غالب قنديل | رئيس مركز الشرق الجديد
يعيش الكيان الصهيوني يوميات سجال وجدل متواصل، تعكس الصحفُ وسائرُ وسائل الإعلام بعضا من موضوعاته، التي تنطلق من وقائع التحولات والتغييرات الجوهرية، التي فرضها حلف المقاومة على صعيد البيئة الإقليمية ومعادلاتها وتوازناتها، بعد ظهور متلازمة الهرب الصهيوني القسري من لبنان، ثم من قطاع غزة، أمام حركات المقاومة. في حين أنشأ محور المقاومة من حول فلسطين المحتلة طوقا صاروخيا وقتاليا رادعا، يتعاظم، وهو بات يرسم الحدود القاهرة للغطرسة العسكرية الصهيونية في المنطقة.
أولا: لعلّ أشدّ المفارقات إيلاما للغطرسة الصهيونية أن يمتلك قطاع غزة المحاصر بعضا من القدرات، التي رسمت توازنا جديدا، يغلّ العربدة الصهيونية، وأن يتمكّن مهندسون فلسطينيون شجعان من تكنولوجيا صناعة الصواريخ وتطويرها واستخدامها لبناء معادلات رادعة، لم يعرف الصراع العربي الصهيوني مثيلا لها من قبل. وما كان ذلك ليتحقق لولا متانة التحالف بين سورية وإيران وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين، وتحوّله إلى منظومة متكاملة متساندة، تتبادل الخبرات والمعلومات، وتُطوّر، وتبني شبكة دفاعية متكاملة ومنسجمة، تحتضن المقاومة وفصائلها المقاتلة، وتمدّها بالدعم والمساندة السياسية والإعلامية والعسكرية اللازمة، وتستند إلى منظومات مشتركة لتبادل الخبرات ومراكمتها.
ثانيا: إن هذه المنظومة الإقليمية، التي تقضّ مضجع الكيان الصهيوني ورعاته في الغرب الاستعماري، كما تقلق رعاديد الإذعان للصهيونية وثكنتها المدجّجة الجاهزة للعدوان. في حين أن القوى الحية والفتية، التي تمثّل خيار المقاومة الشعبية والعسكرية ضد أخطبوط القهر والاحتلال والعدوان، باتت هي اليوم صاحبة اليد العليا في جميع الميادين، وتثبت تفوّقها الإعلامي والسياسي والثقافي والميداني ضدّ القوة العدوانية المتغطرسة، المحصنة بأوسع أشكال الدعم والاحتضان من الدول الغربية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة. وهذه المفارقة تولّد ظرفا أصيلا على صعيد الشرق، وتطلق تداعيات وتحولات كبيرة، على صعيد توازن القوى العسكري المتصل بالصراع العربي الصهيوني، وبتعاظم قدرات الردع، التي تمتلكها كلّ من سورية وإيران وفصائل المقاومة في لبنان وقطاع غزة، وكذلك مع المستجدات الإقليمية والتداعيات الناشئة عن التحوّلات العراقية الحية سياسيا وعسكريا وشعبيا، والتي باتت في إطار المكونات العضوية للمحور التحرّري الصاعد.
في هذه البيئة الإقليمية، يبدو بكلّ وضوح، أن الصورة قد انقلبت. فالكيان الصهيوني بات في حالة انكفاء سلبي وعجز عن المبادرة، وهو بالكاد يستطيع الحفاظ على احتلاله بالحديد والنار والقتل. بينما تفرض عليه المقاومة داخل فلسطين حالة من النزيف الدائم، التي تنعكس آثارها العسكرية والاقتصادية والسياسية في يوميات التطور الإقليمي النوعي، الذي نشهد وقائعه وتراكماته المدهشة، وانقلاب الصورة النمطية لتسيّد الآلة العسكرية الصهيونية المتجبّرة منذ حرب حزيران الـ 67، والتي هزتها حرب تشرين، ولا سيما على الجبهة السورية. في حين مرّغتها بالوحل بعد اجتياح العدو للبنان عام 1982 المقاومة، التي فرضت على كيان العدو أول انسحاب قسري بالقوة، وكان الإنجاز العظيم والتتويج الواسع لهذه الحقبة في انتصار لبنان خلال حرب تموز 2006. وقد استُكمل الإنجاز اللبناني بما حقّقه أبطال المقاومة الفلسطينية في غزة المحاصرة، عندما أجبروا جيش العدو على الرحيل، وهم، أي المقاومون الفلسطينيون في غزة وسائر أنحاء فلسطين، يطوّرون من المعادلات القاهرة، ويراكمون المزيد من القوة والخبرة.
ثالثا: إن الكيان الصهيوني وداعميه في الغرب الاستعماري باتوا في محنة التحوّلات، التي يفرضها صعود محور المقاومة وعمق التشبيك الجاري بين أطرافه من سورية الى إيران وفلسطين ولبنان والعراق، وهو واقع شديد الوطأة بانعكاسه على المنظومة الاستعمارية الصهيونية وهيمنتها في المنطقة. وهذا الانقلاب في البيئة الإقليمية يفرض نفسه في جميع المجالات، وهو مرشّح لأن يشعّ بنتائجه، ويطلق تحولات جديدة عميقة اقتصادية وسياسية وثقافية على صعيد المنطقة والعالم. ويمكن لنا القول إن آفاق تحرّر إيران قريبا من قيود الحصار والعقوبات، ستحمل معها بشارة لجميع الشركاء والحلفاء. ويمكننا الجزم بأن نهضة القوة الاقتصادية والعسكرية الإيرانية في المدى المنظور، ستكون إيذانا برفد القدرات والإمكانات الاقتصادية وفرص التنمية في جميع البلدان الشقيقة والحليفة.
أثبتت الجمهورية الإسلامية في مسارها، طيلة العقود الماضية، إيثارا واضحا والتزاما حاسما بدعم شركاء المصير في المحور. وهذا ما بيّنته التجارب والمحن، ورسّخته بقوة رغم الحصار والضغوط. فوقفة إيران مع لبنان الشعب والمقاومة، ومع سورية الجيش والشعب والدولة الوطنية، وكذلك مع العراق بفصائل مقاومته وشعبه ضد الاحتلال الأميركي والحصار والضغوط، وأولا وثانيا وعاشرا مع فلسطين وشعبها وفصائلها المقاومة، إنما تثبت حقيقة التضامن المشرقي، الذي تُظهِر إيرانُ في سياقه كلَّ التقدير لتضحيات جميع الأشقاء في صمودهم ومعاركهم، التي ترتدّ إيجابيا على سائر أطراف المحور، وتحصّن بنتائجها جميع الشركاء ضد سائر أنواع الضغوط والتهديدات، التي تمارسها أو تلوّح بها أطراف الحلف الاستعماري – الصهيوني وأدواته الإقليمية العميلة. وقد برهنت غزوة التكفير، التي هي حرب خبيثة بالواسطة لتفتيت المجتمعات في الإقليم، أن محور المقاومة كان متساندا قادرا بجميع قواه وإمكاناته، وامتلك بذلك القدرة على قلب المعادلة، وتبديد الغزوة الأخبث والأكثر لؤما في تاريخ الصراع ضد الغرب الاستعماري، الذي استعان بأدوات الغزو والاحتلال في الفصول الأخيرة من حرب التكفير، التي شنّها وقادها من خلف داعش والقاعدة، فإذا به يعود الى أنماط الغزو العسكري المباشر، بعد انهزام عصابات التوحّش الإجرامية، التي تبدّدت على أرض الشرق العربي. وبالتالي، فإن الواقع الجديد، الذي يسطّر مزيدا من التحولات والتراكمات، يحمل معه بشائر عظيمة للمنطقة بسائر بلدانها، وبالذات للمحور التحرّري المقاوم بجميع أطرافه.