د.علي إ. مطر
إرث كبير خلفه الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب لخلفه جو بايدن. ملفات عدة سيضطر بايدن إلى إعادة ترميمها وربما بنائها من جديد، لكن لن يتغير ما أحدثه ترامب في ملفات عدة، كما يظن البعض من خلال إيقاف قطار التطبيع، إو إيقاف “إسرائيل” عند حدها وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وغير ذلك مما يظنه البعض من أن الإدارة الأميركية الجديدة ستكون حملا وديعا، فذلك يجافي الحقائق وتاريخ الولايات المتحدة القائم على الهيمنة والإجرام، مع اختلاف طريقة الإدارة بين الرؤساء وبين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
حاول ترامب بخروجه من البيت الأبيض وخطابه الوداعي الذي ألقاه أن يلمع صورته أمام الأميركيين، ويبعد عنه ما حصل في الكونغرس، حاول ايضاً تلميع صورة إدارته والايحاء بأنه ترك إدارة جيدة في ظل كورونا وأن ما سينجزه بايدن سيكون بسبب ما أسسته إدارة ترامب في كل الملفات. هو ربما يريد أن يحجز لنفسه دوراً رئاسياً قادما لكن إدارة ترامب كانت كارثية على الولايات المتحدة الأميركية والعالم، فقد أدى عمله إلى توسيع الشرخ في الداخل الأميركي وتعميق الانقسام السياسي والاجتماعي، فضلاً عن فشله بمواجهة كورونا، فيما أظهر خارجياً الصورة الحقيقية القائمة على الهيمنة والإجرام أمام العالم، وزيادة العداء الخارجي وتراكم أعداء الولايات المتحدة، كما فشل في التعامل مع ملفات خارجية عدة كالتعامل مع روسيا وكوريا الشمالية وتوتير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وتعميق الخلافات الشرق أوسطية، وإبعاد الحلفاء كتركيا، والفشل في المفاوضات الافغانية، وتوتير العلاقة مع الصين في مقابل تصاعد قوتها، والانسحاب من الاتفاق النووي وتحدي ايران باغتيال الحاج قاسم سليماني في مقابل تصاعد القوة الإيرانية وعدم قدرة ترامب على ايقاف هذه القوة الهائلة.
كما ساهم ترامب في كسر نمطية النظام الدولي الذي كان قائماً على الاحادية القطبية منذ سقوط جدار برلين، وبدأ يتحول نحو التعددية خاصةً مع انطلاق ثورات الربيع العربي وتراجع التأثير الأميركي في الشرق الأوسط، وصولاً إلى الحرب السورية ودخول روسيا وإيران إليها، في عهد باراك أوباما، ليؤدي فشل سياسة ترامب في الشرق الأوسط إلى كسر هذه النمطية كلياً، في مقابل تصاعد القوة الصينية الروسية، وصعود قوى إقليمية أكثر فاعلية كإيران وتركيا، وعدم تمكنه من تطويع فنزويلا والقوى الصاعدة في أميركا الجنوبية.
ماذا سيفعل بايدن في الملفات الخارجية؟
هناك إرث ثقيل من إدارة ترامب لإدارة بايدن، الذي سيبدأ بإعادة ترميم الجسور مع الأوروبيين وحلف شمال الأطلسي بعد تصدع هذه العلاقة خلال ولاية ترامب. وسيكون أمامها العودة إلى اتفاق باريس المناخي، وتمتين الوجود الأميركي العسكري في القارة والتشدد مع روسيا. فالفارق الأكبر بين الرجلين سيكون في طي بايدن لصفحة ترامب بالمقايضة في السياسة الخارجية، حيث ينتمي بايدن إلى ما يُعرف بالمدرسة الليبرالية في السياسة الخارجية، وهي مدرسة معروفة في حقل العلاقات الدولية، ينطلق منظروها من أربعة افتراضات رئيسية: أن التعاون، وليس الصراع، هو الأصل في العلاقات الدولية، أن الحوار والتفاوض، وليس القوة والسلاح، هو الطريق الأنجع لبناء العلاقات بين الدول، أن عقد الاتفاقات والمعاهدات طريقٌ مهمة لاستدامة علاقات جيدة وبناءة بين الدول، أن ثمّة أهمية كبرى لوجود منظمات دولية تعمل على حماية السلم والأمن الدوليين، وتساعد في مواجهة التحديات العالمية التي لا يمكن لدولة واحدة مواجهتها بنفسها، لكن ذلك لا يعني أن هذه الإدارة ستكون حملا وديعا بل هذه طرق لبسط هيمنتها على العالم.
وسيكون الالتزام تجاه المنظمات الدولية مختلفاً اختلافًا واضحًا في السياسة الخارجية بين ترامب وبايدن. ويعكس الالتزام بالتعاون الدولي أيضا فكر السياسة الخارجية الحالي داخل الحزب الديمقراطي. ويقول توماس رايت من معهد بروكنجز، تَحَرك الخطاب داخل الحزب نحو التعاون الدولي وسياسة خارجية قائمة على القيم، حيث أصبح الديمقراطيون أكثر واقعية وأقل تفاؤلا بشأن مكانة أمريكا في العالم.
وسيكون أحد التحديات المهمة أمام بايدن، طريقة إدارته لملف التعامل مع الصين. وعلى الرغم من توقع حدوث دفعة قوية محتملة في العلاقات مع الصين، إلا أن تقاربه مع رئيس الوزراء الصيني يمكن اعتباره في الوقت نفسه نقطة ضعف انتخابية. وقد استغلها ترامب كدليل على احتمال عدم فعاليته في مواجهة بكين، فيما يُنظر إليه على أنه نهج ناعم لمحاربتها، ولن يكون الأمر مختلفاً كثيراً مع روسيا إلا أنه من المتوقع أن يكون متشدداً في إدارة ملف العقوبات عليها.
أما سياسة بايدن اتجاه إيران، فستكون كما يقول قائمة على محاسبة إيران وإعادة الانضمام إلى اتفاق دبلوماسي معها لمنعها من التسلح نوويًا إذا ما عادت إيران إلى الامتثال لخطة العمل الشاملة المشتركة. وهو إذاً يرى أن استراتيجية “الضغط الأقصى” كان لها نتائج عكسية سيئة. ويرى بايدن أن تصرفات ترامب المتهورة أدت إلى أزمةٍ عميقةٍ في العلاقات عبر الأطلسية ودفعت الصين وروسيا إلى الاقتراب من إيران. نتيجة لذلك، تمّ عزل الولايات المتحدة، وليس إيران. ويقول إنه إذا عادت إيران إلى الامتثال لالتزاماتها النووية، فستعيد إدارة بايدن الدخول إلى JCPO، كنقطة انطلاقٍ للعمل جنبًا إلى جنب مع حلفاء أمريكا في أوروبا والقوى العالمية الأخرى لتوسيع القيود النووية للاتفاق النووي، وهذا ما بدأت معالمه تتضح مع وصول ترامب للرئاسة.
وفي العلاقة مع الكيان الاسرائيلي ستقوم إدارة بايدن بالمحافظة على التزام أميركا غير القابل للنقض بأمن “إسرائيل” – بما في ذلك التعاون العسكري والاستخباري غير المسبوق الذي كان رائداً خلال إدارة أوباما – بايدن، وضمان أن “إسرائيل” ستحافظ دائمًا على ميزتها العسكرية، والتأكيد على أنّ الدعم للتحالف بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” لا يزال ثنائيًا، ولن تتم إعادة السفارة إلى “تل أبيب”. ويرى بايدن أن حلّ الدولتين يبقى هو السبيل الوحيد لضمان أمن “إسرائيل” على المدى الطويل مع الحفاظ على هويتها اليهودية والديمقراطية.
ما هي المهمات الداخلية؟
شدد بايدن في خطاب تنصيبه على الإرهاب المحلي والتطرف وضرورة التعامل معه. وقد اشارت مجلة Politico الى أن هذا الأمر يشكل تهديدا وشيكا للولايات المتحدة “يجب مواجهته وهزيمته”. غير ان المجلة قالت ان على بايدن ان يعرف كيف يواجه هذا التهديد عبر الفعل وليس فقط الكلام، وان هذه المهمة ستكون صعبة. وأضافت انه بحسب المقابلات التي أجرتها مع عدد من المشرعين الاميركيين البارزين، قد يجد الكونغرس صعوبة في تحديد من يصنف بانه “إرهابي محلي”، وايضاً في استصدار قوانين جديدة لمواجهة هذا التهديد.
سيظهر بايدن نفسه كمخلص للولايات المتحدة الأميركية، حيث سيكون عهده قائماً على محاربة التطرف الداخلي، ومعالجة الشرخ والانقسام الذي خلفه دونالد ترامب، وبعد أن دقت حادثة الكونغرس ناقوس الخطر لدى إدارة بايدن، وسيبدأ الرئيس الجديد بالاستعانة بأشخاص لديهم خبرة في مجال التطرف المحلي من اجل المساعدة في القضاء على هذا التطرف، وتذليل الانقسامات والقضاء على الشرخ الذي خلفه دونالد ترامب، لكن هذا الامر كما يتضح ليس سهلاً أو يسيراً، وكما ذكرت مجلة Politico فان هناك اختلافات بارزة حول كيفية الفصل ما بين الإرهاب المحلي والدولي في إطار كيفية التعاطي مع الموضوع، كما ذكرت مجموعة صوفان للاستشارات الأمنية والاستخباراتية ان تنامي التطرف اليميني سيكون من أبرز التحديات لإدارة بايدن.
وتحدثت المجموعة عن خليط من المجموعات العنصرية والميليشيات المعادية للدولة وأصحاب نظريات المؤامرة، وقالت ان الأمور توجت باقتحام مبنى الكونغرس. كما حذرت المجموعة من ان هناك ما يدعو للقلق من احتمال حدوث المزيد من الهجمات من قبل اليمين المتطرف خلال عام 2021 الحالي. وأشارت المجموعة في هذا السياق الى ان لقاح الكورونا على الارجح سيكون متوفراً بشكل كبير مع حلول أواخر الربيع او أوائل الصيف، وبالتالي فإن قدرة الناس على التجمع عند “اهداف ناعمة” ستعطي فرصا جديدة لمن يريد ارتكاب اعمال العنف لم تكن متوفرة في العام 2020 الماضي.
وحذرت المجموعة من ان هذا الخطر قد يتفاقم إذا ما اتخذت خطوات سياسية اعتبرتها المجموعات اليمينية انها تشكل تحديا وجوديا، مثل اصدار قوانين حول الإرهاب المحلي وتخفيف القيود في ملف الهجرة وتشديد القوانين المتعلقة بحيازة السلاح.
وفي نفس الوقت تحدثت المجموعة عن ضرورة ان تستمر إدارة بايدن بمواجهة التحديات التي تشكلها تنظيمات مثل القاعدة وداعش واتباعهما حول العالم، وذلك بالتزامن مع تركيز المساعي على العنف اليميني المحلي.
هذا وكتب وزير الحرب الاميركي الأسبق “Chuck Hagel” مقالة نشرت على موقع “Defense One” قال فيها ان الرئيس الأميركي جو بايدن سيرث أكبر وأعمق اجندة تحديات منذ الرئيس الأميركي الأسبق “Franklin Roosevelt”.
وقال الكاتب ان من أبرز التحديات حالة الاستقطاب السياسي في اميركا، الى جانب التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لوباء الكورونا. الكاتب تحدث عن انهيار الثقة في قادة ومؤسسات الولايات المتحدة، وقال ان ذلك أدى الى حالة شلل في البلاد. هكذا يظهر أن مهمة بايدن لن تكون سهلة لإعادة القيادة الأميركية للعالم، حيث لم يعد من اليسير أمام أميركا أن تبقى قائدة للعالم، في ظل الصعود الكبير لقوى جديدة كما ذكرنا أنفاً، مع أننا نتوقع أن تقوم إدارة بايدن بتأمين مسببات جديدة لتثبيت القوة في الشرق الأوسط، من خلال تفعيل التنظيمات الإرهابية في العراق كحجة لبقاء القوات الأميركية في المنطقة.
موقع العهد الإخباري
المقالة تعبر عن رأي كاتبها