كتب زياد غصن .
مع تحذير الرئيس بشار الأسد، الشهر الماضي، من خطر «النيوليبرالية» على المجتمع السوري، يتصاعد الجدل في شأن كيفية التصدّي لذلك الخطر، الذي لا يبدو أقلّ شأناً من تداعيات الحرب على الروابط الاجتماعية والقيم المشتركة. وفيما يبدو أن التوجّه الحكومي ينحو إلى إيلاء البعد الاجتماعي الأولوية، دون الاقتصادي، مع تصدير دور المؤسّسة الدينية في هذا الإطار، تُطرح تساؤلات حول نجاعة الانتقائية في هذه المواجهة، وخصوصاً في ظلّ وجود ظواهر تُمثّل نذير خطر على مستوى السياسات الاقتصادية
بين مؤيّد ومعارض، مسلّح وأعزل، نازح ومقيم، لاجئ ومهاجر، غني وفقير، تعيش كثير من الأسر السورية على وقع الانقسامات الاجتماعية بين أفرادها. وإن نجت بعضها من تلك الانقسامات، إلا أنها لم تسلم من تأثيرات الخلل العميق الذي أصاب الروابط الاجتماعية والقيم المشتركة جرّاء الحرب. ويُعدّ هذا ــــ في نظر البعض ــــ الأخطر مقارنة بالأضرار الاقتصادية، التي، على هول حجمها، تبقى فرصتها في المعالجة أكبر، نظراً إلى الاهتمام الذي تلقاه مجتمعياً وحكومياً. فمثلاً، مقابل عشرات المشروعات والخطط الاقتصادية والاستثمارية، العامة والخاصة، الهادفة إلى إعادة بناء ما دَمّرته الحرب وتعويض ما تسبّبت به من خسائر، ليس هنالك ملامح لأيّ مشروع سياسي ــــ فكري ــــ اجتماعي حتى الآن، غايته الحدّ من تأثيرات الحرب ومعالجة ندوبها الاجتماعية المؤلمة.
وقد تكون نتائج مسح السكّان لعام 2014 هي البيانات الإحصائية الوحيدة المتاحة، التي حاولت تلمّس حجم الضرر الذي لحق بالحياة الاجتماعية للسوريين. وبحسب تلك البيانات، فقد تراجع دليل رأس المال الاجتماعي في سوريا حوالى 30% أثناء الأزمة مقارنةً بما قبلها. ووفق تعريف الباحث زكي محشي، في محاضرة له في جمعية العلوم الاقتصادية، فإن «رأس المال الاجتماعي هو ما يراكمه المجتمع من قيم مشتركة، وثقة متبادلة، وروابط وشبكات اجتماعية بين أفراده وجماعاته، مؤثرة ومتأثرة بالمؤسّسات الناظمة للحياة العامة». ويضيف محشي إن «رأس المال الاجتماعي يرسّخ أسس التماسك والاندماج الاجتماعي، وتُعدّ القيم والأخلاق المشتركة جوهره، بما تُرسّخه من حرّيات عامة وخاصة تحفظ كرامة الإنسان واستقلاله، وتدفع باتجاه خدمة المصلحة العامة». وبذلك، فهو يتكوّن من ثلاثة مكوّنات أساسية: القيم والتوجّهات المشتركة، الثقة المجتمعية والشبكات والمشاركة المجتمعية.
ولعلّ من أخطر ما خلصت إليه نتائج مسح السكان في رصدها للتحوّلات التي طرأت على دليل رأس المال الاجتماعي، هو حدوث «تراجع كبير في مكوّن الثقة المجتمعية في سوريا خلال الأزمة بنسبة بلغت 47%، ليُحقّق بذلك أدنى مستوى له، بفعل انهيار الشعور بالأمان ــــ بالدرجة الأولى ــــ، والذي شهد انخفاضاً كبيراً على مستوى البلاد بلغ حوالى 60%، في نتيجة طبيعية لانتشار الظواهر السلبية في المجتمع، فضلاً عن تراجع الثقة بين الأفراد بحوالى 31%». ومن هنا، يأتي التخوّف من خطر تفكّك الأسرة السورية تحت ضغط تأثيرات الحرب السابق ذكرها، والانتشار المتزايد لتقنيات العصر وشبكات التواصل الاجتماعي.
انتقائية في المواجهة
لكن، يبدو أن الخطر الذي يتهدّد المجتمع السوري لم يعد يتوقّف على تأثيرات الحرب؛ فالرئيس بشار الأسد حذّر، في كلمته أمام رجال الدين، الشهر الماضي، من الخطر الذي باتت تمثّله «النيوليبرالية» على المجتمع السوري، وتحديداً من خلال استهدافها المباشر للأسرة والقيم والعادات والحقوق الوطنية، وهذا ما دفع بالمؤسّسات الحكومية والدينية والأهلية إلى إطلاق ما يشبه «إعلان حرب» على «النيوليبرالية»، في توقيت يَنظر إليه الباحث السياسي والأكاديمي، عقيل محفوض، من نافذة أن «الحرب كشفت أن المجتمع السوري كانت لديه قابلية كبيرة للاستقطاب بل والانفجار، ليس بفعل أوضاع داخلية فحسب، وإنما بفعل تأثيرات خارجية أيضاً، وهي قابلية أو بالأحرى قابليات، ربّما لم تكن منظورة. ومع تراجع المواجهات العسكرية، يقرأ النظام السياسي والدولة ما يعتقدان أنها جبهة مواجهة لا تقلّ أهمية وخطورة عن سابقاتها، العسكرية أو السياسية، وخاصة أن الاستحقاقات المقبلة تتطلّب العمل على البنى الاجتماعية واتجاهات القيم لديها». ويضيف محفوض، في حديثه إلى «الأخبار»، أنه «يمكن الإشارة إلى أن تغيير نظم القيم الاجتماعية هو أحد رهانات الحرب، ولا بدّ أن ذلك سيتواصل مع أيّ تسوية محتملة، كما أن الإسراع لكسب التأييد الاجتماعي من بوّابة الدفاع عن القيم يُمثّل أحد دوافع النظام السياسي والدولة لفتح هذه المعركة، أي معركة القيم، في مواجهة ما يعدّه ليبرالية حديثة». وسواء كان ذلك في إطار العدوى التي تصيب المجتمعات والدول بلا استئذان، أو نتيجة الفعل الداخلي والخارجي، فإن العديد من الباحثين يعتقدون بأن جزءاً من جذور الأزمة السورية كان في بعض التحوّلات الثقافية والاجتماعية وسياسات الانفتاح الاقتصادي غير المدروسة التي شهدها المجتمع السوري خلال سنوات ما قبل الحرب، وحملت إليه تأثيرات وعادات وسلوكيات جديدة، أسهمت في تغيّر النظرة العامة لدى شريحة واسعة من المواطنين تجاه الدولة والمجتمع، وهو ما يؤشر إلى أن تهديدات «النيوليبرالية» للمجتمع السوري أكثر من جدّية في هذه المرحلة الحرجة اقتصادياً واجتماعياً.
إنما هل يمكن أن تكون هناك انتقائية في مواجهة «النيوليبرالية»، بمعنى التركيز على جانب دون آخر، وتحديداً الاجتماعي دون الاقتصادي؟ بحسب محفوض، فإن «هذا ممكن، لكن يمكن وضعه في إطار تخيّر النظام السياسي والدولة لأجندتهما أو أولوياتهما في المرحلة المقبلة». ويشير إلى أن «ثمّة طبقات أو أطيافاً أو أنماطاً أو مستويات للنيوليبرالية: سياسية، ثقافية، اقتصادية، وبالطبع اجتماعية، وهذا يطرح أسئلة من قبيل: هل يمكن الفصل بين الليبرالية الاقتصادية، التي تجدُّ السياسات الحكومية فيها، بلا أدنى تحرّج، والليبرالية السياسية، التي تُمثّل بالنسبة إلى النظام السياسي والدولة، أحد محدّدات رهانات التسوية لدى خصومهما، وأحد ثوابت النظام العالمي اليوم؟ تبدو المهمّة بالغة الصعوبة، لكن المواجهة في هذا الباب أمر لا مناص منه». أمّا الباحث زكي محشي، فله رأي آخر، ففي «الأدبيات العالمية مثلاً، ليس هناك فصل واضح بين النيوليبرالية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبتعبير آخر فإن النيوليبرالية هي ترتيبات سياسية واقتصادية واجتماعية في بلدٍ ومجتمع معيّن، تؤدّي إلى تعزيز علاقات السوق، وتفضيل الربحية، وتخفيف دور الدولة لمصلحة الفردانية، وتعزيز التنافسية على مستوى السوق والمجتمع والأفراد»، أي أن مفهوم «النيوليبرالية الاجتماعية» نادراً ما يُستخدم بمعزل عن السياقات الاقتصادية والسياسية. وأكثر من ذلك، فإن «النيوليبرالية»، حسب رأي محشي، «ومن خلال التنافسية والفردية، يمكن أن تُفكّك المجتمع، إلّا أنها في الوقت نفسه يمكن أن تعزّز الشوفينية والعصبية على مستوى الدولة والمنطقة وحتى الأسرة، إذا كانت هناك فائدة من هذه العصبية».
ماذا عن الاقتصاد؟
مجرّد ذكر مصطلح «النيوليبرالية» يثير في مخيّلة كثير من السوريين المخاوف من السياسات الاقتصادية التحرّرية، المدعومة من قِبَل الصندوق والبنك الدوليَّين، والتي قامت من أجلها حروب دولية معلَنة وصامتة، وتالياً فإن أحد الأسئلة التي تُطرح في سوريا اليوم، يتعلّق بالموقف الرسمي من «النيوليبرالية» الاقتصادية: هل سيكون نفسه المعلَن حيال «النيوليبرالية» الاجتماعية، ولا سيما أن هنالك سياسات حكومية اقتصادية تُتّهم بأنها جزء من السياسات «النيوليبرالية»؟ ثمّة وجهات نظر مختلفة في الإجابة عن ذلك السؤال. حكومياً، يسود اقتناع بأن الاستهداف «النيوليبرالي» يتمّ من البوّابة الاجتماعية في ضوء تواضع الإمكانيات الاقتصادية السورية في مواجهة دول كثيرة أخرى، فضلاً عن أن السياسات الاقتصادية الداخلية تُقَرّ انطلاقاً من مصلحة داخلية قائمة على استمرار حضور الدولة وتدخّلها ودعمها للفئات والطبقات الاجتماعية الفقيرة وذات الدخل المحدود.
في هذا الإطار، يعتقد مدير «المرصد العمالي للدراسات والأبحاث»، جمعة حجازي، أن مسألة الدعم الحكومي تُمثّل «النقطة الأكثر إشكالية في نهج تصحيح الاختلالات الهيكلية في المؤشّرات الكلية للاقتصاد، وضبط معدّلات التضخّم، من دون أن يعني ذلك التخلّي الكامل عن الدعم الاجتماعي، وبالتالي فإن الانفتاح الاقتصادي وإعادة الهيكلة التي جرت، وعلى الخصوص في ما يتعلّق بتحرير التجارة والأسعار والانفتاح على القطاع الخاص، جرت بسرعة أكبر نسبياً من التحوّل نحو هياكل الحماية الاجتماعية الجديدة المرتبطة بالصناديق وحزم الأمان الاجتماعي». ويضيف حجازي، في حديثه إلى «الأخبار»، إن «التوجّه الجديد الذي تَبنّته الحكومات المتعاقبة، ومنها الحكومة الحالية، لا يخرج عن هذا المنطق، على اعتبار أن قيام دولة الرعاية الاجتماعية يتطلّب اقتصاداً قوياً بالدرجة الأولى، كما في كلّ دول الرفاه الاجتماعي مثل كندا والدول الإسكندنافية. فالموازنة بين عجز الحكومة عن تأمين كلّ مستحقات الدعم ولكلّ الطالبين له، وبين قدرتها على تخفيف عجز الموازنة وتأمين متطلّبات الإنفاق الجاري أولاً، ومن ثمّ تأمين مستلزمات الإنفاق الاستثماري، يشكل لبّ الموضوع، وبالتالي فإن التوجّهات الحكومية نحو إعادة توجيه الدعم وتقليص أشكال الدعم المعمّم، لا تخرج عن هذا السياق».
لكن إذا كانت نظرة الحكومة للتعامل مع ملفّ الدعم تنطلق من مبرّرات اقتصادية محلّية بحتة وليس لها علاقة بأيّ سياسات اقتصادية تحرّرية، فلماذا هذا الحضور الواسع اليوم لأثرياء الحرب وتجارها؟ ألا يمثّل وجودهم ونشاطهم الاقتصادي انعكاساً لسياسات لا يمكن تصنيفها إلا كاختراق «نيوليبرالي» للمجتمع السوري؟
دور المؤسسة الدينية
مهما تكن وجهة النظر الصائبة في هذا الجدل، فإن حماية الأسرة السورية من التفكّك، والمحافظة على القيم المجتمعية المشتركة، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي الوطني في مواجهة تأثيرات الحرب «النيوليبرالية»، تتطلّب إجراءات وسياسات مؤسّساتية ومجتمعية في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والثقافية وغيرها، وإلا فكيف يمكن المحافظة على تماسك أسرة يتهدّد الجوع حياة أفرادها، أو تتنازعهم سياسات ومواقف، أو يتنافرون ثقافياً وفكرياً؟ لكن، مَن الذي سيأخذ على عاتقه مواجهة الليبرالية الحديثة في هذه المرحلة، بالمعنى القيمي والاجتماعي؟ باختصار، يجيب محفوض بالقول: «حديث الرئيس بشار الأسد يحيل إلى أن دور الدين والمؤسسة الدينية يكاد يكون حصرياً في ذلك، صحيح أنه لم يقل هذا صراحة، لكن حديثه أمام رجال دين يعزّز قراءات أو تقديرات من النوع المتقدّم».