حوار “العهد” مع د. عز الدين: عن أزمة الكيان الوجودية والتحولات الاقليمية والدولية
أجرى الحوار: إيهاب شوقي
ليس لكونه مثقفًا موسوعيًّا، فكثير من المثقفين لا يجيدون ترجمة أفكارهم وتوظيف معارفهم، وليس لكونه من مدرسة العسكرية المصرية، فكثير من العسكريين رغم نبوغهم العسكري لا يجيدون سوى واجباتهم وتكليفاتهم الميدانية، وليس لكونه عقلية استراتيجية نابهة، فكثير من هؤلاء وقعوا في فخاخ تغليب الهوى والمصلحة على الإدلاء بما لديهم من توصيفات دقيقة قادتهم إليها عقلياتهم وكتموها أو حرّفوها خوفًا أو طمعًا، وإنما لكونه مثقفًا وخبيرًا بالشؤون السياسية والاستراتيجية التزم بمواقف مبدئية واحتفظ ببوصلته وعمل بمبدأ “قل كلمتك وامش” دون النظر لمغنم أو مغرم.
إنه الكاتب الكبير الدكتور أحمد عز الدين، الخبير بالشؤون السياسية والاستراتيجية، وأحد القلائل من الفرقة الناجية من تراجع وكمون قوة مصر الناعمة، والذي كان لموقع “العهد” الاخباري معه هذا الحوار:
* قلتم في كتابكم عصر انحطاط الامبريالية نصًا: “لم أجد نصيحة سياسية أكثر رشدا وعمقا، من تلك التي وجهها مفكران أمريكيان، إلى إدارة الرئيس بوش، بأن عليها ألا تبني تفكيرها الراهن في الشرق الأوسط، خارج نطاق الزمن التاريخي، لأن التفكير خارج الزمن، لا يعني فقط تجاهل دروس التاريخ، ولكنه يعني فوق ذلك، تنكب فهم الواقع، والتعامل بالقوة معه، على نحو يناهض جوهره، ويناقض طبيعته”.
والسؤال هنا: هل ترى أن الإدارات الأمريكية التي أعقبت الرئيس بوش فكرت خارج نطاق الزمن وهو ما أدى إلى تنكّب واقعها؟ وما هي أبرز الأخطاء في تقديرك التي مارستها الولايات المتحدة في هذا السياق؟
– يستوي الأمران مع إدارة بوش وما بعدها على مستوى التفكير خارج نطاق الزمن التاريخي، فجميعهم تجاهل دروس التاريخ وتنكبوا فهم الواقع.
لك أن تلاحظ، أولا، أن إدارة بوش استخدمت القوة العسكرية المفرطة، بمفهوم أساسي، هو تحويل القوة العسكرية إلى استثمار اقتصادي؛ فحسابات التكلفة، خاصة في الحرب على العراق بالدرجة الأولى، وعلى أفغانستان بالدرجة الثانية، كانت تقدر بالملايين فحسب، لكن التكلفة الإجمالية بحسابات “الفرص البديلة”، حسب تقديرات اقتصاديين أمريكيين، تم تقديرها قبل عشر سنوات بما يتجاوز ثلاثة مليارات دولار، وبما أن حسابات التمدد الإمبراطوري هي حسابات تكلفة بالأساس، فقد انتهت المرحلة الأولى من الاستراتيجية الأمريكية دون أن تحقق رغم كل الخراب الذي أنتجته، نصرًا استراتيجيًا، إذا اتفقنا على تعريف النصر الاستراتيجي بأنه ما يبقي عليه الزمن.
ولك أن تلاحظ، ثانيا، أن الإدارة التالية وهي إدارة أوباما، حاولت بعد أن فشلت نظرية تحويل القوة العسكرية إلى قوة اقتصادية أن تنقل الحرب إلى صيغة بديلة، وهي من “الحرب على الدول” إلى “الحرب داخل الدول” بهدف أساسي هو تخفيض سقف التكلفة، وفي حالتي الحرب على سوريا والحرب على اليمن، كان هناك جمع بين الصيغتين، الحرب من خارج الدول والحرب من داخل الدول.
لقد نجحوا بالفعل في تخفيض سقف التكلفة إلى حدود كبيرة، وأنتجوا أيضًا جبالًا من الخراب والدمار، وتلالًا من الضحايا، لكنهم في كل الأحوال، لم يحققوا نصرًا بمفهومه الاستراتيجي.
ولك أن تلاحظ، ثالثًا، أن كافة الأعمال العسكرية والإرهابية، وأعمال المخابرات المضادة استهدفت بيئات تشكل مراكز حضارية تاريخية عربية، وبالتالي، فإن الجانب الجوهري في الأخطاء يدور في إطار التفكير خارج نطاق الزمن التاريخي، بغض النظر عن الصيغ، استثمارًا للقوة العسكرية، أو حروبًا مضادة داخلية بقوى مأجورة أو عميلة، فهذه المراكز الحضارية التاريخية، قد تكون قابلة للهزيمة عسكريًا، ولكنها ليست قابلة لكسر الإرادة الوطنية تاريخيًا، أي أنها ليست قابلة للهزيمة استراتيجيًا، وبالتالي، فإن نصرًا استراتيجيًا لم يتحقق للولايات المتحدة.
* يرى بعض المراقبين أن النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب قد تم تدشينه، بينما يرى البعض أنه بانتظار نتيجة المعركة في أوكرانيا. فما هو الحد الفاصل بين تشكل نظام عالمي وبين إرهاصات التشكل؟ وكيف تصف اللحظة الدولية الراهنة؟
– قد يصف البعض هذا النظام العالمي متعدد الأقطاب، بأنه في لحظة ولادة عصيبة، وحتى إذا توافقنا مع ذلك، فإن رأس هذا النظام وثلاثة أرباع جسده، أصبحت تطل بوضوح من رحم اللحظة الدولية الراهنة، وليس بمقدور أحد أن يلغي قوانين الطبيعة، ويمنع اكتمال الولادة، ولكنه يستطيع أن يطيل أمدها، وأن يطيل بالتالي مخاضها الصعب وآلامها المبرحة.
إن الغرب عمومًا، وفي مقدمته أمريكا، مجبول على أن يحول أزمته الذاتية الخاصة، إلى أزمة عامة، أو بركة آسنة، يغرق فيها معه المجتمع الدولي كله، وهذا ما تفعله الولايات المتحدة تحديدا الآن، ليس في أسيا أو أوروبا وحدهما، ولكن في الشرق الأوسط بالدرجة الأولى.
غير أنني لا أعتقد أن سطوع نظام دولي متعدد الأقطاب، يقف جامدًا في مداره، منتظرًا نتيجة المعركة في أوكرانيا، فالمعركة في أوكرانيا هي معركة حاسمة دون شك في تراتبية الوزن الدولي فوق سلالم هذا النظام، ولكنها ليست معركة فاصلة في تعبير هذا النظام المتعدد الأقطاب عن نفسه، وخاصة أن الاستراتيجية الروسية تمضي بثقة وهدوء في قطف ثمار أهدافها، ولن يغير من ذلك جوهريًا، سعي الولايات المتحدة إلى النفخ في روح “الناتو” كي يمدد أقدامه الرخوة في محيط المعركة، ولا الموازنة الضخمة التي وصلت إلى 53 مليار دولار خلال 3 أشهر، وهي أكبر من الإنفاق الحكومي والفيدرالي الأمريكي على الصحة العامة، ولا حتى تلك الضغوط التي تمارس على بعض الدول كي تسلم أسلحتها الروسية القديمة، ليتم الزج بها في أتون المعركة.
غير أن ما يستدعي الانتباه حقًا، هو خروج مفكرين واستراتيجيين أمريكيين، يحذرون من أن “حزب الحرب” في الولايات المتحدة قد انتعش بقوة، بعد أن أسكرته الحرب في أوكرانيا، لكن السؤال مع ذلك، هل يستطيع “حزب الحرب” في أمريكا أن يمزق القيود التي باتت تمسك بأطرافه داخليا؟
مع ذلك، فإن لك أن تلاحظ أن “كيسنجر” نفسه، وهو استراتيجي نابه، وصهيوني صالح، هو الذي أطل برأسه كي يهدئ من اندفاعة “معسكر الحرب” في أمريكا، بعد أن استيقظ على وقع طبول الحرب في أوكرانيا.
* بدأ مصطلح جديد يشق طريقه في الفكر الغربي وهو “سباق التسلح غير العسكري” كنتيجة لأزمة أوروبا وارتهانها لصادرات الطاقة الروسية وللعلاقات التجارية مع الصين، وذلك للحث على التسلح ببدائل اقتصادية وتدابير تحول دون الارتهان، فكيف نسقط هذا المفهوم على إقليمنا؟ وما هي البدائل الإقليمية المفترض التسلح بها؟
– مصطلح “سباق التسلح غير العسكري”، هو أقرب في مفهوم الاستراتيجية، إلى مصطلح استراتيجي قديم ولكنه أكثر شيوعا، وهو “القوة الشاملة للدولة”، إذا طرحنا منه عنصر “القوة العسكرية”، ولا أعتقد أن المقصود به فقط عنصر “الطاقة”، وتحديدًا الغاز والنفط، وإن كانا الأكثر تأثيرًا وتأزيمًا للوضع في أوروبا خصوصًا، فيمكن أن تضيف إليه العناصر الأخرى كافة التي تنضوي تحت عنوان الإنتاج، بما في ذلك الطعام والغذاء بشكل عام، والصناعة بعمومها.
وإذا كانت مشكلة أوروبا الأساسية هي الغاز، فهي ليست مشكلة أمريكا بالدرجة الأولى، لأن مشكلتها هي الصناعة.
لقد أصبحت آسيا بشكل عام والصين بشكل خاص، هي “مصنع العالم”، بقوة دفع أمريكية وغربية منذ البداية، على أساس توفر العمالة الجاهزة، وقلة التكلفة، وهكذا تحولت الصناعة في الولايات المتحدة عن الصناعات المدنية، فقد انخرطت 80% من قوتها في الصناعات العسكرية والصناعات المغذية لها، لكن النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة الآن، في مكونها الرئيسي، هي نخبة الرأسمالية المالية، وبالتالي، فإن مصطلح “سباق التسلح غير العسكري”، في حقل الصناعة الأمريكية ليس متجانسا مع مكوناتها الحالية.
لقد اضطروا مؤخرًا إلى استخدام الطيران العسكري لتعويض النقص في ألبان الأطفال، واضطر بايدن قبل أيام لأن يعلن بنفسه عن رفع حالة الطوارئ بخصوص الكهرباء، مع تخفيض الضرائب على الألواح الشمسية لتوليد الكهرباء، التي يتم استيرادها من أربع دول أسيوية، في مقدمتها فيتنام.
أما بالنسبة لأوروبا، فكافة المشروعات التي تمت دراستها لتخفيف الاعتماد على الغاز الروسي، لا تقدم بديلا مكتملا، بما في ذلك غاز الخليج والحقول الجديدة في حوض البحر الأبيض.
المدهش أن هؤلاء الذين ملأوا الدنيا صياحًا بنظرية “الاعتماد المتبادل”، هم الذين يملأون الدنيا صياحًا بما هو أقرب إلى مفهوم “الاعتماد على الذات” الذي كان منبوذا تحت سقف العولمة!
أما بالنسبة لنا، فإن الطريق الصحيح الوحيد هو تفعيل هذا المفهوم، وإن كان ذلك يحتاج إلى شرح يطول.
* معروف من كتاباتكم ومقابلاتكم الإعلامية انحيازكم الكبير للمقاومة اليمنية ورفضكم المبكر للحرب التي شنتها السعودية على اليمن. كيف ترون سيناريو إنهاء الحرب؟ وما هي أخطر تداعيات استمرار الوضع الراهن؟
– لقد كان تقديري منذ البداية أن الحرب على اليمن لم توضع من قبل الجميع، بما في ذلك نخبة الاستراتيجيين العرب، في ميزان استراتيجي صحيح، إضافة إلى أن روح اليمن بتراثها الحضاري والثقافي الكبير، وبصلابتها وإرادة القتال في خلاياها الحية، لم توضع بدورها في ميزان تاريخي صحيح.
على الجانب الثاني، أولا، لم يقرأ حتى البريطانيون أنفسهم ما كتبه “تشرشل” رئيس وزرائهم في الحرب العالمية الثانية في مذكراته، عندما ذهب كصحفي مرافقا للحملة البريطانية إلى اليمن قبل أكثر من قرن من الزمن.
فقد لخص “تشرشل” تجربة الحملة البريطانية، وما واجهته من مقاومة شرسة، في أربع كلمات، كان نصها المتوهج في مذكراته هو: “لا تقاتل الإسلام والجبال معا”.
ثم إن منتوج الحملة العثمانية في سعيها لاحتلال اليمن، لم يكن أكثر من هزيمة مذلة غير مسبوقة، وربما أراد العثمانيون الجدد في تركيا أن يغطوا هذه الورقة السوداء في تاريخهم العسكري، فاستجاب لهم “عبد ربه”، وابتنى لهم “جدارية”، دون أن يحسبوا أنهم يسجلون بالحجارة، بكائية، فوق مقبرة خالدة.
أما على الجانب الأول، فإن الحرب على اليمن ليست فاصلًا مستقلًا أو بعدًا مجردًا في ما أطلق عليه “الانقلاب الاستراتيجي الشامل في الإقليم”، وهي إذا لم تكن قلبه، فهي على الأقل رئته، فمن المؤكد أنها موصولة بالجغرافيا الاستراتيجية التي يريدون لها أن تتشكل، سواء على ضفتي البحر الأحمر، أو في القرن الإفريقي وصولًا إلى أثيوبيا أو في المحيط الهندي حتى باكستان.
لذلك، فإنني لا أرى في ما هو مطروح، سواء في خلفيته أو عمقه، أي سيناريو حقيقي لإنهاء الحرب، فهو لا يخرج عن كونه سعيًا إلى “تهدئة موقوتة”.
إن أمريكا لا تريد تصعيدًا لعدة أسباب، أولًا: لأن الخطوات الأمريكية القادمة في الإقليم تتطلب “تهدئات موقوتة”، حتى بين المتنافسين أو الفرقاء.
وثانيًا: لأن سوق النفط لا تتحمل مراكزه صاروخًا بالستيًا أو طائرة مسيرة.
وثالثًا: لأنها تريد أن تكسب وقتًا، لأن هناك معضلة في اليمن لا تقبل الحل بالقوة المسلحة المضادة، ولا تقبل بحلول تنسجم أو تتوافق مع مفردات استراتيجيتها في الإقليم.
لذلك، فإن الرهان الحقيقي ينبغي أن يكون موصولًا ببقاء إرادة القتال، وبالقدرة والقوة المختبرة فوق المسرح الكبير للعمليات.
* هل ترى ملامح أيدلوجية للنظام العالمي متعدد الأقطاب أم أن الأمر سيقتصر على تعدد قطبي برجماتي متنافس ليس له انعكاسات أو منافع لقضايا أمتنا وعلى رأسها القضية الفلسطينية؟
– لا تستطيع القول إن القوى الصاعدة الجديدة في تراتبية النظام الدولي، ستشكل بدورها إمبرياليات جديدة، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.
إن ذلك لا يعني أن الأقوى سيضع مصالح الأضعف فوق مصالحه الذاتية، لكن توازنات العلاقات مع قضايا ودول العالم الثالث لن يتم التعبير عنها بهذا المستوى من الخلل والانكشاف، الذي يكاد أن يصل إلى درجة القهر والعبودية.
وحتى إذا افترضنا أن البرجماتية والنفعية ستظل هي اللغة المعتمدة، من قبل كافة الأقطاب، فالأمر يبدو لي مختلفًا في سياقه التاريخي، فهناك فرق نوعي بين أمريكا أيزنهاور قديمًا، وبين أمريكا بايدن حديثًا، فالأولى كانت في مرحلة صعودها بالغة الحرص على أن تطلي وجهها بكل مساحيق الحرية والديمقراطية، وكأنها ممثلة إيقاظ الإنسانية من كبوتها.
لقد أنشئت المخابرات المركزية الأمريكية، بهدف أن تنشر مشروعًا ثقافيًا جديدًا، قادرًا على أن يغزو العالم، وأن يستحوذ بألوانه الزاهية على وجدانه قبل عقله.
في بداية الحرب الباردة، لم تكن الطائرات الأمريكية تلقي على دول الاتحاد السوفيتي مواد جرثومية، وإنما كانت تلقي من الفضاء قصائد الشاعر الأمريكي “تي . اس . اليوث”.
القوى الصاعدة أيًا كانت، تدرك أن عليها أن تقدم وجهًا جاذبًا، بغض النظر عما قد يخفيه تحت جلده، أما القوى التي تعاني من زلزلة الهبوط، فإنها تكون أكثر ميلًا إلى الغطرسة والعنف، ومحاولة فرض الإرادة بالإكراه والقوة.
من مصلحتنا باليقين، أن يكتمل التحول في هذا النظام الدولي.
* هناك أزمة وجودية للكيان الصهيوني تكاد “اسرائيل” تعترف بها علنا. فهل تجدي محاولات التطبيع نفعًا في إعطائها قبلة للحياة؟ وهل محاولات التطبيع الجارية لها أفق أم أن مخاطرها تفوق منافعها المتصورة لدى العدو؟
– تعبير وجود “أزمة وجودية”، هو تعبير صحيح، وعندما نستخدم هذا التعبير، فهو يعني أن هناك أزمة مركبة، متعددة الوجوه والأبعاد، وتتحد بين الوجود والعدم.
إن أحد وجوه الأزمة يتمدد في الداخل، ولذلك، فإن واحدًا مثل “اورئيل زايخمان”، أحد أبرز مؤسسي مركز هرتزليا، هو الذي يتحدث عن فاعلية ما أطلقت عليه “جرثومة التفكك” في الداخل، وهو يفسر ذلك بفقدان عامل الرؤية المشتركة بين مكونات المجتمع وبين الدولة، وانكماش سلطة الدولة بعد أن أصبح “السلفيون” يشكلون في مناطقهم ما يشبه الحكم الذاتي، وبعد أن جعلت الحرب الأخيرة على غزة، الفلسطينيين يشعرون بقوتهم وقد أصبح لديهم جميعًا استعداد للمواجهة، إضافة إلى العنف المتصاعد الذي يستخدمه “اليمين المتشدد” في أراضي الضفة الغربية والداخل ضد العرب، ثم الخطر الديموجرافي الذي تتسع وتائره.
أما الوجه الآخر للأزمة، فيتعلق بالدرجة الأولى، بالبعد الجيوستراتيجي الإقليمي، إن نقطة الضعف البالغة الوضوح والتأثير في بنية الكيان الإسرائيلي، وفي قدرته بالتالي على البقاء والتأثير في الإقليم، هي محدودية وانكماش العمق الاستراتيجي، وما يترتب على ذلك من إمكانية ضربه مساحيًا بأعداد لا تتجاوز المئات من الصواريخ.
لذلك، فإنني أرى أن البعد الأهم والأخطر فيما يتعلق بعمليات التطبيع والمصالحات اللاهثة المجانية، ليس الجانب الاقتصادي أو حتى الأيديولوجي فيها، وإنما ما يجري في عمقها على مستوى الجغرافيا الاستراتيجية، لإكساب “إسرائيل” عمقا، أو قل أعماقا استراتيجية لا تملكها، وهو حديث يحتاج إلى تفصيل، ولكننا يبدو أننا انتقلنا من مرحلة كان عنوانها هو “دمج اسرائيل في الإقليم” إلى مرحلة أخرى أصبح عنوانها هو “دمج الإقليم في إسرائيل”!
غير أن ذلك يتطلب شروطًا تبدو متناقضة تمامًا مع النسيج الحضاري والتاريخي والثقافي والعقائدي للإقليم، خاصة في قواعده الحضارية التاريخية، فالمطلوب هو إلغاء الذاكرة التاريخية، أو طمسها في الحد الأدنى، وتدمير العقيدة، أو تمييعها في الحد الأدنى، وكسر إرادة الشعوب، أو ارتهانها في الحد الأدنى، ودفن الذاكرة الاستراتيجية، أو تفتيتها في الحد الأدنى.
إن هناك مشروعًا متكاملًا يطل علينا لتحقيق ذلك، ولهذا تعتريك الدهشة من هؤلاء الذين يريدون أن يحققوا بأيديهم ما عجزت جيوش الدنيا أن تحققه بالحديد والنار.
إن المستعمرين البيض لم ينجحوا في فرض ذلك على قبائل قديمة من الهنود الحمر في أمريكا، ولهذا كان الطريق البديل هو الإبادة، فهل يمكن أن ينجحوا هنا؟
لست ممن يعتقدون ذلك.
* ما هو تقديركم للاتفاق النووي الإيراني وانعكاساته على الإقليم، في حال تمامه أولًا وفي حال فشله ثانيًا؟
– ما طالبت به إيران في المفاوضات، لا يمثل تعنتًا أو خروجًا على جوهر الاتفاق، فهي لم تجمد الاتفاق من جانبها، ولم تتجاوز بنوده المتفق عليها، كلا الأمرين جاء من جانب الولايات المتحدة. ولهذا من حق إيران أن تطلب ضمانات حقيقية بأن العقوبات سترفع ولن يتم فرضها مجددا، وأن جوهر الاتفاق لن يضاف إليه، أو يتم تعديله، وأن قضية الصواريخ “أرض- أرض” وغيرها من القضايا ذات الطابع الإقليمي، التي لم تتم الإشارة إليها في الاتفاق، ليست محلا للتفاوض، لأن المفاوضات لا تجري بغرض صياغة اتفاق معدل.
لقد أحاط اللوبي الصهيوني، وجانب من الخليج، طاولة المفاوضات بضغوط، للإطاحة بالطاولة نفسها، قبل الإطاحة بإمكانية الوصول إلى اتفاق، وكانت الضغوط كلها تنطلق من تكريس فهم يقول إن إيران لن ترضخ لاتفاق جديد ومعدل، إلا في ظل تهديد أمريكي حقيقي باللجوء إلى مقاربة عسكرية، ومع اعتقادي أن هذا الفهم تم وضعه أكثر من مرة في أنبوبة الاختبار، إلا أنه لم ينتج التفاعل المطلوب، وفيما بعد كان هذا اللوبي نفسه، هو الذي يملأ الإعلام ضجيجًا، بأنه نجح في أن تتبنى أمريكا هذا الفهم.
من المؤكد أن قضية الحرب على اليمن كانت لها الأولوية في حسابات السعودية، على أساس أن هناك تأثيرًا إيرانيًا هناك، وإذا كان من المؤكد أن هناك تأثيرًا إيرانيًا، فقد استبقه تأثير أمريكي وتأثير بريطاني وتأثير إسرائيلي، بل إن منتوج هذه التأثيرات هو الذي سمح بفتح نافذة أمام الأول. لكنني على الجانب الآخر، أستطيع أن أجزم بأن “أنصار الله”، لا يتلقون الأوامر من خارج حدود بلادهم، وأن لدى قيادتهم، وأخص السيد عبد الملك الحوثي، نزعة استقلالية عميقة وواضحة، بل أستطيع أن أجزم بأن الأمريكيين والبريطانيين يدركون هذه الحقيقة قبل غيرهم.
* هل ترون أن الأمور تتجه لحرب إقليمية في حال تدهور أمني في الأراضي الفلسطينية أو معركة كـ”سيف القدس”؟ أم أن الأمور قابلة للاحتواء؟
– لا أحد بمقدوره أن يستبعد كليّا إمكانية نشوب حرب إقليمية بسبب عامل ما، قد لا يبدو في ذاته مبررًا لنشوب هذه الحرب، لكنني أعتقد أن هذا هو الاحتمال الأضعف.
في تقديري أن أمريكا تريد “تهدئة موقوتة” لاستكمال فرض مفردات استراتيجيتها على دول النظام الإقليمي العربي، وفي مقدمتها، نقل فضاء الدفاع الخليجي إلى فضاء الدفاع الإسرائيلي، واستخدام كافة أسلحة الإكراه السياسي والاقتصادي لتقويض بعض هذه الدول من الداخل، وهذا حيز يحتاج على مستوى مفردات هذه الاستراتيجية، وعلى مستوى إعادة بناء الجغرافيا الاستراتيجية للإقليم، إلى كثير من التفاصيل.
وحتى فيما يتعلق بالقدرات العسكرية، ومن جانب واحد، فإنه وفقًا لحسابات تقدير الموقف العسكري من جانب استراتيجيين غربيين بارزين، فإن “اسرائيل” تحتاج لمواجهة حرب مع سوريا وحزب الله وحدهما، إلى خمس فرق عسكرية، قوام كل فرقة منها مائة ألف جندي.
ووفق التقديرات نفسها، فإن أمريكا ليست جاهزة لنقل قوات برية للسيطرة على العراق، وفي حال اندفاعها إلى حرب مع سوريا وحزب الله والفلسطينيين فقط، فإنها تحتاج إلى 400 ألف جندي، وفي حال دخولها في معركة، تقتصر على قواتها الجوية وحدها ضد إيران، فإنها تحتاج إلى تواجد 20 ألف جندي أمريكي.
خيار الحرب الإقليمية هو خيار معقد للغاية، ولك أن تلاحظ أن “هنري كيسنجر” نفسه وهو استراتيجي نابه، وصهيوني صالح، هو الذي أطل برأسه قبل أيام، كي يهدئ من اندفاعة معسكر الحرب في أمريكا الذي استيقظ على وقع طبول الحرب في أوكرانيا.
لكن ذلك لا يعني تهدئة شاملة، أو تسوية ممتدة، أو اعترافا بموازين قوى قائمة في الواقع، لذلك أحسب أن النمط الذي سيظل سائدا، اسرائيليًا وأمريكيًا، هو نمط “المعركة بين الحروب” بكل مفرداته، بما في ذلك الإغارة، والقصف والتفجيرات والاغتيالات، وكافة أعمال المخابرات.
* توقعتم منذ زمن بعيد ما اصطلحتم عليه بـ” جرثومة التفكك”، وقد أيدت أحداث السنوات الماضية رؤيتكم. فهل تغير التحولات الاستراتيجية الدولية الراهنة خيار الحكومات أم تخلق استقطابات متنافرة تقود لمزيد من التفكك؟
– للأسف، أستطيع أن أضيف أن “جرثومة التفكك” التي أشرت إليها في وقت سابق، قد أصبحت أكثر حيوية، بل أصبحت رحما لولادة جراثيم تفكك جديدة.
فهناك جرثومة تفكك في دول الليبرالية الجديدة، بين السلطات والشعوب، وهناك جرثومة تفكك بين الطبقات الاجتماعية وبعضها، وهناك جرثومة تفكك بين القطاع المدني والقطاع العسكري، وهناك جرثومة تفكك بين الهويات المتصادمة، التي لم تتوقف بدورها عن انتاج هويات فرعية، تدخل بدورها في صراع هويات يبدو لا نهائيا.
قبل الأزمة الاقتصادية الحالية، وعلى امتداد خمس سنوات سابقة، تضاعفت نسبة المشردين في بريطانيا بنسبة 100%، فقد أصبح هناك مشرد من بين كل 200 بريطاني، بينما في فرنسا أصبح 1 من بين كل 5 من السكان، لا يستطيع تناول ثلاث وجبات يوميا.
وقبل الأزمة الحالية بعامين فقط، كانت أوروبا هي الخاسر الأكبر من تدفقات الاستثمارات الدولية “F.D.I”، فقد سجلت تراجعا في هذه الاستثمارات بالمطلق من مستوى 203 مليارات دولار عام 2019 إلى “ناقص 7” مليارات في العام 2020، أي أن ما خرج منها أكثر مما دخل إليها، وفي أمريكا نفسها كانت 61% وفي إيطاليا 79% وفي تركيا 32%.
إننا أمام مؤشرات واضحة، لارتفاع نسبة التضخم، ووصول هذه النسبة إلى 20% في هذه المرحلة يعني وصول الاقتصاد الغربي إلى ما أطلق عليه “السكتة الدماغية”.
لاحظ أن المؤرخين الغربيين أنفسهم هم الذين برهنوا على أن أهم عوامل قيام الثورتين، “البلشفية” في روسيا، و”الماوية” في الصين، إضافة إلى الثورة الفرنسية نفسها، هو أزمة الجوع وارتفاع أسعار المواد الغذائية.
إذا سألتني عن حل، فربما تكون الإجابة هي تحديدًا قتل “جرثومة التفكك”، لكن ذلك ينطوي على صعوبة بالغة، لأنها للأسف تعيش في عقل نخب الليبرالية الجديدة.
لقد وضع “فلاديمير اليتش لينين” نظرية سياسية اختار منطوقها عنوانا لأحد أهم كتبه، وهذا العنوان هو ” الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، وربما أكون صالحا لأضيف نظرية أخرى، أضعها عنوانا لأحد كتبي، وهذا العنوان هو “الفوضى هي أعلى مراحل الإمبريالية”.
* نرى ما يشبه التمرد السعودي على الإدارة الأمريكية وكذلك محاولات إماراتية للتحوط وموازنة العلاقات مع روسيا والصين.. فهل الدول الخليجية قادرة بالفعل على الخروج من العباءة الأمريكية؟
– لقد ابتكرت مدرسة الديبلوماسية المصرية، في أوجها، مبدأ هامًا في علاقاتها الخارجية، ومارسته لمئات السنين في مواجهة تغول القوة الاستعمارية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “المضاربة بين القوى الكبرى”.
ولم يكن “جمال عبد الناصر” هو أول من سعى إلى تعميق علاقاته مع الاتحاد السوفياتي في مواجهة أمريكا والغرب، كشكل من أشكال هذه المضاربة، ولكن سبقه بمائة عام “علي بك الكبير”، الذي تحالف مع روسيا القيصرية، وقد كان لدى الرجل مشروع متكامل لبناء مصر اعتمادًا على الذات، قبل صعود “محمد علي” بعقود، ولكن تجربته تمت تصفيتها، ومحمد علي نفسه هو الذي تحالف مع فرنسا في مواجهة خصومه.
أقول هذا لأن القاعدة هنا في الحكم على ما أطلقت عليه تمرد سعودي أو موازنة إماراتية، هو مدى اقترابه من مبدأ “المضاربة بين القوى”، وإذا لم يكن ذلك من قبيل المضاربة السياسية فماذا يكون؟ إنني لا أخاله تمردًا، أو بحثًا عن توازن بقدر ما يبدو مجرد طمأنة لجانب، ومجرد محاولة لتحسين شروط التبعية مع الجانب الآخر
Samar Alattafi، Amal Kamal و٨٥ شخصًا آخر
١٥ تعليقًا
٤١ مشاركة
أعجبني
تعليق
مشاركة