باخرة المحروقات الإيرانيّة… رحلة بين زمنين

علي شكري | كاتب وباحث سوري

حين أعلن السيد حسن نصر الله في خطابه يوم عاشوراء، انطلاق سفينة المازوت الإيراني في طريقها إلى لبنان، ثم طوَّبها «أرضاً لبنانية» بحركة من إصبعه، لم تشك غالبية جمهور المقاومة في أنها ستصل إلى مقصدها في نهاية المطاف، حتى لو واجهت بعض العراقيل هنا أو هناك.

ولكن، هل كان الأمر بتلك البساطة حقاً، أم أن يقيننا بمصداقية السيد هي التي جعلتنا نثق بوعده؟
لو تأملنا المسألة من منظور محايد، لوجدنا أن تلك المغامرة كانت تبدو محفوفة بالمخاطر والثغرات التي يمكن أن تمنح الأعداء المتحفّزين ما يحتاجونه من ذرائع لاستهدافها.
فالسيد لا يملك الصفة الرسمية لتحديد ما يعنيه «أرض لبنانية» من خارج القوانين البحرية والدولية، وهو لا يدَّعي ذلك أصلاً.
وحزبه محظور ومصنف «إرهابياً» من قبل صفوة دول «المجتمع الدولي» المهيمن.
والنفط الذي تحمله مادة استراتيجية ذات استخدام مزدوج مدني/ عسكري، إذ يمكن أن يستخدمه الحزب أيضاً لتشغيل آلياته العسكرية وترسانة صواريخه التي تعمل بالوقود السائل.
وفضلاً عن كل ذلك، تظلّ شبهة إمكانية استخدام الحزب لتلك السفينة في تهريب السلاح، قائمة.
وأخيراً وليس آخراً، فإن العملية برمتها تندرج في سياق مواجهة كبرى يخوضها الحزب ضد أميركا وأذنابها في لبنان والمنطقة. ولكن، وعلى الرغم من غواية كل تلك الذرائع، أكملت سفينة نصر الله الأولى رحلتها بسلاسة، بل وانطلقت سفن أخرى على مسارها فيما قد يتحوّل إلى خط ملاحي مستدام. لن تتضح الأهمية التاريخية للتحوّل الاستراتيجي الذي تجلى في وصول سفينة نصر الله 1 إلى ميناء بانياس بسلام في منتصف شهر أيلول الجاري، بدون أن نقلِّب بعضاً من صفحات تاريخ الملاحة في البحار التي شقّت عبابها خلال رحلتها الميمونة تلك.
فقد ظل المحيط الهندي والبحار والخلجان المتصلة به، مسرحاً مفتوحاً للتجارة والتفاعل الحضاري السلمي منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، بفضل اكتشاف سكان سواحله لمواقيت واتجاهات «الرياح الموسمية». وعبره انتشر الإسلام سلمياً، بلا فتوحات أو سيوف وخيول، ليعمَّ شرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا بتأثير بعثات وجاليات تجارية يمانية وحضرمية وعمانية استوطنتها واندمجت في نسيج مجتمعاتها. ولكن ما أن اكتشف البرتغاليون طريقهم إلى توابل الهند عبر رأس الرجاء الصالح أواخر القرن الخامس عشر، حتى حوّلوا مياهه وسواحله إلى جحيم لا يُطاق؛ حيث دأبوا على مهاجمة كل سفينة يصادفونها في طريقهم، فينهبونها ويقتلون بحارتها وركابها، ويقصفون ويحتلون مرافئه وجُزره الاستراتيجية. وفي إحدى الوقائع، استولى البرتغاليون على 17 سفينة تعود ملكيتها للسلطان المملوكي قانصوه الغوري في بحر العرب، فأبادوا طواقمها ومعها مئات من الحجاج كانوا على متن إحداها. وأدى ذلك إلى توقف شبه تام لتجارة الترانزيت المملوكية بين جنوب-شرق آسيا وأوروبا عبر مصر والشام، وتالياً، إلى دخول المماليك في صراع بحري ضارٍ مع البرتغال، بدعم مباشر من العثمانيين، وغير مباشر من جمهورية البندقية، دام لأكثر من عشر سنين، بلغ ذروته في معركة ديو (1509)، والتي انتهت بهزيمة مريرة للتحالف المملوكي – العثماني – الهندي. وأدى ذلك الصراع في نهاية المطاف إلى استنزاف وإفلاس دولة المماليك، الأمر الذي سهل سقوطها لاحقاً في يد العثمانيين.
بعد ذلك، في عهد السلطان سليمان القانوني وخلفه سليم الثاني، تابع العثمانيون الصراع مع البحرية البرتغالية لأكثر من سبعين سنة أخرى، وصلت حملاتهم البحرية وبعثاتهم العسكرية خلالها إلى حلفائهم في سواحل الهند (حصار ديو الأول 1531، والثاني 1538)، وإلى عُمان وهرمز وقطر والبحرين (1549 ــ 1552)، وشرق أفريقيا (1585 ــ 1589)، وسومطرة (أتشيه) ومضيق ملقا (1565 ــ 1571).. وكان البرتغاليون قد احتلوا جزيرة هرمز على مدخل الخليج الفارسي، في أوج عظمة الدولة الصفوية ومؤسسها الشاه اسماعيل (1505)، ومكثوا فيها حتى عام 1622، حين تمكن الشاه عباس الكبير من تحريرها بالتحالف مع الإنكليز، الذين سرعان ما حلوا، هم والهولنديون، محل البرتغاليين في الهيمنة على البحار الشرقية. وأدى ذلك إلى تحوّل معظم الرحلات التجارية بين آسيا وأوروبا إلى المسار الأطلسي، عبر رأس الرجاء الصالح، وهو ما ألحق أشد الأضرار باقتصاديات المشرق العثماني.

وهكذا تمكّنت حفنة من قراصنة أوروبا الأطلسية، وشركاتها الاستعمارية اللصوصية، مثل شركة الهند الشرقية البريطانية، ونظيرتها الهولندية، من إحكام قبضتها على المحيط الهندي بلا منازع. والمثير للمرارة والخِزي، أن مجموع أعداد سكان بريطانيا وهولندا والبرتغال في ذلك الحين كان أقل من 15 مليون نسمة، فيما ضمت الإمبراطوريات الآسيوية المتضررة مباشرة من هيمنتهم: الصين 200 مليون نسمة، مُغال الهند 150 مليون، العثمانية 25 مليون، الصفوية 5 ملايين، وشعوب أخرى أكثر من أن تحصى. وقد أدى ذلك إلى التآكل التدريجي لموارد وقوى تلك الإمبراطوريات، لتبلغ حضيض الإذلال في القرن التاسع عشر؛ من حروب الأفيون ضد الصين (1839 ــ 1860)، إلى التناهش الاستعماري للدولة العثمانية في سياق ما سُمي «المسألة الشرقية». أما البحر المتوسط، فكان قد وقع تحت الهيمنة الغربية قبل ذلك بوقت طويل؛ أقله مع بدء أفول الدولة الفاطمية وانطلاق الغزوات الصليبية نحو الشام. ولم تقطعها سوى فترات قصيرة من صعود البحرية العثمانية، لعل أطولها كان في القرن السادس عشر، وانتهت بهزيمتها أمام ما يسمى «الحلف المقدس» في معركة ليبانتو البحرية 1571.
عقب الحرب العالمية الثانية انتقلت الهيمنة البحرية العالمية إلى الولايات المتحدة بلا منازع. فهي، مثلاً، ورغم تعاظم قوة الصين، لا تزال تسيطر على كل مسالك التجارة البحرية للثانية، ليس في مضيق ملقا الاستراتيجي فحسب، بل وتتحرش بها في عقر دارها ــ بحر الصين الجنوبي. ويمكن القول إن حرب التحالف الأميركي على اليمن، جاءت في سياق السعي الأميركي لإحكام سيطرتها على المحيط الهندي، كأحد ركائز استراتيجيتها لاحتواء الصين. ولعل تَحسُّب الأخيرة لهذه المخاطر، هو ما دفعها إلى إحياء طريق الحرير الأوراسي البري القديم، كبديل جزئي واحتياطي لمسالك تجارتها البحرية المهددة بالعدوانية الأميركية. ومع قيام حلف «أوكوس» الأنغلو-ساكسوني الثلاثي أخيراً، وقبله حلف «كواد» الرباعي بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، يتجه الصراع على المحيطين الهندي والهادئ نحو المزيد من التصعيد.
إذن فنحن نتحدّث هنا عن أكثر من خمسة قرون من الهيمنة الغربية على حركة الملاحة في المياه المحيطة ببلادنا، كانت حافلة بالقرصنة ونهب الثروات وكبح تطور شعوبنا. وحتى بالأمس القريب، وتحديداً في تموز/ يوليو 2019، احتجزت السلطات البريطانية في مستعمرة جبل طارق الناقلة الإيرانية أدريان داريا 1، التي كانت تحمل مشتقات نفطية إلى سورية أثناء عبورها لذلك المضيق الدولي، بحجة أنها كانت «تنتهك العقوبات الأوروبية» على سورية (!) ولم تفرج عنها إلا بعد أن ردت إيران الصاع صاعين للإمبراطورية الشمطاء وأذلتها في مضيق هرمز. ومُذاك، لم يجرؤ أحد على التعرض للناقلات الإيرانية علناً، حتى عندما عبرت الأطلسي حاملة المشتقات النفطية لفنزويلا البوليفارية المحاصرة غربياً. وكان ذلك إنجازاً مهماً آخر على طريق اجتراح معادلة الردع التي ستؤمِّن مسار سفن نصر الله لاحقاً.
بيد أن التأسيس الحقيقي لذلك الإنجاز، جاء في خطاب السيد يوم عيد المقاومة والتحرير، 25 أيار 2010، حين قال: «في أي حرب مقبلة إذا حاصرتم ساحلنا وموانئنا فإن كل السفن المدنية والعسكرية التي تتجه إلى موانئ فلسطين على امتداد البحر المتوسط ستكون تحت مرمى صواريخ المقاومة الإسلامية». تلك المعادلة، وبالاستناد إلى سابقة ضرب الفرقاطة «الإسرائيلية» ساعر 5 خلال حرب تموز 2006، كانت كافية لإفهام العدو ما قصده السيد بإعلان الناقلة التي تحمل الوقود إلى لبنان «أرضاً لبنانية». وفضلاً عن ذلك، تدرك «إسرائيل» أن بإمكان الجناح الجنوبي – الغربي للمحور، الممتد من غزة إلى صنعاء، إغلاق البحر الأحمر أيضاً أمام ملاحتها. وهكذا، وبفضل هذه المعادلة العبقرية، وتآزر قوى المحور، أصبح بإمكان حركة مقاومة في بلد صغير محاصر تمزقه النزاعات مثل لبنان، أن يحمي خطوط إمداده ومصالحه الحيوية في أعالي بحارٍ بعيدة؛ الأمر الذي كانت تعجز عنه، كما أسلفنا، كبرى الإمبراطوريات الآسيوية في القرون الأولى من العصر الحديث. وفيما يتشاغل بارونات كارتل المحروقات، وكهنة السيادية الكيانية الاستنسابية بسفاسف الحدود والجمارك، وجينات المازوت ونسبه، تعمل قوى المقاومة استراتيجياً على نخر وتجويف هياكل الهيمنة الغربية، واستعادة حقوق الأمة في بحارها ومواردها، والإطاحة بكل الحدود ونقاط الجمارك التي غرسها المستعمر في جسدها.
وكما فعل الأسرى الأبطال الستة في معتقل «جلبوع»، حين حفروا بأظافرهم نفقاً يقرَّبهم من لحظة استعادة حريتهم، وإن لم يظفروا بها تماماً، فإن مأثرة رحلة سفينة نصر الله 1، لا تقاس بالمسافة التي قطعتها بسلام وشموخ من بندر عباس إلى بانياس، بل باقتحامها لأفق زمن جديد يطوي أكثر من خمسة قرون من الحصار والإذلال.

الاخبار