بين الحزب والتيار

محمود بري | كاتب وباحث لبناني

هي المعركة الكبرى التي لم يكن أيٌ من طرفيها في وارد خوضها أو حتى الاستعداد لها باعتبارها لن تحصل ولا ينبغي لها أن تحصل. ومثل كثير من المعارك المفصلية، جاءت “على حين غرّة”، تماماً كما يحصل غالباً مع “وجع الظهر” حين يضرب “فجأة” فيُعطّل مقدرة المصاب على الحركة. يظن “الموجوع” أن الأمر ناجم عن شيء ما حصل بشكل فُجائي… حركة أو حمل أو أمر ما…مما لم يحصل معه، فتأكله الحيرة والضيق… الحيرة لأنه لم يقم بما  تسبب له بهذا الألم، والضيق لأن الألم يبدو ظالماً وبلا مسبب. أما الحقيقة فهي أن سبب الألم  المفاجئ لا يكون في حركة أو سقطة مما استجد في اللحظة التي انفجر فيها، بل بفعل تجمّع مسببات هذا الألم… نقطة فنقطة، بين أسبوع وأسبوع ويوم ويوم وحركة وحركة مما يمرّ بصمت وهدوء وسلاسة من دون أن يُلاحَظ،، حتى يصل إلى مرحلة “تعبئة كوب الألم” مليئاً، فيفيض الألم ويبدو كأنه جاء لسبب طارئ، بينما يكون قد استجمع مسبباته عبر الزمن.

هذا يشبه ما جرى بين التيار والحزب. فهو لم يكن بسبب “قرار اللاقرار” الذي اتخذه الجهاز القضائي الذي يترأسه القاضي مشلب (المحسوب على الرئيس عون)، ولا بسبب تعليقات التشفّي والكيد والشماتة وتبادل التهاني… مما أعلنه وتبادله المستفيدون والمصطادون في مستنقع السياسة الهابطة. فهذه كلها كانت مجرّد نُقاط إضافية جعلت الكأس تفيض، من دون أن تكون هي كل السبب الحقيقي.

أما القطيعة بين الطرفين والتي طرحها الوزير باسيل كاحتمال، والتي يُلوّح بها بعض  المحللين المنصرفين إلى استدعائها بكل الأساليب االجدّية والرصينة والرخيصة وغيرها مما هو في المُتناول، هي في الواقع المحايد، نتيجة منطقية تماماً لمسيرة مضرّجة بالمعوّقات والمطبّات والصدمات بين الحزب والتيار، اللذين تقاربا على أساس “ورقة التفاهم” التي كانا أعلناها معاً في كنيسة ما مخايل- الشياح، بما تختصره هذه الكنيسة وموقعها في خريطة البلد الطوائفي وحربه الجنونية، من رمزية.

صحيح أن “ورقة التفاهم” كانت محطة أساس في بناء هذا الـ “لبنان” الذي عرفناه منذ عشية توقيعها حتى اليوم. فهي صاغت خريطة جديدة لكل التوازنات السياسية التي رعت الجمهورية منذ ذلك الحين، وطبعتها ببصمة كانت مختلفة وجديدة، حيث قامت بين قوتين نابتتين للتوّ هما الشيعية السياسية متمثلة يومها بحزب الله الذي لم تُثقله الحرب الأهلية بلعناتها، والصيغة الأخرى للحالة المسيحية “الوطنية” متمثلة بالعونية الخارجة إلى الهواء الوطني المشترك، وتتميّز كحالة غير إنعزالية وغير مُقفلة أمام اللبنان الآخر.

الآن، وقد آن أوان جردة الحساب على ما يبدو، يُستحسن الاعتراف أن هذا الهيكل المستجد للجمهورية (المتوكئة على المصادفات)  قام، عندما قام، على النوايا أكثر مما على الوقائع. الحزب من جهته حمل نوايا صافية بإقامة لُبنة نظيفة لوحدة وطنية إسلامية – مسيحية، مما بيّنت له إمكانية أقامتها كل الحوارات التي دارت في السرّ مع “العونية” كتوجّه سياسي ناهض. والتيار من جهته وصل إلى استنتاجات موازية ومشابهة في إيجابيتها حيال الحزب، بالحوارات إياها، الأمر الذي أنضج ورقة التفاهم وأدّى إلى إطلاقها عبر بطليها الأساسيين: السيد والجنرال. وهذا ما عمل في لحظة مناسبة (وتاريخية) على كسر احتمالات “خندقة” العلاقة بين مكوّنين دينيين مختلفين خرجت بهما الأحداث للتوّ من حرب طائفية ومناطقية طرقت أبواب العنصرية. الحزب أطربه انفتاح العونية، والتيار أسعده التلاقي مع مكوّن من اللون الآخر، ليس مُغمّساً بدماء الحرب اللعنة، فانفتح كلٌ من الطرفين على الآخر بكل ما في شخصية القائدين من صدق وعفوية ونوايا طيبة.

 

إلا أن هذا لا يعني أن ما حصل هو قيام حلف…، (وهو ما يبدو أن كثيرين لم يحبوا الالتفات له). فالورقة التي رغب طرفاها في جعلها أكثر من مجرّد تفاهم، بقيت على الرغم من كل التقارب، أقل من حلف، على الرغم من أنها بنت بين طرفيها نوعاً من التقارب لم تشهد الجماعات اللبنانية مثيلاً له، بخاصة في تاريخها الحديث. والدليل استمرار مفاعيلها كل هذه السنوات… وما تخلله ذلك من محطات ليس أقلّها “وصول” ميشال عون إلى رئاسة البلاد.

صحيح أن “حليف الحليف” لم يكن مطمئناً لما يجري ولا كان سعيداً به، ولديه أسبابه المعروفة التي لا يعلنها، إلا أن المعني الأساسي بهذا التفصيل الهام، وهو الحزب، لم يجد ضرورة لأي مبادرة مباشرة في هذا الصدد… وهذا أغرب من أن يكون مجرّد صدفة.

من هنا ابتدأت المشكلة، ومن هنا وجدت فئران مأرب طريقها لدكّ السد الكبير… وهذا واضح ومؤكد ولا يحتمل النقاش. وشيئاً فشيئاً راح الحبل الذي من ليف نباتي طري يحفر في عتبة البئر التي من صخر صلد. العاملون يُدلّون السطل بالحبل إلى البئر ويرفعونه مليئاً بالماء…والحبل يفعل فعله في الصخرة… و”نُقاط” الغضب تتجمّع في كأس العلاقة بين طرفي الورقة، سطلاً بعد سطل، وحادثة بعد حادثة، بينما الحزب الذي كان مطمئنا إلى مقدرته على إزالة “التكلّسات” المتنامية في مفاصل العلاقة بين الحزب والتيار، لم يأخذ بعين الاعتبار أحتمالات امتلاء الكوب… إلى أن انفجر الألم جاء قرار المجلس الدستوري ليكون مثابة القشّة التي قصمت الظهر.

إلى هنا لا جديد غير معروف. لكن ما هو معروف (أيضاً) أن الغد لن يكون استمراراً للأمس بين طرفيّ ورقة ما مخايل. والمعضلة الكأداء هنا أن لا غنى لأي من الطرفين “السياسيين”  عن كتف الآخر، ولاسيما بوجود جعجع من جهة وجنبلاط من جهة والمجتمع المدني الأميركي- السعودي من مختلف الجهات.

هي حالة “حيص-بيص” سقط فيها طرفا الورقة… ولن ينفع معها أن تخفض القيادات سقف خطابها اليوم وقد ذاع الخلاف وشاع. الأمر بات كالمنشار: إن تنازل باسيل سوف يخسر من لحم التيار… وإن لم يتنازل سيخسر أيضاً. كذلك فإن وضع الحزب حيال حليفه في الثنائي ليس أقل حساسية. فلا يمكنه فسخ الثنائي ولا المحافظة عليه من دون خسارة قاسية سيتلقاها في الحالتين…والأنكى أنها جاءت في أسوأ توقيت. وحيث أن لا حليف مسيحياً للحزب يُعتدّ به في الساحة المسيحية غير ميشال عون (باعتبار سليمان بك فرنجية “الحليف بالنوايا” في أحسن الأحوال وليس له وزن إنتخابي يُعتدّ به)، ولا حليف بالمرّة للعونيين في الوسط الإسلامي غير الحزب، فهذا يعني أن الكاس المرة تنتظر الجميع.

وحده الرئيس بري يمكنه أن يشرب كأس الإنتصار… والذي قد يكون أكثر مرارة أيضاً. فشعبية بري ليست موثوقة في الانتخابات المقبلة ما لم يكن متحالفاً بقوة مع الحزب ومع التيار. وعلى الرغم من متانة انضباط التنظيم الحديدي، إلا أن فئران صغيرة سبق لها أن دمّرت أعظم سدّ في التاريخ القديم، في مأرب. ومن يدري…

ففي الملمّات يصير دعاء الجميع: يا رب نفسي!

Exit mobile version