إضاءات فكرية: فلسطين للفلسطينيين(2)

الدكتور علي عبدالله فضل الله | كاتب وباحث لبناني

إنّ الشائع في الفكر السياسيّ، أنّ عناصر الدولة ثلاثة: الأرض، والشعب، والسلطة أو السيادة. في العام 1917م، انتهت السيطرة العثمانيّة على فلسطين، ليحكمها البريطانيّون قهراً تحت عنوان مخترَع وهو “الانتداب”، حتّى عام 1948م. كانت صيغة الانتداب تعبيراً “ملطّفاً” عن الاحتلال، ابتكرته حكومات الغرب تحت راية عصبة الأمم. وكانت الدولة القائمة بالانتداب ملزمة بشروط تُجاه الشعب الذي تحكمه، وهي شروط لم يلتزم بها البريطانيّون.

•الخيانة البريطانيّة للتعهّدات
قبل نحو قرن، انقلبت بريطانيا على اتّفاقها مع الشريف حسين ووعودها بمنح العرب استقلالهم متى قاموا بالثورة على الحكم العثمانيّ. كما ارتكبت مخالفة فاضحة بحقّ العرب الفلسطينيّين، عندما صرّح وزير خارجيّتها “آرثر بلفور” بوعد المملكة المتّحدة لليهود بإقامة وطن قوميّ لهم في فلسطين.
تناقض وعد بلفور مع التزامات بريطانيا تُجاه شعب فلسطين بموجب صكّ الانتداب، ولم تعتذر الدولة الوصيّة على خطئها هذا، وما تحمّلت المسؤوليّة عن ذلك الانقلاب.
كان على البريطانيّين تفعيل حقّ تقرير المصير للفلسطينيّين، ومساعدتهم على بناء دولتهم المتنوّعة من حيث مكوّناتها الدينيّة والعرقيّة. من هنا، يمكن اعتبار الشرعيّة الأمميّة في الاحتلال البريطانيّ لفلسطين ساقطة مع عدم التزام الدولة الوصيّة بموجباتها وفق صكّ الانتداب، وهذا يتطلّب بحثاً في مكان آخر.
أكثر من ذلك، تورّط البريطانيّون في تعميق الوجود اليهوديّ وتكثيفه في فلسطين، وقسّموا سكّانها إلى مجتمعات يهوديّة وغير يهوديّة. كما دعموا بقوّة هجرات اليهود إلى فلسطين، وتمكينهم من شراء الأراضي أو الاستيلاء عليها، وصولاً إلى سيطرة الميليشيات اليهوديّة على ثلاثة أرباع فلسطين بُعيد حرب 1948م.
•أسطورة “أرض بلا شعب”
من أكثر الشعارات التي رفعتها الحركة الصهيونيّة إثارةً للدهشة ومنافاةً للواقع, شعار: “شعب بلا أرض (أي اليهود)، لأرض بلا شعب (أي فلسطين)”. إذا كانت فلسطين خالية من الناس، فكيف انتدبت عصبة الأمم بريطانيا العظمى عليها؟ هذا عدا عن تناقض هذا الشعار، بشكل صارخ، مع الحال على الأرض. لكن مثل هذه المقولات شكّلت مادّة مفيدة لجماعات الضغط في دول الغرب، خصوصاً في أزمنة تأسيس الكيان المحتلّ. ومع مرور الوقت، ظهر تهافت هذا الكلام، ووصلنا إلى مرحلة استشعار “الإسرائيليّ” أنّ عدد الفلسطينيّين، والخصوبة العالية لديهم، باتت تشكّل تهديداً داهماً لفرص بقائه على المدى المتوسّط.
•غزّة والضفّة الغربيّة
على الرغم من الادّعاءات بالحقّ التاريخيّ لليهود في فلسطين كلّها، فإنّ عمليات التهجير القسريّة لم تستطع تجاوز واقع منطقتين داخل فلسطين، وهما قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، وهما جزء لا يتجزّأ من فلسطين. ومنذ عام 1948م، خضعت الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة للإدارة الأردنيّة، بينما أدار المصريّون قطاع غزّة. وبعد حرب 1967م، تمدّد الاحتلال “الإسرائيليّ” إلى هاتَين المنطقتَين، وأخضعهما للأوامر العسكريّة لجيشه، بينما أحال القدس الشرقيّة إلى قانونه المحلّيّ، بعد ضمّها أوّل الثمانينيّات.
لم يستطع الاحتلال الاستمرار في احتلال غزّة، ولا يمكنه اعتبار هيمنته على الضفّة الغربيّة، على الرغم من نتائج اتّفاقات أوسلو، بمثابة “حقّ” له في أراضيها، على الأقلّ أمام العالم. يُضاف إلى ذلك قضيّة محوريّة وأساسيّة، وهي قضيّة مَن يُطلَق عليهم “عرب 1948م”، أو “فلسطينيّو الداخل”، وعددهم تجاوز المليونين، وهم يشكّلون هاجساً أمنيّاً وديموغرافيّاً كبيراً للكيان الاحتلاليّ.
الذي يعنينا في هذه المقاربة هو التدليل على تهافت، بل وسقوط، ادّعاءات الاحتلال أنّ فلسطين خالية وأرضها لا مالك لها، وأنّه هو المالك لها، بحسب ادّعاءات مردودة.
•حقّ تقرير المصير
حقّ تقرير المصير هو من الحقوق الأساسيّة في القانون الدوليّ، وقد حصلت بشأنه نقاشات مستفيضة بين اتّهامه بتفتيت الدول، وبين ضرورته، ولا سيّما في حالات الدول الرازحة تحت الاحتلال، أو الشعوب الرازحة تحت الظلم والتمييز.
في المسألة الفلسطينيّة، فإنّ حقّ تقرير المصير كان مطروحاً منذ صكّ الانتداب الصادر عن عصبة الأمم، إلى القرار 3246 عام 1974م الصادر عن الأمم المتّحدة، وغيره. وهو حقّ غير قابل للتصرّف، ولا يمكن للقوّة القائمة بالاحتلال إسقاطه. وباتت الأمم المتّحدة تداوم على التذكير بحقوق “الشعب” الفلسطينيّ، وبات مسلّماً، على المستوى العالميّ، بحقوق فلسطينيّة على الضفّة الغربيّة وغزّة، بالحدّ الأدنى، وهو ما يضرب، ولو جزئيّاً، الادّعاءات الفارغة التي رافقت تأسيس الكيان.
•حقّ العودة
تنصّ الفقرة 2 من المادّة 13 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان على أنّه: “لكلِّ فرد حقٌّ في مغادرة أيِّ بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده”. وبعدها صدر القرار 194 (1948م) عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، ليشير إلى حقّ عودة الفلسطينيّين إلى أراضيهم، بل والتعويض عليهم بسبب اضطرارهم إلى ترك أرضهم. وقد تمّ التأكيد على هذا الحقّ أكثر من 135 مرّة في القرارات الأمميّة.
ماذا يعني هذا الكلام؟ هذا يعني اعترافاً دوليّاً بوجود شعب فلسطينيّ طُرد من أرضه، والبحث عن تسويات (منذ فكرة تقسيم فلسطين إلى ما يسمّى بمفاوضات السلام) هي نتاج لتوازنات القوى على الأرض، ودور الدول الكبرى في الدفاع عن وجود هذا الكيان.
وعليه، لو أزحنا جانباً دور القوى القهريّة للدول النافذة وسياساتها المصلحيّة في زرع وجود الكيان “الإسرائيليّ” ودعمه في غرب آسيا، لكان الكلام في شرعيّة وجوده ومشروعيّته مختلفاً تماماً. إنّما ينبغي البحث بعمق في كيفيّة التصرّف بعد تحرير فلسطين مع أجيال المستوطنين، الذين ولدوا وترعرعوا في فلسطين، من الناحية الفعليّة، وهذا بحث آخر.
•إجراءات الاستيلاء على الأراضي والمحاكم الصوريّة
لم يستطع الكيان تثبيت سيطرته على فلسطين التاريخيّة طوال سبعة عقود؛ لذلك، داوم على استخدام جميع الأدوات الموجودة في حوزته من أجل الاستيلاء على مزيد من الأراضي، ومن أهمّها الأدوات القانونيّة. ينبغي التذكير دائماً أنّ القانون هو سلاح بمقدار ما هو قواعد ناظمة لسلوك الأفراد في المجتمع، وهذا ما يحرص عليه العدوّ “الإسرائيليّ” على أكثر من مستوى.
عندما ضمّ الاحتلال “الإسرائيليّ” القدس والجولان إلى “السيادة الإسرائيليّة”، ارتكب مخالفة صريحة لقواعد القانون الدوليّ التي تمنع قوّة الاحتلال من ضمّ أيّ أرض محتلّة إلى سيادتها. تتمّ هذه الإجراءات بشكلٍ قانونيّ من الناحية الظاهريّة، لكنّها تفتقد الشرعيّة  (Legality)  والمشروعيّة  (Legitimacy)  على مستوى السكّان الأصليّين والحقيقيّين للأرض، وحتّى على المستوى الدوليّ في بعض الأحيان.
•أمثلة على التجاوزات
وثمّة أمثلة كثيرة على التجاوزات التي يرتكبها “الإسرائيليّ” للسيطرة على المزيد من الأراضي المحتلّة، وتغليفها بأطر قانونيّة شكليّة. فمنذ 1967م، يخضع المستوطنون في المناطق التي يحتلّونها، مثلاً، للقانون المحليّ “الإسرائيليّ”، وليس لقانون الاحتلال، وفي ذلك دلالة على اعتبار هذه المناطق في حكم غير المحتلّة. وفي العام 1976م، صادر الاحتلال أراضي العرب، خصوصاً في الجليل، وأدّى ذلك إلى إضراب “عرب 1948” في أوّل صدام بينهم وبين الاحتلال بهذا الشكل.
وقد أصدر كنيست الاحتلال نحو 12 قانوناً للاستيلاء على أراضي الفلسطينيّين(1)، ولا يزال العمل مستمرّاً على إصدار المزيد. يُضاف إلى ذلك، سنّ قوانين تمنع أصحاب الممتلكات العرب من العودة إلى ممتلكاتهم، أو قوانين تمنع نقل الملكيّات المصادرة إلى غير اليهود. ومن القوانين الحسّاسة التي أقرّها الاحتلال، قانون العودة (1950)، وهو قانون غريب يسمح لأيّ يهوديّ في العالم بأن يحصل على الجنسيّة بمجرّد أن يصل إلى “إسرائيل”.
كما يلجأ الاحتلال إلى آليّات محاكمات صوريّة تفتقد لمعايير العدالة والتقاضي السليم للسيطرة على المزيد من الأراضي الفلسطينيّة، ومن الأمثلة البارزة ما جرى في حيّ الشيخ جرّاح في القدس مؤخّراً، حيث قضت محكمة “إسرائيليّة” بأن تُخلي عائلات فلسطينيّة بيوتها لصالح لجنة اليهود “السفارديم”، على الرغم من ورود معطيات جديدة تغيّر مسار الدعوى.
•الأرض لأصحابها
في الختام، فلسطين لأهلها، وحقّ الملكيّة هو من أقوى الحقوق، ولا يمكن للاحتلال أن يمتلك أرضاً ليست له مهما طال الزمان. لكن، في المقابل، على أصحاب الأرض بذل المزيد من الجهود للفوز في المعارك الحقوقيّة الجارية على أكثر من صعيد، والاعتماد على خبراء قانونيين كفوئين في تفاصيل أعمال التحرير كلّها.

1.من أخطر هذه القوانين قانون شراء الأراضي (1953)، والثاني قانون أملاك الغائبين (1950).

 

نقلاً عن مجلة بقية الله

Exit mobile version