍ من أجزاء الواقع السياسي اللبناني، وليس بما يمليه أو يوفره السلاح، فهذا السلاح مهامه واضحة ومحددة ودقيقة، يدركها الجميع بمن فيهم وأشدهم إدراكاً لتلك المهام، ممن يتهمون السلاح بأنّ فوهته في رأس الدولة.
كان السيد نصرالله حاسماً كعادته، حين وعد اللبنانيين بعدم الجوع، وعدم التسليم بقضاء أمريكا وأدواتها، وأنّه يمتلك الخيارات في مواجهة مشاريع التجويع، ومن الأفضل أن تكون هذه الخيارات في إطار الدولة، أو بالأحرى من خلال تفاهم النخبة السياسية، حيث اعتبر السيد نصرالله أنّ الدولة معطلة في الأسابيع الأخيرة، وهذه رسالة موجهة لأصحاب المشروع الأمريكي بتجويع اللبنانيين وسفك دمائهم أُصليين ووكلاء، بأنّ الوقت ينفذ، وأنّ النفوذ الأمريكي في لبنان قد يتلاشى بين عشيةٍ وضحاها، ولكن من الواضح أنّها رسالةٌ للصمّ البكم، فقائد القيادة الوسطى الأمريكية حين يزور مع سفيرة بلاده بلدة لبنانية لافتتاح بئر ماء، فهذا لا ينمّ عن إدارةٍ تسمع، بل إدارة تصرّ على الذهاب في الضغط لحدوده القصوى، وأنها تريد كل شئ في لبنان أو فليحترق بمن فيه وما فيه، ولا تترك مجالاً لنقاط المنتصف بين اللبنانيين، أو لمناطق وسطى بين أتباعها وبين أعدائها، وهذا العمى الاستراتيجي يدلّ على أنّها تحاول التشبث بنفوذها الآفل، رغم أنّ الإمبراطوريات الفتية أو الصاعدة أو العاقلة، والتي تثق بقدراتها وإمكاناتها، تعرف أنّ ما لا تستطيع أخذه كله لا يُترك جلّه، لذلك فإنّ على الولايات المتحدة إن أرادت بقايا نفوذها، عليها التقاط المناطق الوسطى التي تركها السيد نصرالله في زوايا خطابه، فالفتات أفضل من اللاشئ.