الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
أثارت رسائل التهنئة التي أرسلها الرئيس الصيني تشي جينبينغ وزوجته إلى الرئيس السوري بشار الأسد وزوجته، بعد إعلان شفائهما من إصابتهما بكوڤيد- 19، ثم التهنئة بالفوز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في منتصف شهر أيار/مايو، التساؤلات حول ازدياد اهتمام بكين بالملف السوري أكثر من السابق. فهل ستأخذ بكين قرار الذهاب إلى سوريا بعد تأخُّرها كثيراً بالحضور؟ أم أنها لا تتحمَّل وحدها مسؤولية التأخير؟
أدركت بكين لحظة انطلاق ما يسمّى “الربيع العربي”، بدءاً بتونس، أن ما يحدث في المنطقة العربية لا يخرج عن السياقات التي خَبِرتها، بدءاً بأحداث ساحة تيانانمن عام 1989، التي قادها طلاب يطالبون بالديمقراطية وفقاً للتصورات الغربية لها، الأمر الذي دعاها إلى استخدام العنف لإنهائها.
وتابعت، في ما بعد، نمط هذه الاحتجاجات في الثورات الملوَّنة التي حدثت في أوروبا الشرقية، فكانت نتائجها هي اصطفاف الدول الغربية إلى جانب الولايات المتحدة على نحو أكبر وأشد ولاءً، الأمر الذي جعلها تنظر، بحذر وترقّب، إلى انتشار الاضطرابات التي كان يقودها الإسلاميون، حتى وصلت هذه الاضطرابات إلى سوريا، وهو ما دفعها مع روسيا إلى الوقوف معاً في مجلس الأمن، واستخدام الڤيتو المشترك 16 مرةً ضد التوجُّهات الأميركية لمنح نفسها شرعية تدمير سوريا، كما حدث في ليبيا.
وإدراكاً من البلدين الناهضين أن هذا “الربيع العربي” الذي يقوده الإسلاميون، هو نفسه مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي وُضعت أهدافه في مؤتمر “سي آيلاند” في الولايات المتحدة عام 2004، واختيرت تركيا لتحتضن الإسلاميين وتقوم بإدارتهم، وصولاً إلى غربي الصين في إقليم سينكيانج، وإلى داخل الجمهوريات المسلمة في روسيا، إضافة إلى حصار إيران في محيطها الإقليمي ببنية مذهبية متباينة ذات طبيعة عدائية مُنهِكة، وإدخال دول آسيا الوسطى وغالبية الدول المسلمة في جنوب شرق آسيا في هذا المشروع الأميركي، الأمر الذي يحدّ طموحات كل من الصين وروسيا في ما يتعلق بتمدد نفوذهما، اقتصادياً وسياسياً، ويُدخلهما في دوامة الاضطرابات الأمنية الداخلية المهدِّدة لوحدة كل من بلديهما، واستنزافهما اقتصادياً لكبح جماح تطورهما الاقتصادي، وخصوصاً الصين التي تحوّلت، نتيجة قدراتها كأكبر مُنتج اقتصادي في العالم، إلى تهديد حقيقي لمكانة الولايات المتحدة.
اكتفت بكين باستخدام حقّها في الاعتراض على قرارات مجلس الأمن، وببعض المحاولات الرامية إلى الاجتماع بأطياف من المعارضة السورية لإيجاد حلّ سياسي، ولم تتدخّل في الشأن الاقتصادي من تقديم مساعدات إلى محاولات إعادة البناء. كما لم تتدخّل بكين عسكرياً على الرغم من وجود المسلَّحين الإيغور وعائلاتهم، والذين يتخذون سوريا ساحة للتدريب، ورفع قدراتهم العسكرية للعودة إلى الصين.
وينبع هذا الموقف الصيني من أربعة أسباب:
أوّلها أن وظيفة الجيش الصيني دفاعية، ولا يحق لبكين أن ترسله في مهمات خارجية.
ثانيها طبيعة الاتفاق الذي تم مع روسيا، والذي يتيح بموجبه لروسيا فقط الدعم والتدخل العسكريين، الأمر الذي جعل بكين تحتاج إلى التوافق مع موسكو لدخول سوريا اقتصادياً.
ثالث هذه الأسباب هو عدم توفر بيئة عمل اقتصادية وتشريعات سورية تُلائم دخول الاقتصاد الصيني والبدء في الاستثمار.
ورابعها هو المحاولات الروسية لإعادة ترتيب المنطقة بما في ذلك “إسرائيل” ضمن منظومة إقليمية واحدة، وذلك من خلال إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، وإدخال المال العربي لإعادة إعمارها، على الرغم من كل ما يحمله ذلك من مخاطر على روسيا نفسها، بسبب الدور الأميركي المؤثر في التحكم في سياسات هذه الدول العربية الداخلية والاقتصادية. وهذا سيعني، بالضرورة، وجود أميركا و”إسرائيل” في سوريا، وإنجاز ما عجزتا عنه في الحرب بواسطة التحكم بمفاصل الاقتصاد السوري ومنعكساته الاجتماعية والسياسية.
مع مجيء جو بايدن، ارتفعت سوية العداء تجاه الصين وروسيا على نحو صارخ، بعد أن طرحت الإدارة الأميركية الجديدة استراتيجيتها تجاههما، واعتبرتهما الأكثر تهديداً للولايات المتحدة. وقامت هذه الإدارة بحركات عسكرية تحذيرية وتهديدية لكِلتا الدولتين، في البحر الأسود وبحر الصين الجنوبي.
ردّت بكين، عبر كلمة الرئيس الصيني تشي جينبينغ، في مئوية تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، بينما تبنّت موسكو، في سياق ردّها، استراتيجيةً جديدة للأمن القومي، وأعطت الأولوية للعلاقات مع الصين والهند، وابتعدت عن محاولات الدخول في شراكة مع الدول الغربية، التي بقيت على عقيدتها القديمة بالنظر إلى روسيا، باعتبارها تهديداً لها.
ازدادت المخاطر على كِلتا الدولتين بعد أن استطاع جو بايدن استغلال طموحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وتمدده عبر مشروع توركوت أوزال القومي، والذي يشمل دول آسيا الوسطى التركية، وصولاً إلى حدود إقليم سينكيانج في غربي الصين، بمساحة 1.6 مليون كم2. وهو الإقليم الذي تقطنه بنسبة 50 % أقلية مسلمة، من بينها الإيغور، بينما البقية من قومية الهان الصينية.
تابعت الإدارة الأميركية الجديدة سياسات الرئيس السابق دونالد ترامب، عبر السماح لتركيا العضو في الناتو بالتمدّد في اتجاه أفغانستان، بديلاً من قواتها، الأمر الذي يجعل تركيا تشكل تهديداً لكل من روسيا والصين وإيران، مع نقل مجموعات من تنظيم “داعش” الموجودة في سجون الحسكة، ومجموعات تكفيرية في إدلب، بمن في ذلك الإيغوريون، إلى وسط آسيا.
دفعت طبيعة التهديدات، التي تتعرَّض لها الصين وروسيا، إلى إعادة النظر في الملف السوري، من زاوية مغايرة. وتقتضي مصالح البلدين الكبيرين مراجعة التفاهمات في ما بينهما. فاحتكار روسيا إدارةَ الملف السوري سبّب لها كثيراً من المخاطر والتهديدات، وخصوصاً مراهنتها على إمكان احتواء الرئيس التركي إردوغان بعد أن أنقذته من المحاولة الانقلابية التي جرت عام 2016، وسمحت له بالتمدد داخل الشمال السوري في عفرين وشرقي الفرات، وبتوافق مع الولايات المتحدة، ما جعله يندفع أكثر بطموحاته فانتقل إلى ليبيا وآذربيجان عبر مجموعات سورية مسلحة، فبدأ يسوّق نفسه كسلطان عثماني مقابل القيصر الروسي بدل أن يكون طموحه محصوراً بدولة إقليمية كبرى.
كما أن المحاولات التي تقوم بها موسكو لجذب المال العربي لا تخلو من التهديدات المستقبلية، التي تتيح للأميركيين والإسرائيليين دوراً في التحكّم في مفاصل الاقتصاد السوري، والتغلغل في البنى الاجتماعية السورية. ولا يمكن المراهنة على دول قرارها في واشنطن. من هذا المنطلق، ينبغي لموسكو إعادة التفاهم مع بكين والتوافق على حضورها الكامل في شرقي البحر الأبيض المتوسط، بتكامل في ما بينهما، بالإضافة إلى إيران التي لا غنى للبلدين عنها، وكذلك الأمر سوريا.
تستطيع الصين وحدها، من خلال إمكاناتها الاقتصادية الهائلة، وتفوّقها التكنولوجي على جميع دول العالم، أن تقوم بإعادة إعمار سوريا. وهذا يتيح لها إنجازاً مهماً في مبادرة الطريق والحزام، وخصوصاً أن القوات الأميركية ستخرج حتماً من العراق في القريب العاجل، الأمر الذي يتيح لبكين الوصول إلى الطرق البرية، من باكستان إلى إيران فالعراق، ثم إلى سوريا ولبنان، مع وجود عامل مساعد بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان وسيطرة حركة “طالبان”، التي دعمتها كل من طهران وموسكو، على مسار الأحداث فيها.
لا شك في أن بكين قادمة إلى دمشق، بقوة، بعد خطاب القسم، لكن هذا الأمر يتطلّب من دمشق أن تقوم بتغيير جذري هادئ على الطريقة الصينية، على الرغم من اختلاف الثقافتين والمجتمعين. لكنها تستطيع تغيير بيئة العمل الاقتصادية، وتحجيم دور اقتصاد الظل إلى الحد الأقصى، والذي يُفترض زواله بزوال مفاعيل الحرب التي غذّته وحوّلته إلى عبءٍ ثقيل على السوريين الضعفاء. كما يتطلّب الأمر تغيير التشريعات الاقتصادية، والسير في الإصلاح الجذري في كل المسارات. وهذا ما يتأمّله السوريون بعد بدء المرحلة الرئاسية الجديدة. فهل ستتحقق آمال السوريين؟