بديهيات الساعة الرابعة والعشرين ( ج 2 )

الدكتور احمد عز الدين | كاتب وباحث مصري في الشؤون الإستراتيجية

للكلمة كتلة ووزن وطاقة ، فإذا اضمحل الوزن وغابت الطاقة سرعان ما تتهاوى في الفضاء ، دون أن تترك أثرا ، بعد أن تغدو بلا جناحين ، وللأسف ففي كثير مما يُكتب ويُقال كلمات بلا أجنحة .
لقد قدم السيد أمين عام جامعة الدول العربية ، تفسيرا لذلك الحوار الذي أجراه مع التليفزيون المصري الجنرال ماكنزي ، قائد القيادة الوسطى الأمريكية – وليس القيادة المركزية كما قيل – حيث رأي أن حديث الجنرال هو في السياسة ولذلك فإنه ليس حديثه ، وإنما حديث السلطة الحاكمة في الولايات المتحدة ، ثم فض أغلفة الحديث بناءا على ذلك ، ورآه رسالة أمريكية واضحة موجة إلى أثيوبيا، مما يعني أن علينا أن نتمهل وننتظر تأثير هذه الرسالة في إلحاق تغيير جوهري بالموقف الأثيوبي من قضية الملء الثاني للسد ، وذلك بعد أن تمهلنا وانتظرنا خمسة أسابيع في انتظار تأثير رسالة قدمها بنفسه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، لا واحدا من ضباط البنتاجون .
أخشى أن أقول أن أولئك الذين ينتظرون فعلا أمريكيا يفرض تغييرا جوهريا في الموقف الأثيوبي ، أو غيرهم ممن ينتظرون فعلا داخليا اثيوبيا يحقق النتيجة ذاتها، إنما يتقمصون أدوار أبطال مسرحية عبثية اسمها ( في انتظار جودو ) وهم ينفقون الوقت في لعبة الجدل على رصيف محطة للقطارات في انتظار قطار لن يأتي أبدا .
إن ذلك لا يعني أن أمريكيا لا تقدر على تطويع الحالة الأثيوبية ، ولكن معناه المحدد أنه لا القيادة السياسية ولا القيادة العسكرية في الولايات المتحدة تقدران على تحطيم هيكل الإستراتيجية الأمريكية التي يجري تنفيذها على قدم وساق في الإقليم ، والذي يعد السد واحدا من أهم حلقاتها الأساسية .
لقد أكد الجنرال ماكنزي في حديثه بعضا مما تم رسم خطوطه العريضة في الجزء الأول من هذا المقال ، فقد ربط بغير رابط منظور بين ( القلق ) من موضوع سد النهضة و ( القلق ) من موضوع الحرب على اليمن ، وهو لم يعكس بذلك تلك الصلة غير الموصولة ظاهريا بين الأمرين ، وإنما بين التوجه الأمريكي في الحالتين ، وهو في حالة الحرب على اليمن فرض ( تسوية مختلة وموقوتة ) على حساب اليمن ، وفي حالة السد فرض (تسوية مختلة وموقوتة ) على حساب مصر ، ففي النسق العام لأي توجه إستراتيجي ، يتحتم أن تكون هناك وحدة بين أنماطه المختلفة .
(2)
لا تستطيع أن تجد تفسيرا وطنيا خالصا لتلك الأصوات التي ما تزال تحشو أفواهها دفاعا عن الدور الإماراتي أو السعودي داخل نطاق الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط بما في ذلك سد النهضة ، وفي تغيير البيئة الإستراتيجية في محيط السد ، وفي تنمية الدور الأثيوبي في القرن الأفريقي كقوة إقليمية .
لقد بدأت الإمارات دورها في القرن الأفريقي مبكرا بالتدخل في الصومال لدعم الميليشيات والجماعات الإرهابية ، ثم افتتحت مركز تدريب عسكري في مقديشيو ، تم إغلاقه بعد ذلك ، ثم افتتحت مستشفى كبير في مقديشيو كمقدمة لطلب بالحصول على قاعدة عسكرية ، وحين تم رفض الطلب قدمت عرضا آخر تدفع بموجبه 20 مليون دولار مقابل أمرين : قيام الصومال بفتح جبهة صراع مع اليمن ومطالبتها بجزيرة (سوقطري ) اليمنية على أنها أرض صومالية ، على أن تقوم الإمارات بعد ذلك باستئجارها من الصومال ( ثم تقديمها هدية لإسرائيل ) غير أن رد الصومال الذي يقتات من لحمه جاء مدهشا : ( لسنا أدوات رخيصة لتنفيذ مطالبكم ) حيث تلى ذلك تفكيك مستشفى الشيخ زايد في مقديشيو وتركها خاوية تنعي من بناها .
ولك أن تلاحظ أن سعي تركيا كان سابقا ثم موازيا لسعي الإمارات في مقديشيو ، فقد دخلت مبكرا ( 2011 ) تحت لافتة المساعدات الإنسانية ، ثم استدارت للحصول على إدارة مطار وميناء مقديشيو ، ثم استدارت مرة ثانية للحصول على قاعدة عسكرية ، وفي 2015 افتتحت هناك أكبر قاعدة عسكرية تركية في الخارج ، وأكبر سفارة تركية كذلك .
والحقيقة أن هذه المزاحمة الإماراتية التركية ، سواء في الصومال أو اليمن أو ليبيا أو غيرهم ، والتي تعطي الإمارات انطباعا بأنها إنما تعكس تناقضا إماراتيا تركيا لصالح العرب هو انطباع كاذب ، فكلا الدورين مكمل للآخر فتركيا تلعب لصالح الولايات المتحدة بالدرجة الأولى والناتو بالدرجة الثانية وإسرائيل بالدرجة الثالثة ، أما الإمارات فهي تلعب لصالح إسرائيل بالدرجة الأولى والولايات المتحدة بالدرجة الثانية والناتو بالدرجة الثالثة .
لقد كان سعي الإمارات بعد ذلك محموما للحصول على قاعدة عسكرية في جيبوتي ، لكن جيبوتي تحت ثقل وجود سبع قواعد عسكرية أجنبية ، وفي ظل توجسها الكبير من أطماع أريتيرية حليفة للإمارات ، أفسدت ما هو أهم من حصول الإمارات على ميناء ( دوراليه ) وهو بناء جسر بري يربط عدن بجيبوتي فوق البحر الأحمر ، ومن ثم يربط الخليج بحلقات القرن الإفريقي وامتداداتها إلى أثيوبيا التي ظلت تُهيأ لدور إقليمي كبير ، ويربط المسرح الإستراتيجي الكبير كله بامتداداته على طول ضفتي البحر الأحمر ثم المحيط الهندي على جانب وصولا إلى شرق وغرب السودان وتخومهما على الجانب الآخر، ليتاح نقل محور الدفاع عن الخليج من المحيط الهندي إلى إسرائيل كضابط للتفاعل الإقليمي ، وتذهب العلاقة بين قناة السويس وباب المندب مع جراحات إستراتيجية أخرى في اتجاه عكسي ، فبدلا من أن يكون باب المندب ظلا لقناة السويس ، تصبح قناة السويس ظلا لباب المندب .
(3)
كان دور الإمارات بالدرجة الأولى والسعودية بالدرجة الثانية جنبا إلى جنب مع إسرائيل في إطار هذه الإستراتيجية هو إنهاء عزلة أثيوبيا إستراتيجيا وجغرافيا برا وبحرا ، وتمكينها من الامتلاء بدور خاص في القرن الإفريقي ، يؤهلها لدور إقليمي بارز ، وقد كان مطلوبا لاستكمال هذه المهمة والدور أمران : سيطرتها المطلقة على مياه النيل الأزرق ، وتركيع مصر، ثم منحها طاقة للتمدد فوق كافة وحدات القرن الإفريقي وصولا إلى المحيط الهندي .
لقد تمكن التحالف الإماراتي الأريتري وفي عمقه إسرائيل والسعودية من ضم أثيوبيا إلى هذا التحالف ، بعد إنهاء الخلافات الأثيوبية الأريتيرية حول مثلث ( بادمبي ) الحدودي – وهو بالمناسبة مملوك لجبهة التجراي – وتم دفع مبلغ 2 مليار دولار لتحقيق ذلك ليتسع التحالف الجديد لأثيوبيا والإمارات وأريتريا وفي عمقه كالسابق السعودية وإسرائيل ، وهو تحالف لعب دورا عسكريا مؤثرا في الحرب داخل أثيوبيا ضد (التجراي) خاصة من جانب أريتريا والإمارات ، وهو يلعب دورا في خلط الأوراق مع السودان في مثلث الحدود بين أريتريا والسودان وأثيوبيا ويدفع شرق السودان لانفجار صراع قبلي على طول ولايات الغضارف وكسلا وبورت سودان، لتقسيم السودان مجددا في إطار نفس الإستراتيجية .
(4)
ما هو الجديد في هذا الإطار ؟
لقد بدأت الإمارات في نقل قواتها ومعداتها من القاعدة البحرية التي حصلت عليها قبل سنوات في ميناء عصب الأريتيري ، وبموافقة إماراتية وأريترية وإسرائيلية تتأهب أثيوبيا لتحل محلها ، علما بأن القاعدة يتواجد فيها ضباط أمريكيون وبريطانيون وإسرائيليون ، وللإسرائيليين قريبا منها أبراج للمراقبة على الشواطئ الجنوبية للبحر الأحمر .
وقبيل انتهاء العام الماضي ( 15 نوقمبر 2020 ) وقعت الإمارات اتفاقية تعاون عسكري مع أثيوبيا ، وقامت بإيداع مبلغ 3 مليارات دولار في البنك المركزي الأثيوبي ، الذي كاد أن يصبح مفلسا ، وقد استبقتها تركيا إلى توقيع اتفاقية عسكرية وافق عليها البرلمان الإثيوبي في مارس 2015 ، وبحسب البيان الختامي لها فقد تعهدت تركيا بنقل خبرتها في بناء السدود ، وفي الدفاع عن سد النهضة ضد أي تهديد وتعهدت بحماية السد بواسطة رادارات تركية للإنذار المبكر ، وتزويد أثيوبيا بنظام دفاع صاروخي تركي إسرائيلي مشترك .
ومع فك عزلة أثيوبيا وفتح ممر بري ، ثم قاعدة بحرية في أريتريا ، تم في الشهر الماضي (5/5/2021 ) توقيع اتفاق بين الإمارات وأثيوبيا لتطوير ميناء بربرة والطريق الواصل بينه وبين أثيوبيا ، ليكون أحد أهم الممرات الإستراتيجية والتجارية لها ، وقد استبقت هذه الاتفاقية اتفاقية أخرى بين الطرفين ، تقوم بموجبها الإمارات بإقامة ممر بري يصل أثيوبيا بإقليم أرض الصومال ، مع تطوير وتوسعة ميناء ( بردوا ) في إقليم أرض الصومال ليكون بوابة رئيسية لأثيوبيا على الحافة الشرقية للقارة الأفريقية والضفة الغربية للمحيط الهندي ، حتى لا تظل أثيوبيا – كما كان يقال – حبيسة جيبوتي .
وبينما سعت مصر للحصول على قاعدة ارتكاز عسكرية على الضفة الجنوبية للبحر الأحمر وتحديدا في جزيرة ( نورا ) قبالة الساحل الأريتيري مع تطورات الحالة الأثيوبية وسد النهضة ، حيث تتيح لها القاعدة اقترابا مباشرا من المسرح الأثيوبي بحكم أنها لا تبعد عن السد أكثر من 750 كم ، كان التحالف الإماراتي الأثيوبي الأريتري هو الذي سعى إلى إفشال المحاولة ، وكان الرد المصري المباشر هو بناء قاعدة رأس بيناس على البحر الأحمر .
لقد قدمت الإمارات – حسب الكاتب الإسرائيلي دافيد كانز – تعهدا لإسرائيل بأنها سوف تضغط على القاهرة بما تمتلكه من أوراق لربط حصة مصر من مياه النيل بحصة إسرائيل ( من 12 مليار متر مكعب إلى 20 مليار متر مكعب ) وكان نتنياهو يثق في سعي بن زايد لكنه كان يعتقد أن قبول مصر بالصفقة أقرب إلى الاستحالة ، وفيما سعى إلى تعزيز السعي الإماراتي بضغوط أمريكية مباشرة ، لكن الرفض المصري جاء قاطعا .
(5)
تلك بعض بديهيات الساعة الرابعة والعشرين ، ومازال في سياقها ما يستحق أن يستكمل ، لكنني أحسب أنه آن لهذا اللوبي الإماراتي أن يصمت ، فما يبدو شاخصا أمامنا لا يحتاج إلى توصيف التهديد بغير أنه تهديد وجودي حال ، وفوق مسرح بالغ الاتساع والعمق تم تخليق رؤوس جسور لتغيير جيواستراتيجي كامل ، يرتكز طرفيا على قاعدتين ، أثيوبيا وفي قلبها سد النهضة من ناحية ، والحرب على اليمن لتقسيمه وانتزاع ساحله الغربي كاملا ، وبينهما ما بينهما من ممرات وجسور ومتغيرات عاصفة في التحالفات والأدوار وموازين القوى والمواقع الإستراتيجية الحاكمة .
لم يعد الأمر إذا أمر (ضرر) أو (شحة مياه) أو غير ذلك من التعبيرات الضالة والمضللة ، فالهدف الإستراتيجي المضاد لمصر ، الذي يطل عليها من الحلقة الأثيوبية الرئيسية عند سد النهضة مع الامتداد الكبير لهذا المسرح ، هو على وجه التحديد : ( إفقاد الدولة المصرية مبررات وجودها ) .
وهو هدف لم يعد يقبل المنازلة بغير القوة المسلحة .
وللحديث بقية..

Exit mobile version