ناصر قنديل | رئيس تحرير جريدة البناء
منذ مجزرة الطيونة وماكينة إعلامية عملاقة متعددة الجنسيات تشتغل لتظهير سمير جعجع كبطل لحماية المسيحيين مرة، وكمنتصر قدم له كلام السيد حسن نصرالله وما جرى في الطيونة هدية مجانية لزعامة المسيحيين والسنة، مرة أخرى، وكسياسي محترف يحترم الدولة ويتقن فنون السياسة والإعلام، ويشكل خط المواجهة الأول لصالح مشروع الدولة مع حزب الله المتهم بمشروع الدويلة، حتى جاءت المقابلة التلفزيونية التي أطل عبرها جعجع متحدثاً بنفسه عن نفسه، كاشفاً حجم تهافت المنطق وضعف الحجة ورثاثة الموقف، ويظهر المسخ الميليشيوي الذي يعشعش في ثنايا كلماته وينبض بين حروفه، كما تظهر الخلفية الإجرامية التي تحول الاتهامات الموجهة إليه إلى مضبطة قابلة لصرف، فيصح فيه القول الذي تلعثم وهو يقوله، ربما لأنه يحاكي حالته، يكاد المريب يقول خذوني.
خلاصة كلام جعجع تضعه في ثنائيات يستحيل جمعها في خطاب سياسي واحد، فما قدمه كاف لنسف خطابه الذي دأب على نثره كشظايا بوجه حزب الله طوال سنوات، مستفيداً من تقديمه من المحور المعادي لحزب الله بصفته القوة القيادية محلياً في هذا المحور ليرث كل التحريض الإعلامي وكل الشيطنة التي شارك بها كثيرون من سياسيين وتشكيلات مجتمع مدني ظهروا أمس مجرد عسكر في جيش يقوده سمير جعجع، لا مكان فيه للدولة ولا للقضاء، ولا يستقيم له نص متجانس قادر على الصمود أمام أي أسئلة جدية، وأمام أي تفكيك منطقي يفترض أن يتولاه من يحاوره، ولم تفلح في ستر هذه الفضيحة كل محاولات التجميل والماكياج التي منحت له من المحطة والبرنامج الذي استضافه، وما نفعت رقع الرتا في إظهار أكثر من خزق يتسرب منه التهافت ويظهر عبره الارتباك والضعف والتهافت، فسقط النص السياسي لأول السحرة المتقدمين في المشروع المعادي لحزب الله، بالضربة القاضية، من دون أن يتولاها أحد، لأنه تكفل بالنيابة عن كل الخصوم بتسديدها لنفسه.
أول دخولو شمعة عطولو، ظهر جعجع في أول كلمة نبست بها شفتاه، على حقيقته الميليشيوية، وعدائه للدولة والقضاء، بنبرة ومضمون كلماته تعليقاً على استدعائه للمثول كمستمع إليه أمام القضاء، ففجأة صار القضاء محسوباً على حزب الله، وكل النص المعادي لحزب الله مبني على اتهامه بالتشكيك بالقضاء، وفيما تشكيك حزب الله نابع من مطالعة طويلة تراكمت عبر شهور من التجربة مع كل من المحققين فادي صوان وطارق بيطار، ولم تترجم مرة واحدة بالقول لأحد لا للمثول أمام القاضي بنية الاستماع، أو كشاهد، وقد تكرر التسهيل لعمل القضاة مراراً تحت عناوين مشابهة وصولاً لشيء مختلف جداً جداً جداً، هو ادعاء القاضي على وزراء ورئيس حكومة سابق ومدراء أجهزة أمنية من دون سواهم الذين يماثلونهم رتبة ودوراً تجاه ملف النترات، من دون أي مبرر، وتجاوز نص دستوري يحصر مثل هذه الملاحقة بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء من دون أي تفسير، مع الإصرار على استثناء القضاة من نص قانوني لا دستوري يقول بملاحقتهم أمام محكمة خاصة بالقضاة، هي أدنى مرتبة دستورياً من إلزامية نص حصر الملاحقة بحق الرؤساء والوزراء بالمجلس الأعلى، وصولاً للتعمية على أسماء القضاة وحجبها عن الإعلام الذي شكل منصة حضور مريب للقاضي، وليس لدى حزب الله اسم واحد من أسماء قياديه مطلوب للمثول أمام القضاء، وجاء الأهم من خلال رفض جعجع العلني والمباشر لمجرد الاستماع إليه، ليسقط كل نصه ونصوص أصحابه بدعوة الغير للمثول وقد وجهت لهم اتهامات وتقررت ملاحقتهم، ولم يعد ممكناً لجعجع وأصحابه الجمع بين النصين، مع القضاء ليلاحق الغير ويتهمهم من دون وحدة معايير وبمخالفة نص دستوري، وضد القضاء لمجرد أن وجه لكم دعوة استماع؟ فقولوا نعم واحدة للقضاء أو لا واحدة للقضاء؟ وحزب الله جاهز ليأخذ بوصفتكم بلا تعديل.
ثاني الهنات غير الهينات، سقطة جعجع أمام الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر، فكيف يستقيم القول بقضاء مستقل يدير تحقيق المرفأ، والتعيينات تمت وفقاً لجعجع برعاية رئيس الجمهورية والتيار، فكيف يستقيم ذلك مع اتهام الرئيس والتيار بتسليم الدولة لحزب الله، ومعركة حزب الله مع هؤلاء القضاة كما يصفها جعجع معركة وجود وحياة أو موت، وكيف يستقيم الجمع بين سيطرة حزب الله على الدولة، مع الحديث عن وصول حزب الله إلى طريق مسدود في المراجعة القضائية وثم في المراجعة السياسية، أي باللجوء إلى الحكومة، التي قيل من جعجع وأصحابه إنها حكومة حزب الله، فإذا كان حزب الله قد وصل إلى طريق مسدود في القضية التي يقول جعجع إنها مصيرية بالنسبة للحزب، فمتى يصرف حزب الله سيطرته على الدولة، فإما حزب الله غير مسيطر وهذا يفسر وصوله إلى طريق مسدود، وهذا يعني أن الرئيس عون والتيار الوطني الحر كان حليفاً لحزب الله يمارس استقلالية تامة ويختلف ولا يتبع ولا يطيع ولا يشتري وجوده في السلطة بالتبعية، وجعجع طبخ الرز بالبصل وأراد من الناس ألا تنتبه كي لا تسأل، لكن القبوات لا تخفي السماوات، فكيف إن كانت حبة صنع منها قبة؟
ثالث الأثافي غير خاف، فجعجع ليس حليفاً للنصرة وداعش والإخوان المسلمين، ولا هو من قال عن غزوة الأشرفية عام 2006 إنها تظاهرة سلمية لحلفاء، وعلى رغم تكسير الكنائس وتدمير السيارات وواجهات الأبنية واقتحام المنازل، لم يخرج أي من مناصريه بطلقة سلاح صيد، وهي الغزوة التي فرضت على العماد عون يومها تقريب موعد الإعلان عن التفاهم مع حزب الله لطمأنة المسيحيين وفي الأشرفية وعين الرمانة، ولذلك اختار كنيسة مار مخايل ولاقى القبول من حزب الله، الذي يرى الكثير من بيئته أنه يبدو تابعاً للتيار يراضيه ويسايره ويلبيه في كل طلباته، ويلقى اعتراضاً ورفضاً وتمنعاً في الكثير مما يطلب بالمقابل، وتنكر جعجع لواقعة الأشرفية يحمل إضافة للتعمية على الحقيقة أحد أمرين، إما أنه أعطى أمراً في عين الرمانة لم يعطه في الأشرفية، أو أنه يتهم أهل الأشرفية بالتخاذل، علماً أنهم نفذوا تعليماته بالتروي، بينما لم يسمع منه أهل عين الرمانة، خصوصاً محازبيه فيها والآتين من خارجها إليها، دعوة كتلك للمسالمة، بل سمعوا منه الدعوة للاستعداد للمواجهة قبل ليلة، ومهما أنكر جعجع هو لا يستطيع إنكار أن رفضه لمشاركة حزب الله في سورية لم يكن مجرد رفض لخروج الحزب عبر الحدود بل لأنه كان كما جاهر مراراً بالرهان على الجماعات المسلحة في سورية، وصولاً للرهان على بقائها في جرود لبنان الشرقية، بصفتها حليفاً، كما قالت زيارات الوفود والحلفاء إلى عرسال والكلام المقال في حضرة الدم هناك، بينما الثابت بالمقابل أن من قالت هذه الجماعات دفاعاً عن قرى وبلدات المسيحيين والمسلمين في لبنان كله لا في البقاع فقط هو حزب الله، فماذا يقول جعجع في اعتبار غزوة الأشرفية حركة سلمية وتوصيف احتلال الجرود بتموضع الثوار من جهة، وتصنيف حزب الله بالعدو والدعوة لمواجهته، من جهة مقابلة، غير أن ستر الفضيحة صعب بل مستحيل؟
هذا غيض من فيض، لحوار أسقط كل الهالة المصطنعة التي تشاركت في تلميع صورة جعجع عبرها وسائل إعلام لبنانية وعربية لأيام متصلة أملاً بتجميع حليب يصنع من لبنان يصلح لتلوين الحقائق وطمسها، فجاء وضرب قدر الحليب بقدمه وأسال الحليب على التراب، واللبنانيون لم يمر عليهم مشهد سياسي يختزن الضعف وينثر من حوله الهراء والكلام العبثي بلا سند، ويستخف بعقول الناس وذاكرتها، كما كانت إطلالة سمير جعجع، التي تصلح نموذجاً للتدريس الجامعي بالفشل المزدوج، تحت عنوان، عندما يسقط المحاور بالنقاط ويسقط الضيف بالضربة القاضية..