الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
ما إن انتهت حرب تموز بانتصار جديد على “إسرائيل”، بعد خروجها من الجنوب اللبناني من دون شروط، حتى خرج الرئيس بشار الأسد في خطابه الشهير الذي ألقاه في مؤتمر الصحافيين الرابع في دمشق 15 أغسطس/آب 2006، معلناً انتصار سوريا وخروجها من التهديدات المباشرة التي أحاطت بها على مدى 6 سنوات، والانتقال إلى خارطة جديدة للمنطقة، استعادت فيها دورها الإقليمي كرقم صعب لا يمكن تجاوزه.
كان خيار دمشق واضحاً بإظهار عمق تحالفها وشراكتها التي لا غنى عنها مع محور المقاومة، الذي تشكَّل بعد انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران في العام 1979، واستند إلى قاعدة أساسية للعقل السوري: “ثمن المقاومة أقل من ثمن الاستسلام”، وأخذ بعداً أكثر وضوحاً بعد التحية العسكرية التي أداها مقاتلون من “حزب الله”، بعد وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد، بشكل اعتبر تحدياً واضحاً لتوجهات الإدارة الأميركية والدور الإسرائيلي المتزعزع في المنطقة.
أدركت دمشق بعد مضي عام ونيف أنها دخلت في دائرة الاستهداف المباشر، بعد انهيار برجَي التجارة العالمية في نيويورك على أيدي مجموعة من تنظيم “القاعدة”، بحسب الادعاء الأميركي، والتي فضحها في ما بعد الجنرال الأميركي ويسلي كلارك، الذي سرَّب المشروع الأميركيّ الّذي وضعه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومساعده بول وولفوفيتز، القاضي بإسقاط 7 دول خلال 5 سنوات، تبدأ بالعراق، ثم سوريا ولبنان، وتنتهي بإيران.
بدا الأمر أكثر وضوحاً بعد اجتياح الولايات المتحدة للعراق، ووصول الجيش الأميركي إلى معبر القائم على الحدود السورية العراقية، ووصول رئيس الهيئة المشتركة لأركان الجيش الأميركي كولن باول إلى دمشق، حاملاً شروط الاستسلام مقابل عدم غزو سوريا وإسقاط نظامها السياسي، فكان الرفض السوري واضحاً، وجاء الرد عليه بتفعيل عمليات المقاومة في العراق، وإغراق الأميركيين في الرمال العراقية، منعاً من الاستقرار فيه ولعدم إتاحة الفرصة لهم للتوجه نحو إسقاط دمشق وبيروت.
تصاعدت التهديدات الأميركية لدمشق بعد إصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1559 في 2 سبتمبر/أيلول 2004، القاضي بخروج القوات السورية من لبنان، ما يدفع إلى نزع غطاء حماية المقاومة في لبنان، وتحويله من جديد إلى الخاصرة الرخوة التي تهدّد دمشق بشكل مباشر، فلم يجدِ هذا الأمر نفعاً في تغيير التموضع السياسي لدمشق، وذهبت بعيداً في مواجهة القرار، عبر توفير البيئة القانونية لتمديد رئاسة إميل لحود 3 سنوات في البرلمان اللبناني، ورفض الخروج من لبنان إلا بموجب طلب من الحكومة اللبنانية.
اشتدَّت الضغوط بشكل كبير على سوريا بعد عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، وعودة الانقسام اللبناني إلى الظهور بشكل عمودي بين فريقي أميركا والمقاومة، وتسييس عملية الاغتيال باتهام دمشق بها بشكل مباشر، وإرسال فريق من المحققين الدوليين بقيادة ديتليف ميليس، الذي كانت مهمته الأساس توفير البيئة القانونية لاتهام الرئيس الأسد مباشرةً بقرار عملية الاغتيال، ما يبرر مطالبة محاكمته في محكمة الجنايات الدولية، وإخضاع سوريا للبند السابع في مجلس الأمن الدولي.
لَم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تجاوزه نحو إظهار المزيد من الضغوط الداخلية، بإبراز دور المعارضة السورية التي استغلّت فرصة الضغوط الأميركية، وذهبت للتوقيع على إعلان دمشق في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2005.
توسّع المشروع الأميركي الذي عجز عن إسقاط دمشق بالذهاب نحو دفع “إسرائيل” إلى القيام بحرب واسعة على لبنان للقضاء على “حزب الله”، في سياق تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الَّذي صرحت به وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، فلم يكن أمام سوريا سوى اتخاذ قرار المواجهة إلى النهاية، ولو تطلَّب الأمر منها التدخل العسكري المباشر، فبادرت إلى فتح حدودها أمام المدنيين اللبنانيين المستهدفين، واحتضانهم في بيوت السوريين الذين اندفعوا نحو استضافتهم وتقديم كلّ سبل الحياة المميزة لهم.
لَم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تجاوزه إلى استمرار الدعم العسكري الكبير، وخصوصاً صواريخ “الكورنيت” الروسية التي أُدخلت خلال فترة وقف إطلاق النار المؤقت، وتم إيصالها إلى الجنوب اللبناني، ما أدى إلى انكسار الهجوم البري بشكل كارثي، بعد مجزرة الدبابات الإسرائيلية في وادي الحجير.
خرجت دمشق من الحرب وهي تعتبر نفسها المنتصر الأول فيها، بفعل ما قدَّمته عسكرياً وسياسياً ومدنياً للمقاومة على مدى عقدين من الزمن، وبفعل نتائج الحرب التي أعادتها إلى مركز القرار الإقليمي الذي لا غنى عنه، لتبدأ مرحلة جديدة من التخطيط الأميركي لاحتوائها ضمن بيئة اقتصادية جديدة، للاصطفاف مع محور أنقرة- الدوحة المُغري اقتصادياً، وإعادة الحرارة إلى العلاقات السعودية السورية، وتحويل مسار المحكمة الدولية بنزع الاتهام عن دمشق في قضية اغتيال الرئيس الحريري.
رغم محاولات دمشق إقامة نوعٍ من التوازن في علاقاتها الإقليمية، فإنَّ قرارها المؤكد اليقيني هو البقاء ضمن محور طهران دمشق، بعد أن ثبت لها بالدليل القاطع أنه الصمام الوحيد لبقاء الدولة السورية أمام العواصف التي لا يمكنها أن تتوقَّف في أخطر منطقة في العالم.
لَم تكن تجربة حرب تموز التجربة الوحيدة، ولن تكون معركة “سيف القدس” الأخيرة في فلسطين، فهناك المزيد من المعارك والحروب القادمة، التي تتطلَّب بنية سياسيّة واقتصاديّة داخليّة ترتقي إلى مستوى التحدّيات والتهديدات، ومستوى المكاسب الكبرى، جراء الانكفاء الأميركيّ المستمرّ. ومن المنتظر أن تعلن الولايات المتحدة هزيمتها خلال السنوات القادمة، في إطار نظام إقليميّ ودوليّ جديد.