من الناحية التحليلية الكلاسيكية، يمكن التعامل مع تصريحات قائد أركان جيش العدو”الإسرائيلي” أفيف كوخافي، با عتبارها رسالة موجهة للإدارة الجديدة في البيت الأبيض، مفادها أنّ”إسرائيل” ترفض بشكلٍ قاطع كل أشكال العودة الأمريكية للاتفاق النووي، وأنّ نتن ياهو سيقود الحلف الإقليمي الذي تحدث عنه كوخافي، إلى وضع العصي في دواليب العودة الأمريكية المحتملة للاتفاق النووي، خصوصاً حين قوله أنّ” قواته أعدت خططاً لهجومٍ محتمل على إيران بانتظار أوامر القيادة السياسية”، ولكن الحقيقة أنّ طبيعة العلاقات الأمريكية”الإسرائيلية” لا تحتاج إلى رسائل مشفرة، فهي علاقة الوكيل بالأصيل، حيث أنّ هذه الخطط الذي تحدث عنها كوخافي بإمكانه وضعها في أي موضعٍ يفضله إلا موضع التنفيذ، فحتى لو حصلت”إسرائيل” على ضوءٍ أمريكيٍ أخضر لتنفيذ هذه المخططات، فهي دون تعهدٍ أمريكيٍ بالمشاركة المباشرة في الحرب لن تُقدم على هذه الخطوة، فـ”إسرائيل” هي أكثر من تدرك عجزها.
وبالتزامن مع تصريحات كوخافي، وعلى سبيل نفي دقة التحليل الكلاسيكي عن الرسائل المشفرة، كانت”بي52″ تجوب أجواء الخليج للمرة السادسة على التوالي، وهذا يعني أنّ كوخافي لم يكن ينطق بلسان نتن ياهو لتصل رسالته إلى واشنطن، بل كان وكيلاً فعلياً لواشنطن، يعمل لدى الوكيل الأساسي وهو الكيان برمته، حيث تسعى إدارة بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي، ولكنها تريد الاستفادة من كل الوقائع التي حدثت زمن ترامب، مع افتعال وقائع جديدة، تجعل من عودتها للاتفاق بشروطها لا بالشروط الإيرانية، وتأتي تصريحات كوخافي في هذا السياق حصراً لا سياق الرسائل المشفرة، وما يجعلنا في حالة يقين من هذا المنحى، هو أنّه حتى كتابة هذه السطور لم يصدر أيّ تصريح من أيّ جهة عسكريةٍ إيرانية، رغم أنّ العسكريين الإيرانيين يحترفون التصريح والتلميح، بل ويسارعون إليه أحياناً بدون حتى مناسبة، وهذا يعني أنّ إيران تدرك أنّ هذه تصريحات أمريكية بلسانٍ عبريٍ لا يملك من نفسه ولنفسه شيئاً، وهي تأتي حصراً في إطار تجهيز إدارة بايدن للأوراقٍ تفاوضية قبل الإعلان الرسمي عن العودة للاتفاق النووي.
أمّا من ناحية أخرى فإنّ هذه التصريحات تأتي كذلك في إطار الحفاظ على ديمومة عملية التطبيع، حيث يعتقد نتن ياهو كما صرَّح أكثر من مرة، بأنّ الدول أتت للسلام بفعل القوة”الإسرائيلية”، وعليه فإنّ الإبقاء على وهم القوة”الإسرائيلية” حاضراً في أذهان المنبطحين، ولو حتى عبر قوة الحنجرة، سيجعل من عملية التطبيع-“الأسرلة” قائمة على قدمٍ وساق، فالأعراب يعتقدون أنّ هذا الكيان يمتلك من القوة ما يجعله في حالة اقتدارٍ هائلة على إلحاق التدمير الشامل لإيران ومحورها بأقل الخسائر وبأقل وقتٍ ممكن، وأنّ”أسرلة” المنطقة التي يظنون أنّها الطريقة الوحيدة للبقاء والإبقاء على عروشهم، تتطلب تدمير محور المقاومة وإيران على رأسه، وليس لديهم أيّ شكٍ بأنّ”إسرائيل” قادرة على فعل ذلك، وأنّها الأقدر على دفع الولايات المتحدة لخوض حرب التدمير تلك، لكنهم لا يأخذون بعين الاعتبار أنّه رغم تعاقب الإدارات الأمريكية جمهورية وديمقراطية على حكم البيت الأبيض، لم تُقدم أيٍّ منها على مهاجمة إيران عسكرياً بشكلٍ مباشر، وهذا بحد ذاته مؤشر على عدم الرغبة في التورط مع إيران، لأنّ الأمر ليس مأمون العواقب على مستقبل الإمبراطورية الأمريكية برمته، وليس فقط على مصير الحرب.
ولكن يجب التعامل مع هذه التصريحات أيضاً في إطار ما يتم التحضير له مستقبلاً، حيث أنّ استلام إدارة بايدن تزامنت مع تنشيط خلايا داعش في سوريا والعراق، ولكن ورقة داعش لم تعد بالفاعلية التي انطلقت بها في ذروة ما يسمى”الربيع العربي”، حيث لم يعد التنظيم قادراً على السيطرة العسكرية على المدن والبلدات، بل بإمكانه فقط استخدام ما يسمى سياسة المشاغلة، وهذا يعني أنّ الفائدة من هذه المشاغلة لن تكون قادرة على تغيير موازين القوى، وحتى لن تكون قادرة على عرقلة الارتباط الجغرافي لمحور المقاومة، كما لن تكون قادرة على منع المحور من مراكمة القوة وعوامل القدرة، وهذا التدني في الفاعلية على المدى القصير والمتوسط، قد يقود الولايات المتحدة لافتعال معركةٍ عسكرية محدودة مع إيران، ترسم فيها حدود البدء وخطوط الخاتمة،وذلك على سبيل عودةٍ مظفرة للاتفاق النووي، قد يكون على شكل تحرش عسكري”إسرائيلي” بإيران، وعلى إثر ردّ الفعل الإيراني وحجمه، تتخذ الولايات المتحدة موقفاً، فإن كانت الكفة لصالح إيران، لعبت دور الوسيط الترجيحي، الذي سيقدم لإيران الكثير من المغريات لوقف النار، إمّا إن كان العكس وهو أن تكون الأرجحية لصالح العدو الصهيوني، ستلعب دور البطل الذي يقوم بالضربة الأخيرة، وهذا السيناريو نظرياً وارد، لكنه عملياً سيكون أشبه بالمستحيل، حيث أنّ افتعال”إسرائيل” لشرارة الحرب، لن يعود بإمكان الولايات المتحدة لعب دور الإطفائي ولا حتى دور المنتصر، بل ستكون نقطة النهاية بيد إيران ومحورها، وهم من سيقررون على أيّ سطرٍ ستوضع.