الدكتور محمد نور الدين | كاتب وباحث لبناني مختص بالشأن التركي
يبقى إردوغان واحداً من أبرز نماذج التحوّلات المتطرّفة في أكثر من قضية (أ ف ب )
لا تزال زيارة ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، إلى أنقرة، تثير جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية التركية حول التحوّلات الأخيرة في السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس رجب طيّب إردوغان، والتي فتحت الباب على حصول تلك الزيارة. وفيما عاب البعض على إردوغان هذه القفزة إزاء دولة كيلت لها سابقاً الكلمات الأسوأ في القاموس التركي، ذهب آخرون إلى اعتبارها مؤشّراً إلى تراجع الجبهة العربية المناهضة لتركيا، ودليلاً على العقلانية والبراغماتية في أداء إردوغان
بينما يُنظر إلى التحوّلات في العلاقات الدولية ما بين صعود وهبوط، على أنها أمر طبيعي، يبقى الرئيس التركي، رجب طيّب إردوغان، واحداً من أبرز نماذج التحوّلات المتطرّفة، في أكثر من قضية. مسار العلاقة مع الاتحاد الأوروبي يعكس ذلك بوضوح، حيث يصفه إردوغان الاتحاد تارةً بـ«الحلف الصليبي»، ويعتبر بلاده جزءاً من مشروعه الاستراتيجي، في ما يعدّه «الحملة التحديثية الأكبر بعد تأسيس الجمهورية»، يعود تارةً أخرى ليقول: «إنّنا لسنا بحاجة لاقتباس أيّ نموذج». ولا يبتعد إردوغان في سياسته تجاه العرب عن هذا التذبذب. فبعد سدّ العداء والكراهية الذي نُصب مع مصر، عادت الحرارة النسبية إلى خطّ العلاقات بين الطرفين. وبعد حديث وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، عن سرقة قائد المُدافعين العثمانيّين عن المدينة المنوّرة، فخر الدين، الأمانات المقدّسة، ووصْفِه أجداد الأتراك الحاليين بالسارقين، ها هو وليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، يُستقبل، قبل أيام، باحتفال رسمي استثنائي.
من هنا، برزت تساؤلات زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارِض، كمال كيليتشدار أوغلو، «عمّا حصل لإشارة رابعة والإخوان؟»، ليُجيب بأن «كلّ ما يقوله القصر هو كذب ودجل. في اللحظة التي تَظهر فيها في الأفق الأموال، يبيع إردوغان القضية. إن المسلمين الحقيقيين لا وجود لهم في القصر الرئاسي». صحيح أن المواطن التركي سيؤيّد أيّ دعم مالي ينقذه من ضائقته الاقتصادية الخانقة، من أيّ جهة أتى، إلّا أن السؤال المطروح الآن، يتعلّق بقدرة السلطة الحالية على إقناع المواطنين بجهة أو جهات كانت تكيل لها أنقرة الكلمات الأسوأ في القاموس التركي. إزاء ذلك، يعتقد منظّر سياسات «تصفير المشكلات» بين تركيا والدول الأخرى، رئيس الحكومة السابق، ورئيس «حزب المستقبل»، أحمد داود أوغلو، أنه لا يمكن لأنقرة أن تغيّر مواقفها بين ليلة وضحاها، لافتاً إلى أن إردوغان أشار إلى «الإمارات العربية المتحدة، على أنّها المموّل لمحاولة الانقلاب التي جرت في 15 تموز 2016. لكن أن يكون فلان اليوم صديقاً، وغَداً عدوّاً، فلا تكون السياسة الخارجية هكذا». وإذ يرى أنه «لا يوجد خطأ في أن تتصحّح العلاقات بين بلدَين»، فهو يستدرك بأن «التذبدب هنا لا يعطي ضمانة بألّا تسوء العلاقات من جديد، بعد ثلاثة أيام». من جهته، يتعجّب الكاتب أمين تشولاشان، في صحيفة «سوزجي»، من «المنقذ» القادم، في وقت تَغرق فيه تركيا، دولة ومجتمعاً، في المستنقع. ويُذكّر بأن الإعلام الموالي لإردوغان كان يصف الضيف، والخليجيين عموماً، بـ«عديمي الشرف»، ليعقّب على ذلك بالقول: «ثمّ يأتي هذا، ومعه عشرة مليارات دولار، وتتحوّل عناوين الصحف الموالية، إلى أهلاً وسهلاً بولي عهد الإمارات في ربوعنا، ولي العهد سيُغرق تركيا بالدولارات… ما إن سُمِع بالعشرة مليارات، حتّى تراجع سعر صرف الدولار»، مضيفاً أن «محمد بن زايد جاء بناءً على دعوة إردوغان، ليقول له هذا الأخير: إنّنا نغرق. أنقذنا. هات مال وخُذ شركاتنا وصناديقنا».
يعتقد منظّر سياسات «تصفير المشكلات» أنه لا يمكن لأنقرة أن تغيّر مواقفها بين ليلة وضحاها
في المقابل، يرسم ندرت إرسانيل، الكاتب في صحيفة «يني شفق» الموالية لإردوغان، صورة مغايرة لزيارة ابن زايد، فيقول إن «الإصرار على التفتيش عن بلد، أو قوّة كبرى، تقف خلف الزيارة هو عبث. بل يجب البحث عن التوازنات الإقليمية، بعد الاتفاق النووي، وما يجري في أفغانستان وباكستان، وشعور الولايات المتحدة بضرورة تقليص دورها في الشرق الأوسط، والاتجاه شرقاً صوب الصين». وعلى هذا الأساس، يرى أن «من شروط السياسة الجديدة تخفيف العداوة مع تركيا»، مضيفاً أن «السؤال هو عمّا إذا كان التقارب الإماراتي يحفّز تركيا على سلوك سياسات جديدة مع بعض الدول»، ليجيب على ذلك بالقول: «نعم، وقد يكون ذلك مع سوريا ومع السعودية، لكن ليس مع الجميع وبالسرعة ذاتها». لكن عاكف باقي، في صحيفة «قرار»، يعتبر أن «من حق الأمّة أن يخرج عليها مسؤول، ويشرح ما الذي جرى»، لافتاً إلى أن «الأتراك يتحدّثون دائماً عن أنهم لن يركعوا ولن يستسلموا، لكن ما الذي فعلوه الآن مع وصول المليارات؟»، منبّهاً إلى أن «الاتهامات الموجّهة إلى الإمارات، من تمويل الانقلاب، والتحالف مع الأعداء في شرق المتوسط، والدعايات، ودعم التنظيمات الإرهابية، ليست من النوع الذي يُبلع بسهولة». وفي الاتجاه نفسه، يتساءل أحمد طاش غيتيرين، في الصحيفة عينها، عمّا إذا كان إردوغان قد أثار، أثناء لقائه ابن زايد، كلّ المسائل المرتبطة بالإمارات، ومنها «مسألة شهداء 15 تموز الذين سقطوا برصاص الجنود الانقلابيّين، بأمر فتح الله غولين، وبلغ عددهم 250 شهيداً؟». ويشير الكاتب إلى أنه بعد اللقاء، يتطلّع الجميع لمعرفة تداعياته على الملفّات الخلافية، من غولين وليبيا، إلى «الإخوان المسلمين» وشرق المتوسّط، وحتّى إسرائيل، التي أطلق إردوغان سراح جاسوسَين تابعَين لها اعتُقلا في تركيا، ومن ثمّ تحادث مع رئيسها، إسحاق هرتزوغ. ويختم طاش غتيرين، بالقول: «لقد بلغت تركيا بهذه المساومات نهاية معاييرها الأخلاقية». وفي «قرار» أيضاً، يرى طه آقيول أن على أنقرة أن «تتخلّى، في سياستها الخارجية، عن البُعد الإسلامي، وتعود إلى قواعد سياسة أتاتورك، القائمة على المصلحة الوطنية والدولة الوطنية»، مشيراً إلى أن «خسائر تركيا الاقتصادية من جرّاء سياساتها الإسلامية، ولاسيما تجاه العالم العربي، كانت كبيرة جدّاً».
أمّا مراد يتكين، الكاتب المعروف، فقد كتب على موقعه أن تركيا انتقلت من «أخوّة المسلمين إلى أخوّة المال». وتساءل عمّا إذا كانت «حرب التحرير الاقتصادية» التي أعلنها إردوغان، تبدأ بالمال الذي ستدفعه الإمارات، وبشهادة حُسن السلوك «الإردوغانية» لإسرائيل تجاه الفلسطينيين؟ واعتبر أن الحقيقة الوحيدة هي أن إردوغان يريد حماية سلطته في الانتخابات الرئاسية، عام 2023. إلّا أن اللافت هو ما كتبه برهان الدين دوران، المقرّب من إردوغان، في صحيفة «صباح»، حيث قال إن «الجميع يظنّون أن حزب العدالة والتنمية يبني سياساته الخارجية على خطاب أيديولوجي، في حين أن العقلانية والبراغماتية هي التي تحدّد المصالح الوطنية»، مستدركاً بأنه «عندما يتطلّب الأمر، فإن تركيا لا تتردّد في أن تتوسّل القوّة السياسية والعسكرية من أجل حماية أمنها القومي». من جهته، كسر إبراهيم قره غول، المعروف بأنه كان من أبرز المنتقدين لسياسات ابن زايد، صمته عن الزيارة، ليكتب في صحيفة «يني شفق» أن «تركيا وقفت صامدة ضدّ كلّ محاولات تركيعها، والغرب ينقل نفوذه إلى المحيط الهادئ، ويقلّل تأثيره في الشرق الأوسط»، مضيفاً أن «الجبهة العربية ضدّ تركيا انهارت، فجاء ابن زايد ليحمي رأسه، لأن تركيا لم تكن يوماً تهديداً لهم، بل كانت تعرض الشراكة والتعاضد». واعتبر قره غول أن «الأقرب إلى المنطق أن تكون السعودية، الدولة التالية بعد الإمارات للتقارب مع تركيا»، متابعاً: «لقد انهارت الجبهة الكبيرة التي تأسّست ضدّ تركيا على حدودها الجنوبية، وهذا مكسب كبير لنا اقتصادياً وسياسياً وجيوبوليتيكاً»، مستدركاً بأن الأساس «أن تَسقط الجبهة الداخلية (المتشكلة ضدّ إردوغان)».