محمود بري | كاتب وباحث لبناني
لو سألني أحدٌ أمام كاميرا في الشارع عن الأفضل بنظري: القضية أو البندورة، لفضّلت البندورة. ليس أنني أكره القضية… لا سمح الله، ولا لفرط محبّتي البندورة، بل إن الأمر أكثر تركيباً. البندورة … أولاً لأنها تُؤكل، ولا خطيئة في أكلها، بينما الأخرى لا تؤكل إلا بالحرام…ومن قبل أولاد الحرام، الذين ما انفكّوا ينهشون لحمها وهي حيّة. ثم إنها، البندورة، مثل كل الحاجيات الغذائية الأخرى، اصبحت “عزيزة” بمعنى صعوبة الحصول عليها من قِبل أكثر من 500 ألف عائلة لبنانية ترتع حالياً تحت خطّ الفقر الشديد (أقل من دولارين يومياً)،. والرقم لمنظمة “الإسكوا”، هذا من دون تناسي الـ 900 ألف عائلة لبنانية غيرها ممن يعيش أفرادها فوق خطّ الفقر المدقع، فوقه بقليل فقط، بمعنى أنهم لم يموتوا بعد من الحرمان. وهؤلاء كلّهم، ويُعدّون بالملايين، لا يفكرون البتّة بدفع نصف المدخول اليومي مقابل عدة حبات حمراء وصلت من أراضٍ زرعها أصحابها الفلسطينيون، ووصلت على أنها “بندورة أردنية”… من أراضٍ غير محتلة. والله أعلم.
البندورة… نعم. والنِعم. يرتفع سعرها كما ترتفع سخونة كوب ماء على موقد حطب. ومعها يرتفع سعر كل شيء. تقريباً. ويقولون، وهم خبراء ومُتابعون، إن أسعارالعيش (وليس الحياة) في “وطن الأرز” ارتفعت في الأشهر الأخيرة بمقدار عشرة أضعاف (وليس خمسة كما يزعم الرسميون…) والأمثلة واضحة ومعروفة. صفيحة البنزين مثلاً قفزت من 24 ألفاً إلى 318 ألفاً، وخلفها وأمامها كل شيء آخر، ضروري أو كمالي أو ما بين بين.
وكل ذلك بعيداً كل البُعد عن أيّ مستوى من الحوكمة، وهي ضروة حتمية، لكنها مكروهة في بلد يقول المتحكمون فيه “إن الحوكمة من الشيطان”… ثم يتركون الحبل على غاربه في أيدي ميليشيات المافيا من كل الأنماط والأنواع والمناطق (والطوائف… لهواة النوع). هذا مع الإبقاء على سياسة الدعم الخرقاء التي تواصلت حتى الأمس القريب، دعماً لكل ما أخذوا على عاتقهم تهريبه إلى مختلف القارات… فضبلًا عن دعم مواد تُعتبر نادرة وفوق- كمالية ودعمها “مكروه”، مثل الكافيار بأفخم أصنافه. هذا إضافة إلى دعم الملذات السوقية العابرة، أعني دعم “الحبة الزرقاء ــ الفياغرا”.. وكل الأصناف المُقلّدة منها، حتى تلك التي لا تُجدي.
تصوروا أننا دفعنا عدة مليارات دولار من جيب خزينتنا المُغتصبة من أجل دعم الكافيار والفياغرا والبندورة… ثم جرى تهريبها!
…بعد ذلك يتأسف بعض المرتكبين (من رسميين وأشباههم) على تفاقم التضخّم… الذي يواجهونه من دون هوادة…بالأسف والتأسّف، ويتساءلون، كما في أفلام الكرتون، عن كيفية كبحه. وهو ذاته التضخم الذي “ضخّم” ثرواتهم الحرام التي راكموها بفعل الاحتكار والتهريب و”السلبطة” والتسعير العشوائي قبل أن يهرّبوها إلى مأمن في الخارج.
والأنكى حين يُسِرّ إليّ سياسي عالي المكانة فيوشوشني عن “جهاز أميركي لعين حسب زعمه… منصوب بين لبنان وسورية وتركيا، وهو الأداة المحمية جيداً التي تُسعِّر أميركا االدولار بواسطتها”. نعم. هذه هي المسألة. والطريف…أنه يكذب. وأنا أعلم أن جنابه يكذب. ويعرف جنابه أنني أعرف. لكنه مقتنعٌ أن كذبته قد نجحت في تبرئته هو نفسه وأشباهه وشركائهم وعُملائهم… وأنقذهم جميعاً، بل برّأهم ووضع اللوم على كاهل واشنطن دي.سي، هذا في حين أن القاصي والداني يعلم علم اليقين أن المسيطر الأساس على أسعار البضائع والسلع والدولار والحركة التجارية في البلد عموماُ، ليس لا واشنطن ولا … وارسو، بل هذه المافيات البهية التي لها عصابات فاعلة على الأرض تعمل بالتكافل مع الذين يُؤمنون لهم التغطية والحماية على الأرض وفي المخافر والمحاكم، وهم السادة الذين فوق، والسياسي الذي ذكرتُ من أبشعهم. اما الوسائل غير المرئية التي يستخدمها هؤلاء فهي برامج كومبيوتر وتطبيقات إلكترونية تعمل عبر الفضاء السيبراني، يُسخّرون لها خبراء معلوماتية ممن تمتنع الحكومة والحكام والدولة والقادة والزعماء… عن مشاهدتهم أو مساءلتهم أو منعهم أو توقيفهم أو تعطيل سكاكينهم. وهذا الامتناع يحصل دائماً تحت ذرائع واهية من أنها برامج متقدِّمة جداً… وتطبيقات استثنائية… مما تعجز السلطات المسؤولة عن تعطيلها أو توقيفها أو مسِّها بسوء.
هذا هو ما ينجّر “خازوق” التضخّم ويحقق الارتفاعات الجنونية وغير المنطقية في أسعار كل ما يتوجب شراؤه، مما تُسعّره سواعد الزعماء وأيادي المسؤولين الذين نجحوا في جعل الكلمة الفصل في مختلف عمليات التسعير لميليشياتهم والمافيات التي يديرونها.
والمعنيون الذين تُوجّه إليهم سهام الإتهام والنقد، وأحياناً الشتائم، ليسوا من الأصناف الشائعة التي اعتاد الحاكمون التلويح بها أمام عيوننا… فلا هم “العدوّ الإسرائيلي الغاشم” ولا “الجهل والفقر والمرض” ولا “الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية” …ولا حتى ” الصهيو- أميركية”… بل هم أنتم، يا أولاد الأفاعي… أنتم أنفسكم ولا أحد سواكم. باشخاصكم وبصفاتكم وبوجوهكم وبوجودكم القذر.
لذلك، ولألف سبب آخر لا يتسع المجال لتفصيله، أرى أن البندورة أهم وأفضل… وأنفع.
فلا تظنوا أن تصريحاتكم وخطبكم تعني لنا شيئاً، ولا تتوهموا أنكم تضحكون علينا… أو حتى على الذين يقبضون منكم. لا. فالكل يعرف ويعلم.
كذلك قبلنا، وأولاً، وهذا ما تجاهلتم: الله يعلم. لا شك أن كثيرين ممن سبقونا إليه، أخبروه.