غالب قنديل | رئيس مركز الشرق الجديد
وصفته الأغاني بالمارد العربي، وتغنّت القصائد والنصوص بمزاياه وخصاله، وافتقد العرب بين المحيط والخليج ذلك الرئيس الزاهد المتواضع، الذي يشبه الناس في بساطة العيش، والذي نأى عن القصور وظلّ مع عائلته في بيته المتواضع بين أهله، وخصّص القصر الرئاسي للاستقبالات والاجتماعات الرسمية وهو الرئيس الذي بنى صروح التنمية، وقاد مصر في مسار ثورة صناعية وزراعية، وتنمية شاملة للمجتمع، نهضت بالثقافة والفنون والإعلام، وانتزعت الريادة في الوطن العربي والعالم.
أولا: لم تنل التجربة الناصرية حقها من الدراسة والبحث. وقد توزّعت الكتابة عنها بين إنشائيات المديح في نصوص المناصرين، وظلم التحامل والعداء في ما كتبه خصوم الناصرية. وقد توزّعوا بين مواقع شتى عن يسارها ويمينها. فبين الناقدين رجعيون وعملاء وأبواق استعمار وعملاء مخابرات أجنبية، يوجّهون بأمر مشغليهم، لكمات وطعنات ضد عبد الناصر، ليسدّدوا بعضا من فواتير ضرباته المؤلمة الساحقة لأوكار الرجعية والعمالة والتبعية في مصر والوطن العربي، التي ما تزال تواصل حربها القذرة ضد الناصرية ورموزها وأفكارها القومية التحرّرية، ولا سيما فكرتي الوحدة والاشتراكية. في حين أن المزاودات اليسروية على الناصرية ورمزها كانت منذ البداية، واستمرت حتى رحيل عبدالناصر. والحقّ يقال إن المعاينات النقدية للنصوص اليسارية في تلك الحقبة، ما تزال حاجة ملحّة في زمن الانهيار والانخلاع القومي الشامل، وقيمتها في استخلاص الدروس والعبر.
ثانيا: من الصفحات المضيئة واللامعة في تاريخ الشرق علاقة مهمة، لا نملك عنها ما يكفي من المعلومات والمعطيات والوثائق، وثمة تعتيم مقصود عليها ضربته الرجعية العربية والرِّدة الساداتية التي أعقبت وفاة عبد الناصر في مصر العروبة والتحرر. ومن بعض الوقائع والمعلومات القليلة نستشفّ عمق الصلة التفاعلية النبيلة، وشراكة المبادئ والآمال والطموحات، التي قامت بين الزعيم عبد الناصر والإمام آية الله الخميني، وندرك أن هذين الزعيمين، اللذين اجتمعا على مبدأ القتال ضد الاستعمار والصهيونية، والانحياز الى خيار التحرّر والأخوة بين شعوب الشرق، وهدف تحرير فلسطين، زرعا بذرة الأخوة العربية الإيرانية في مقاومة الاستعمار والصهيونية، التي هي اليوم روح محور المقاومة والمعادلات والتوازنات المشرقية المتغيرة. ولذلك، فالرئيس عبد الناصر يظلّل بروحه وبميراثه محور المقاومة المشرقي وإنجازاته الباهرة في المنطقة والعالم، بينما قدِّر للقائد الخالد حافظ الأسد أن يشهد انتصار الثورة الخمينية، ويؤسس نواة محور التحرر والمقاومة بالعلاقة السورية الإيرانية، التي قطعت شوطا هائلا من التطور عاموديا وأفقيا في جميع المجالات وهي اليوم علاقة متقدمة بفضل اقدام ورؤيوية القائد بشارالأسد وحكمة السيد الخامنئي ورشد القيادة التحررية الإيرانية.
ثالثا: إن ما جسّده الرئيس عبد الناصر في تطلّعه الأممي التحرّري وعلاقاته العابرة للقوميات والثقافات واللغات، ودوره الريادي في قيادة مجموعة عدم الانحياز كتكتل عالمي مناهض للهيمنة الاستعمارية وروح التضامن الأفريقي الآسيوي، التي عمل عليها عبد الناصر، وأرسى إطارها المنظّم، هي رافعة التجديد الثقافي والفكري للخطاب الاستقلالي التحرّري ولفكرة تضامن الشعوب ضد الهيمنة والتخلّف، وهو مثال يُحتذى، وحري الاقتداء به، والتعلّم منه، بحيث يُفترض إيلاء اهتمام خاص لعلاقات التضامن القومي والأممي على صعيد التواصل مع الأطر السياسية والشعبية والنقابية المناهضة للاستعمار والصهيونية، وهو أمر متاح في العالم المعاصر بدرجات كبيرة، وفي هوامش ودوائر متعدّدة، يُفترض الالتفات إليها بالاستناد إلى رصيد ووزن كل من سورية وإيران وحزب الله، وعلاقاتهم العابرة للجنسيات والحدود. ويمكن لمحور المقاومة أن يُحاط بشبكة من الشركاء والحلفاء في العالم والمنطقة، سيجد فيهم سندا معنويا وسياسيا وعمليا، يمكن الاعتماد عليه، وفرصا للشراكة والتكامل في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية، وهذا ما سيتيح مجالات كثيرة، وينطوي على إمكانات هائلة.
روح عبد الناصر التقدّمية التحرّرية القوميّة ستبقى خالدة وحاضرة في كلّ نفحة تحرّر ومقاومة في المنطقة والعالم، وكذلك شعلة العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والتنمية الزراعية والصناعية لبلدان العالم الثالث المتطلعة إلى التطوّر والتقدّم العلميّ والتقنيّ.