الدكتور رفعت سيد احمد | كاتب ومفكر قومي – مصر
كُتبت المقالة في 27 تموز | يوليو سنة 2017
قبل أن يغادرنا شهر يوليو (تموز)، دعونا نتذكّر رمزين سياسيين وعربيين ارتبطا بهذا الشهر، كل بطريقته، وكل في زمانه، إلا أن ما يجمع بينهما تجاوز الزمن، ليصبّ في الواقع ويثبت في الأرض مهما باعدت بينهما الأيام والتجارب.
إنهما الزعيم الراحل جمال عبدالناصر والمجاهد الرمز السيّد حسن نصرالله، لقد شغلتني كثيراً فكرة المقارنة بينهما منذ سنين مضت وحاولت أن أبحث في القواسم المشتركة بينهما، وما السرّ الذي يدفع الناس في بلادنا إلى التعلّق بهما حتى لو اختلفوا معهما؟ ولقد وجدت الإجابة، سأقولها باختصار في سطور هذا المقال، الذي يأتي في ذكرى حدثين كبيرين الأول هو ثورة يوليو 1952 التي قادها الأول (جمال عبدالناصر) وأعادت ترتيب الأمّة والمنطقة من جديد، والثاني هو حرب تموز (يوليو 2006) التي استمرّت لأكثر من شهر من العدوان المُجرم الدامي من قِبَل العدو الصهيوني في مواجهة لبنان شعباً ومقاومة، والتي كان يقودها الثاني (السيّد حسن نصرالله) بنُبل وشجاعة استحق عليها الانتصار والمجد.
حول الرمزين اللذين جمعا القلوب حولهما، وأثارا الدنيا وشغلاها، ورحلة البحث عن القواسم المشتركة بينهما نسجّل ما يلي:
أولاً: يُحدّثنا التاريخ، أن عبدالناصر أقام (ثورة) أحدث بها زلزالاً هزّ المنطقة العربية وأعاد بها مفهوم العروبة إلى الصدارة وقاوم بها الاستعمار والصهيونية، وأخاف من خلال ثورته عروش الملوك التابعين للعرب بخاصة آل سعود، ويُحدّثنا التاريخ أيضاً أنه رغم تعثّر ثورته في بعض مشاريعها ورغم الانكسارات والمؤامرات الدائمة طيلة حكمه (18 عاماً) إلا أنه انتصر بالمعنى الاستراتيجي لكلمة الانتصار في مواجهة ثالوث (الفقر – الاستعمار والهوان).
لقد بذر ناصر في سنوات حكمه، وعبر سياسات ومشاريع قومية وإسلامية تحريرية، بذور العزّة، والمساواة والعدل، والثورة، فأينعت عبر الكلمة والأغنية والحركات الشعبية من المحيط إلى الخليج. لقد جاء (ناصر) بالفعل في موعده تماماً مع (القدر)، حين مثّلت تجربته الرائدة، التي لاتزال حيّة، روح التمرّد والتغيّر نحو مجد الأمّة العربية ووحدتها، لقد اتّسم عصره بالعزّة رغم التحديات الجِسام، والحرية رغم حملات التشويه والهدْم، والعدل رغم تكالب مصالح الإقطاعيين والرجعية العربية، لقد كان ناصر مشروعاً للكرامة والعزّة، في مواجهة مشاريع للتبعية والاستبداد والإفقار، وهذا ليس معناه أن ننسى أو نتجاهل الأخطاء والانكسارات، لكن الإيجابي كان أكبر وأعمق وأبعد أثر، وهذا ما جعل بقاء ناصر وتجربته جلياً حتى اليوم وبعد رحيله بـ47 عاماً! في حين نسي الناس الحُكّام الآخرين بمجرّد موتهم.
ثانياً: بالمقابل.. كان (نصرالله) الذي تولّى موقع الأمين العام لحزب الله عام (1992) مثالاً للقائد الصلب المجاهد والمضحّي حتى بأقرب الناس إلى قلبه (لا ننسى استشهاد ابنه هادي عام 1997 في الخطوط الأمامية مع العدو الصهيوني) وقدّمت تجربة السيّد حسن نصرالله الممتدّة من (1982) حين كان أحد القادة المؤسّسين لحزب الله وأحد أبناء وتلامذة السيّد موسى الصدر بحركته الثورية الرائدة (حركة المحرومين) إنه الوارث الحقيقي لتراث الصدر وليس أولئك الساسة ذوي الكرافتات والبزنس حتى داخل الطائفة الشيعية، وقدّم نصرالله عبْر تجربته من (1982-2017) أمثلة رائدة في قيادة الكفاح المُسلّح ضدّ العدوان الصهيوني لينتصر عليه مرتين الأولى (في مايو عام 2000) والثانية (في يوليو 2006) وطيلة تلك السنوات التي تجاوزت الـ 35 عاماً كان (نصرالله) يُصرّ على أن يغرس الأمل والعزّة في نفوس شعبه وجنوده، لم ييأس قط ولم يتراجع قيد أنملة في عقيدته الثابتة ضدّ العدو الصهيوني وأن صراعه معه صراع وجود – تماماً كما آمن ودعا من قبل (جمال عبدالناصر)، وأن إسرائيل ليست قوية فهي لديه (أوهن من بيت العنكبوت)، فقط تحتاج مقاومتها إلى رجال أولي بأس شديد، وقد كانوا ممثّلين في الرجال الذين قاتل معهم نصرالله في الثمانينات، ثم تولّى لاحقاً قيادتهم في مرحلة ما بعد استشهاد السيّد عباس الموسوي، لقد كان نصرالله في كل مسيرته العطرة والممتدة حتى اليوم نموذجاً للعزّة والكرامة التي لا تلين أمام الصعاب، وكان أيضاً مثالاً للوعي بأبعاد الصراع مع العدو الصهيوني وأن مقاتلة تنظيمات الإرهاب والتكفير في سوريا والعراق (على سبيل المثال) هو الوجه المكمّل لمقاتلة العدو الصهيوني، فالاثنان مشروع واحد لتدمير الأمّة وحَرْف البوصلة بعيداً عن فلسطين، ونحسب أن عبدالناصر، الذي فارق الدنيا قبل تشكيل حزب الله بـ(13 عاماً)، كان أيضاً واعياً لهذه المعادلة، وحين قاتل الإرهاب الداعشي السعودي (وقت الستينات في اليمن والإرهاب الإخواني في داخل مصر) كان يعتبر ذلك امتداداً للمشروع الصهيوني.
إنه الوعي بالأعداء، والصمود في مواجهتهما والصبر على المكاره وتقديم القدوة والمثال في المواجهة، هكذا كان (نصرالله) و(ناصر).
ثالثاً: كان كل من (ناصر ونصرالله) يتميّزان بالكاريزما السياسية وبفن الخطابة والقدرة الفذّة على التأثير في المُستعمين والجمهور، والمُتأمّل لبعض من خُطَب لعبدالناصر (وهي قليلة بالمناسبة نظراً لأن التكنولوجيا التلفزيونية لم تكن حاضرة وبقوة مثل هذه الأيام) يلحظ قدرته الفذّة على اكتساب تعاطف الجماهير وقدرته أيضاً على تحريك مشاعرها في الاتجاه الصحيح، نفس الأمر يُقال عن السيّد حسن نصرالله، ورغم أن (لبنان) كدولة ليست في جغرافيا وتاريخ ودور مصر، إلا أن مقاومة شعبها ومقاومة حزب الله وغيره من المقاومات الوطنية جعل من هذا البلد (أيقونة) رائعة ومؤثّرة من أيقونات المقاومة العربية، وجاء زمن (حسن نصرالله) وجهاده ليُضفي على تلك الأيقونة تأثيراً ومذاقاً عروبياً وإسلامياً خاصاً ومتميّزاً يذكّرنا تماماً بتأثير عبدالناصر وزمانه رغم اختلاف الزمن، وأدواته ومعاركه !.
أخيراً .. لقد اشترك (ناصر) و(نصرالله) في قضية أساسية استراتيجية وهي العداء الجذري للعدو الصهيوني وفي الإيمان بقدرة (الشعب العربي) على الانتصار عليه، وفي أن الأيدي المُرتعشة (كما قال عبدالناصر ذات يوم) في مواجهة هذا العدوان لن تقوى على حمل السلاح، فلابدّ إذن من أيدٍ قوية ومؤمنة، وهو عين ما آمن به (نصرالله).
وإن أردنا أن نوجز المقارنة بين (ناصر) و(نصرالله)، فإننا نقول قِيَم العزّة والكرامة والثقة في الله، كانت هي القواسم المشتركة بين الزعيمين، ونحسبها هي التي كتبت لهما الخلود في قلوب الملايين من أبناء أمّتهم العربية والإسلامية، ومن تحمله (القلوب)، لن تستطيع السيوف، وبخاصة سيوف الفتنة، اقتلاعه أبداً، والله أعلم.
الميادين نت