تعالوا نتفاءل قليلاً…
محمود بري | كاتب وباحث لبناني
(مُهداة إلى العزيز نزيه)
بعد سلسلة من الأحداث التي يجوز اعتبارها واقعية، دخلت بنا الأيام إلى صورة للبلد من الزاوية المقابلة، اقتضت أن تفرش على الشاشة مجموعة من الافتراضات الممكن أن تكون صائبة، وهي تتصل بالحكومة والثنائي وبأمور أخرى…
في الحكومة بدايةً، يبدو أن الوزراء الجدد لن يكونوا من فصيلة وزراء حكومات الحريري… سوف يتحركون وينشطون ويعملون من دون شك على حلحلة المشكلة- المشاكل التي أقعدت البلد وأوشكت أن تدفن الدولة. سيكون من المتعسّر الاعتقاد أنهم لن يعملوا بجهد، ولو بنسبٍ متفاوتة. فقد جاءوا خصيصاً من أجل هذا بعد الأشهر “الحريرية” العاطلة. والعاقل لا بد أن يُصدّق نواياهم المُعلنة، ليس لأنهم صادقون بالضرورة، ولا تأثّراً بدور “الوطني الغيور” الذي أدّاه الرئيس الميقاتي بمهارة هوليوودية أمام كاميرات الأخبار لدى إعلانه التشكيل، بل لأن منطق الأمور يشير إلى ذلك. وعدم رؤية الوضع بهذا المنظار هو خطأ قصير العمر.
العمل ومحاولة البناء… هذا هو النقيض اللائق والطبيعي لمرحلة الكسل والهدم الحريرية الآفلة.
على صعيد الثنائي، فلا يصدّق عاقل وجود أي مستوى من الجفاء الاستفزازي بين حجرَيّ الرُحى فيه. ما يتقوله حركيون سابقون، نافرون ومنفرون، ومعهم صيّادو مناسبات (ومكافآت)… كلّه شائعات تصل إليهم جاهزة ليسوّقوها مأجورين (من أُجرة). هذا رأي على الأقل، يمكنني أن أعتدّ به رغم أنه من دون سند مرجعي. والحال فإن موقعة البنزينيين نصف العُراة على المحطات، الذين يتسترون بالسياسة، وتصميمهم المُعلن بالعمل ضد من يتسبب بـ “قطع أرزاقهم” من خلال استقدام بواخر المحروقات (الحزب)، هي معركة إفتراضية بمعنى وهمية، سوف لن تدور إلا على ورق الفتنويين البلديين، لا أكثر. وكل محاولات تمهيد أرضية عملانية لإنتاج مواجهة مطلوبة بين الحركة والحزب، ليست أكثر من لعبة أولاد أخرى من دليل الألعاب الذي يعتمده “الأدوات” منذ زمن غير قصير، ولن يؤدي بهم إلا إلى ما أودى بهم إليه حتى اليوم: يقبضون فيعتاشون بالحرام ويُمضون جُلّ أوقات يقظتهم في معاقرة الخيبة، امام سقطات الفشل المتوالية التي تدكّ مشاريعهم الصغيرة… والتي لم تكن في الأساس سوى محض خيال مدفوع الأجر.
كل هذا قريب إلى العقل والمنطق ومن السهل توقعه وافتراض حصوله. إلا أنه لا يكفي لبعث الطمأنة. نعم. لا يكفي. والـ”لا” هنا ليست إحباطية ولا تآمرية ولا لتكسير “مآديف” الحكومة التي أعتبرها حكومة مصيرية. من الحيوي أن تنجح هذه التركيبة، ولو قليلاً، لكي يخرج البلد من كوما التفاهة التي انتهى ثلاثُيّها بالالتفاف على نفسه، مثل أفعى جريحة، في بيت أياس المُغتصب وأصحابه أحياء.
صحيح أن في الأمر الذي جرى عرضه رغبات تفاؤلية لا غُبار عليها، غير أن منطق الأمور (إياه) يقول إن الفالج لا تمكن معالجته فقط بالرغبة به ولا بالحاجة إليه… ولا طبعاً بالنوايا الحِسان وحدها. ثم إنه، للدّقة، ليس مجرّد فالج واحد، بل “فوالج” شتى، كلّ واحد منها يكفي لهدم دولة قائمة وبلد حقيقي… فكيف يكون الحال مع دولة وهمية وقوانين للزينة وبلد ركبته الطائفية فأنجبت عفاريت تداولوا ويتداولون التحكُّم بمصيره!
هنا أحد التحديات الرئيسة… ومنه يمكن الدخول إلى المصرف المركزي.
المصرف هذا بقيَ موضع الشكوى… إلى أن دخل الحكومة بشخص مبتكر الألغام فيه، صاحب الكوارث النقدية والمصائب المالية والخوازيق الدولارية، وقد رسموه وزيراً للمال، ربما ليُشكّل التغطية الأنسب لانسحابٍ مأمون للحاكم من حقل الضوء، ومعه أسراره “الهدّامة”، بحيث يصبح فضح كبار لصوص الخزينة مجرّد أمنية سوقِيّة يتناقلها المتبطّلون.
والسادة أركان المافيوقراطية ذوو الصيت الصائت والسمعة العالمية بعد أن “بهدلوا” رئيس فرنسا ومندوب المجموعة الأوروبية على الأقل، هم أنفسهم الذين سمّوا الوزراء جميعاً، وربما جربوهم واحداً واحداً كما كان بيك القرى في بلاد الماو ماو يجرّب العروس عشية حفلات كل زواج، للإطمئنان… لكن ما يُحسب لهم هذه المرة، أنهم استحوا (!) من إطلاق لقب التكنوقراط على وزرائهم.
فأيّ سيناريو أسوأ من هذا يمكن للشيطان تصوّره؟
هذا يصل بنا إلى الأزمة الأكثر سطوعاً والألح اليوم، أعني البنزين ومعه أخواته الشريرات، وفوقها الدولار والأسعار… هذه جميعها تبدو لمن يعتمد نظّارات طبية، غير قابلة للحل، مع كل الأسى.
الأهْوَن الأقل والأحقر فيها، البنزين الذي يتحكم به الملوك الرُّعاة المتوّجون بنصف ثيابهم على المحطات. هؤلاء لا يمكن حلّ المشكلة معهم، ولو غرق البلد بالبترول المكرر. هذا طالما أن عصابات الأقوام ما انفكت تتحكّم بالمحطات، ويُخطط لها أن تبقى متحكّمة، إلى أن… يفوز حُماتها ورُعاتها بالإنتخابات البلدية والاختيارية والنيابية في المستقبل المنظور وكل مستقبل ممكن. ولسوف يواصل “الشباب” بث الفوضى وممارسة الزعرنة وترويج السوق السوداء، طالما أن واحدهم يحصّل غلّة يومية بالملايين، في حين أن أجهزة الشرطة الفولكلورية والجيش الممنوع من التصرّف يُمثلان سلاح الأمن المُعتمد.
ولا أريد أن أسمع من يُحدّثني عن أن الحكّام المُهابين أوشكوا على الرحيل إذ بلغوا من العمر عتيا وباتوا شبه عجزة… فالعمر والعجز ليسا عِبرة… والرئيس ــ القُفّة مثلاً، الجزائري الراحل بوتفليقة، طيّب الأثر، يشكّل علامة دالّة. فقد بقيَ رئيساً ممارساً على الرغم من عجزه التام عن الحركة، وبلغت به الوطنية والإيثار أنهم كانوا ينقلونه بالقُفّة من وإلى كُرسي الدولة، مُصرّاً على تأدية “واجبه الوطني”، هو الآخر، ولم يُسلّم… إلا لملك الموت عليه السلام.
ما المعنى من ذلك كلّه؟
المعنى هو بالذات ما يمكن استنتاجه: الداء بات واضح المعالم والطبيب حاضر والدواء بين يديه. ما هو مطلوب، يدركه القائد برأسيه اللذين يُكمل أحدهما الآخر ببراعة ميكافيلّية يُشكران عليها.
(أليس من أجل هذا صرنا ثنائياً؟).
لكن… حذار الإتكال على الحكومة…ولا حتى على الدولة. فالأخيرة لم تُستعَدْ بعد، والأولى ما برحت تحبو على بلاط عارٍ. المهمة هي واجب الثُنائي ولا أحد سواه، إذ لا يكفي سيد العصر والأوان أن “يخترع” المحروقات من إيران العُظمى (اختراعاً)، بهذه الطريقة الإبداعية التي جعلها، وبسحر إصبعه، واقعية، بل أمامه واجب تمهيد الدروب أيضاً بالقضاء على المعوّقات، وهو الأدرى بها.
وتبقى نصحية من خارج النص: العمل على زج النواب المستقيلين في السجن…احتياطاً. وإذا كنتم لا تعرفون السبب، فهم يعرفونه. ومعركة قطع دابر الملوك الرُّعاة، ستكون السبيل للتخفيف من وطأة الإرتطام الكبير الذي شاع ذكره. والباقي… من السهل تصوّره.