ايهاب زكي | كاتب وباحث فلسطيني
حين النظر للشاحنة وما تحمله من منصة إطلاق، والتي استخدمها حزب الله في الردّ على العدوان “الإسرائيلي”، ترى أنّها أشبه بالأسلحة القديمة، مقارنةً بترسانة جيش العدو، وهو مشهد أقرب ما يكون لحقبة الثمانينيات، وليس لحزبٍ امتلك أدوات الحرب الحديثة، بل وتعتبره بعض التقارير “الإسرائيلية” جيشاً يفوق قدرةً بعض جيوش “الناتو”. لكن المشهد على بدائيته كان كافيًا لتثبيت قواعد الاشتباك، وأكثر من كافٍ لردع الجيش الأقوى في المنطقة؛ فالعدو أدرك سريعًا أنّ هذه الصواريخ هي مجرد رسالة شفاهية وإن اتخذت شكلاً ناريًا، مفادها أنّ الحزب يمتلك شجاعة الذهاب للحرب، ولديه من الجدية أقصاها لتكريس قواعد الاشتباك القائمة، كما أنّها تفيد بأنّ الأزمات اللبنانية مهما تفاقمت، لا تأثير لها على موازين الردع ولا تأثير لها على طبيعة الصراع، وأنّ الرهان “الإسرائيلي” على هذا الصعيد سيُمنى بالخسران، والرسالة الأهم أنّ الحزب يمتاز بأعلى درجات الانضباط، ولديه ميزان ذهب لكل قرارٍ ولكل سلوك، ويدرك العدو أنّ حزبًا يمتاز بكل هذه المناقبية، بحاجة لأكثر من ثغرة الأزمات اللبنانية لإجباره على الخضوع لقواعد اشتباك جديدة.
يتساءل العدو، على إثر تلك المواجهة الأخيرة، عمّا إذا كان ما لدى الحزب من قدراتٍ يستوجب حربًا، وهو سؤال يستبطن مكر اليهود، حتى يتسنى لهم التعمية على العجز البيّن، فالعدو “الإسرائيلي”، لا يحتاج لمبررات حتى يقوم بالاعتداء وشنّ الحروب، لأنه بطبيعته عدواني وتوسعي، ورصاصة واحدة مثلاً ومفبركة ضد سفيره في لندن، كانت كافية لاتخاذها مبررًا لاجتياح لبنان عام 1982 واحتلال بيروت، وطلقة واحدة على أحد أبراج المراقبة العسكرية في غزة قبل العام 2005، كانت كافية لتدمير عشرات المنازل وجرح وقتل عشرات الفلسطينيين. لكنه اليوم في زمن حزب الله، الذي يقول العدو إنّه يمتلك 150 ألف صاروخ، فيها المئات من الصواريخ الدقيقة، يتساءل إن كان هذا يستوجب حربًا، وكلما وضع خطًا أحمر، جاءت تقديراته الاستخبارية بأنّ الحزب تجاوز الخط الأحمر، أعاد العدو رسم خطٍ أحمر آخر، وتجاوز هذا الخط في عرف الاستراتيجيين الصهاينة، يعني ضرورة شنّ الحرب، لكنه يعمد إلى رسم خطٍ آخر كبديلٍ عن شنّ الحرب، فقد كان مثلاً الخط الأحمر مائة صاروخٍ دقيق، وحين جاءت التقديرات الاستخبارية للعدو بتجاوز الحزب لهذا العدد، ظل يرفع عدد الصواريخ حتى وصل للألف.
لا نعرف ولا أحد يعرف ماذا يختزن حزب الله في ترسانته العسكرية من صواريخ دقيقة أو غير دقيقة، ولا نعرف ولا أحد يعرف معدل الزيادة ونوعيتها، ولكنها في عرف العدو تستوجب شنّ الحرب منذ الصاروخ الأول، وقد قال السيد نصر الله في أحد خطاباته “يكفينا عشرة صواريخ دقيقة، لاستهداف المناطق الاستراتيجية في كيان العدو”، والسيد يعني أنّ هذا كافٍ لتحقيق الانتصار، والعدو يدرك ذلك، لكن المشكلة أنّه إدراكٌ للعجز في ذات الوقت، فمن ارتعشت أطرافه وارتعدت أوصاله أمام شاحنةٍ تحمل منصة صواريخ من حقبة الثمانينيات، وتراجع خطوةً للوراء وأعاد عقارب الساعة للوراء، والتزم بالقواعد القائمة للاشتباك، لا يمكن لعقله أن يستوعب فكرة الذهاب إلى الحرب، خصوصًا بعد أن شاهد بأمّ العين تراجع القوى العظمى وكيف ابتلعت لسانها، بعد أن ظلت على مدى أسبوع تمارس التهديد للجمهورية الإسلامية في إيران، انتهت لمجرد تقديم شكوى إلى مجلس الأمن. بمعنى أنّ ذهاب “إسرائيل” للحرب يعني أنّها ستذهب منفردة، وفي حال توسعت رقعة الحرب لتصبح حربًا إقليمية، فلا ضمانات على الإطلاق لدى “إسرائيل”، ألّا تظل وحيدة في حربها، لذلك تمخضت “إسرائيل” من كل تهديداتها عن تصريحٍ لـ بينيت “حزب الله يورط لبنان في حرب”، وهو ما يعني أنّ “إسرائيل” بكل ما أوتيت من صلفٍ وعنجهية، تستنجد بأطرافٍ داخلية لبنانية على تهالكها وتهافتها، والترجمة الحرفية لتصريحات بينيت “نريد الاستيلاء على لبنان دون ضجيج، فهل من معين يا أهل لبنان”، والمؤسف أنّ هناك من يرفع يده ويقول لبيك “إسرائيل”، وإن بلغةٍ مواربة.
في خطاب السيد نصر الله بمناسبة انتصار تموز 2006 كان شديد الترفع. ترفع يتوّج القوة فيزيدها وهجًا، فالقوة التي تراها “إسرائيل” تهديدًا وجوديًا، يحاول بعض الداخل التطاول على هيبتها، وهذا التطاول يخدم العجز “الإسرائيلي”، وتحاول “إسرائيل” من خلال الدفع باتجاه خدش هيبة القوة، رتق الثغرات التي تُعجزها عن مواجهة حزب الله، لذلك كان السيد نصر الله شديد الوضوح في هذا الجانب، حيث اعتبر أنّ الحزب يضع تلك السلوكيات في عهدة الدولة، وسيتابع الحزب تلك القضايا بجدية مطلقة، فهذه القوة هي لحماية لبنان وشعبه، وليست بديلاً عن الدولة الجامعة، ورغم أنّ “إسرائيل” لن تتوانى عن الدفع باتجاه سلوكيات مماثلة، فإنّ حديث السيد نصر الله والقواعد التي أرساها لمواجهة تلك السلوكيات، أفرغتها من نتائجها وجعلتها بلا قيمة ميدانية، وبلا فوائد استراتيجية على مستوى الصراع، وما جعل حديث السيد نصر الله شديد الأهمية، هو انضباط بيئة المقاومة الذي بدا كأنّه معجزة سماوية. فهذا الانضباط يجعل من تلك الاعتداءات وذلك التطاول كأنه صرخة في فلاة، لا سامع لها، وليس لها صدىً سوى في آذان من يطلقها، فيبني على الصدى الاستنتاجات والاستراتيجيات، ويستنتج إعلام النفط مثلاً، أنّ الحزب فقد بيئته وبالتالي شرعية سلاحه وشرعية وجوده، وهذه استنتاجات لا ترقى حتى لمستوى أحلام اليقظة، ولكن الواقع وحقائقه الصلبة تدركه “إسرائيل” وازدادت له إدراكاً وتجرعاً بعد 20 صاروخاً، وعرفت أنّها تضع الخطوط الحمراء لنفسها لا للحزب، وأنّ خطوطها الحمراء مجرد ستارٍ لعجزها.