تنتشر مساعي التطبيع بين الإعلاميين اللبنانيين كالخليّة السرطانيّة. يتباهى من يمجّد «دولة إسرائيل» أكثر من زميله. يتلطّى هؤلاء، للتعمية على التبرير لجرائم العدو، خلف عبارة «إسرائيل ما عملت فينا متل ما السياسيين عملوا»، فبنظرهم فساد السلطة يُعطي «إسرائيل» صكّ براءة. وكي لا تنحصر القضية بإطلالة الإعلاميّة ماريا معلوف على الإعلام الإسرائيلي، والتي ربما تكون «الأفشل» في الترويج للتطبيع، هناك ما هو أخطر من مجرّد إطلالة. منذ مدّة، بدأ إعلاميون بحملة إعلاميّة ممنهجة هدفها تمجيد «إسرائيل» والترويج لتقدّمها وتطوّرها، وإظهار التطبيع معها خلاصاً للبنان وشعبه، أو «تابوهاً» قد انكسر. على سبيل الانحلال، أشاد نديم قطيش في برنامجه «الليلة مع نديم» («سكاي نيوز») في حلقة بعنوان «إسرائيل تساعد مزارعي لبنان» «بمساعدة» العدو للمزارعين على الحدود في ظلّ الأزمة الاقتصادية، بعدما «سمح» لهم بقطاف الزيتون في أراضيهم، متسائلاً «من هو العدو الحقيقي للبنان؟». في الشكل، اعترف قطيش بـ«إسرائيل» دولة حدودية، مستخدماً عبارة «على الحدود مع إسرائيل». وبمعزل عن الحقيقة الجلية، فهو يناقض، تبعاً للاتفاقيات الدوليّة الذي ينادي للالتزام بها، التسمية التي وردت في المادة الخامسة (الفقرة 1) من اتفاق الهدنة العامة بين لبنان و«إسرائيل» 1949 والتي تنصّ على اتباع «خط الهدنة الحدود الدوليّة بين لبنان وفلسطين»، رغم أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن لم يتخليا عن الاتفاقية رسميّاً. أما في المضمون، وعلى عكس ما روّج له، فقد أكّد عدد من المزارعين أنهم يقومون بقطف الزيتون في الكروم كما كل عام، من دون منّة أو إذن من أحد، وأن تلك البوابات التي ادعّى الاحتلال فتحها «لمساعدتهم» صارت مهزلة منذ اليوم الثاني من تثبيتها قبل ستّ سنوات، وأنهم أنهوا القطاف قبل افتتاحها. فلماذا يُصدّق إعلامي لبناني (أو يدّعي أنه صدّق) رواية العدو؟ هل يعرف قطيش كم مرّة أطلق الجيش الإسرائيلي رصاصات في الهواء لترهيب المزارعين؟ وأن هذا حصل حتى بعد إعلان فتح البوابات؟ هل يعرف عدد المرّات التي اختطف فيها جيش الاحتلال رعاة ماشية على الحدود؟ يريد الإعلامي بوقاحة، أن يمنّن اللبنانيين، جنباً إلى جنب العدو، بأرضهم وثروتهم ورزقهم وزيتونهم. وأن يُضلّل الرأي العام، مُظهِراً عدوّ لبنان ملاكاً إنسانيّاً. العدو نفسه شريك الحصار، مخترق السيادة، مجرم الاجتياح، مرتكب المجازر من المنصوري إلى قانا إلى معتقل الخيام وعدوان تموز، إلى أمطار القنابل العنقودية فوق بساتين اللبنانيين. قاتل محمّد طحّان، بدمٍ بارد، على الحدود لرفعه راية فلسطين. يختصر قطيش كل ذلك بـ«المشاكل التقنية». بالنسبة إليه، عادي أن يُقيم العدوّ بوابات كمعابر الموت في غزّة، وأن «يهبنا» أرضنا صباحاً، ثم يسرق ثروتنا النفطيّة ليلاً، التي تغطي «المساعدات» المعروضة منه للبنان ألف مرّة. هل يعلم قطيش أن دين مصر بلغ 115 مليون دولار بعد وفاة جمال عبد الناصر، ثم ارتفع هذا الرقم إلى مئة مليار دولار بعد توقيعها اتفاقاً مع «إسرائيل»؟ يدّعي الإعلامي، في الحلقة نفسها، أنه كان لدى «إسرائيل» فرصة عام 1975 لاحتلال الجنوب «بس ما عملتها». يعتقد بتضليله هذا، أن بإمكانه طمس علانية مشروع «من النيل إلى الفرات». يحتفي الإعلام الإسرائيلي بكلام قطيش. ينشر حساب «إسرائيل بالعربية» التابع لوزارة الخارجية الإسرائيليّة ما قاله مرّة في مقابلة تلفزيونية على LBCI، عن المرتبة المتقدّمة التي وصلت إليها «إسرائيل». يومذاك، لم تستطع قناة CNN نفسها ابتلاع حفلة «تمسيح الجوخ» تلك، عارضة الخبر مع إضافة أنها «معلومات لا يمكن تأكيد صحّتها». ألا يوجد غير عدوّ لبنان الأوّل لضرب المثال به؟ منذ سنوات ليست ببعيدة، لم تكن فكرة الحديث عن «إسرائيل» وقوتها أمراً مرغوباً أو حتى متاحاً. ولم يكن بوارد أي إعلامي لبناني أن يقبل «بإسرائيل» أو أن يعترف بها.
أما في التشريعات اللبنانية، فقد تبنّى لبنان «قانون مقاطعة إسرائيل» الصادر عن جامعة الدول العربية عام 1951، الذي يحرّم أي نشاطات مالية أو تجارية مع «إسرائيل». وما يؤكّد ضرورة سلاح المقاطعة، هو إقرار الكنيست سابقاً لقانون يجرّم كل من يعمل على مقاطعة الكيان أو «مواطنيه» ومؤسساته. يؤدي التطبيع الثقافي والإعلامي إلى شرعنة الكيان أكثر من أي اتفاقية، ما يمهّد لتقبَّل «إسرائيل» ككيان شرعي وحاجة اقتصادية. صحيح أن المادة الأولى من القانون جاءت بعبارات عامة تغطي كل أنواع التعامل من أيّ نوع كان مع «إسرائيل»، إلا أنه بمجمله لم يتطرّق إلى عناوين عدة منها الترويج للعدو وبناء الصداقات الافتراضية معه. يغفل هذا القانون اللبنانيين الذين يبنون «الصداقات الافتراضيّة» مع «إسرائيليين» على المنصّات الرقميّة، وهي ظاهرة تكاثرت في الآونة الأخيرة، لتُشكّل خطراً على لبنان ليس أمنيّاً فقط إنما ثقافيّاً أيضاً. كما لا يتطرّق إلى اللبنانيين الذين يتصلون بـ«إسرائيليين»، عبر وسائل الاتصالات، أو مقابلتهم شخصياً ومصادقتهم في دولة ثالثة، سيما فنانين أو مؤثرين أو أكاديميين «إسرائيليين». كذلك، لا يذكر اللبنانيين الذين يروّجون لـ«إسرائيل» أو يمجدّونها أو يسعون إلى تلميع صورتها أو للتطبيع معها عبر أي وسيلة إعلاميّة أو رقميّة، إلى جانب نقاط كثيرة أخرى.
عندما يسأل إعلامي لبناني «من هو العدو؟» مخيّراً اللبنانيين بين لبنانيين آخرين و«إسرائيل»، فهو يحرّضهم على بعضهم، وهو ما يجرّم عليه قانون العقوبات بحسب المادة 317. وعندما يتخلّى عن لبنانية مزارع شبعا، التي قدّم لبنان أوراقه التي تثبت لبنانيتها للأمم المتحدة، يتعرّض لعقوبة الاعتقال خمس سنوات على الأقلّ «لكل لبناني حاول بأعمال أو خطب.. أن يقتطع جزءاً من الأرض اللبنانيّة..»، وفق المادة 277. لكن هناك حاجة لتشريع قوانين جديدة تطال الترويج للعدو إعلاميّاً، وبناء الصداقات افتراضياً. وليعلم قطيش وأمثاله، سواء وُجد هكذا قانون أم لا، فإننا نحن، صحافيون وإعلاميون وناشطون وأكاديميون، سنقف في وجههم في هذه المعركة الجديدة، وسنلاحقهم بالقانون وبالرأي العام، وسندعو لمقاطعة حساباتهم وبرامجهم مثلهم مثل الحسابات والبرامج المعادية.