الهمجية الممنهجة
الدكتور حسن احمد حسن | باحث سوري مختص بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية
التحليل السياسي وتقدير الموقف الاستراتيجي ليسا ترفاً فكرياً، بل مهارة ثقافية وفكرية تحتاج إلى صقل وإغناء بشكل علمي ومدروس، وبغير ذلك تصبح “علوم المستقبل” كفرع علمي مستقل، وكل ما يرتبط به من رؤى تحليلية وقراءات استشرافية أقرب ما يكون إلى التنجيم، أو قراءة الطالع والتبصير في الفنجان، والخطر الأكبر يكمن في الخلط بين الأمرين…
الهمجية الممنهجة // صحيفة الثورة 12/8/2014م.
في السنوات الأولى للحرب على وطني سورية كنت أنشر في صحيفة الثورة تحليلا سياسيا أسبوعيا يتناول تطور الأحداث وتداعياتها المحتملة، وقد ذكرني الفيسبوك بهذا التحليل السياسي الأسبوعي الذي كتبته قبل سبع سنوات، وهو بعنوان: الهمجية الممنهجة، ويمكن لكل متابع أن يحكم بعد مرور سبع سنوات على دقة المضمون، وإلى أي مدى كانت القراءة صحيحة أم خاطئة..
صحيفة الثورة ـ شؤون سياسية //الثلاثاء 12- 8 – 2014م.
كثيرةٌ هي التساؤلات المشروعة التي تفرزها تطورات الأحداث وتداعياتها، وقد يكون لكل سؤال أكثر من جواب يتضمن بعض الجوانب الموضوعية وبعض الرغبات الذاتية التي يتم تسويقها كجزء من الجواب، ولذلك تبقى ضبابية ومفتقرة إلى الحجة والمنطق القائم على المحاكمة الموضوعية انطلاقاً من الواقع، ولعل تضمين الأجوبة رغبات ذاتية صرفة هو ما جعل الجواب على بعض الأسئلة البدهية إشكالياً، ومن المضحك المبكي أن يقرأ المرء دراسات وتحليلات سياسية وعسكرية تسقط بعلم أو من دون علم بهاوية تحويل المسلمات إلى موضوع خلافي يحتمل وجهات النظر المتعددة والمتناقضة، فهل يمكن لمتابع منصف أن يشكك في دعم واشنطن اللا محدود لحكام تل أبيب؟ و هل يغيب عن ذهن عاقل أن الكيان الصهيوني لا يعبأ بالقرارات الصادرة عن المنظمة الدولية لأنه على يقين أن السيف الدبلوماسي الأمريكي والأطلسي قد أخذا على عاتقهما منع صدور قرارات تدين الجرائم الصهيونية المتكررة، وفي حال صدور أي قرار ـ لسبب أو لآخر ـ فأولئك جاهزون لتفريغه من مضمونه مرة بالتسويف وأخرى بتقديم تفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان؟ وكيف يمكن لمن يتابع الانبطاح الخليجي عامة والسعودي ـ القطري خاصة والتورط حتى نقي العظام بالتآمر على قضايا الأمة أن يدعي أن تلك الأطراف مهتمة بقضايا الأمة أو بالدفاع عن الإنسان العربي في هذه الدولة أو تلك؟ وقبل هذا وذاك هل يعقل أن كل هذا الإرهاب غير المسبوق قد تكون من فراغ، وأنه يقوم بكل هذه الجرائم والمجازر من دون دعم سياسي ومادي ودبلوماسي وعسكري من قبل أطراف إقليمية ودولية غدت معروفة لكل من يجيد قراءة ألف باء السياسة؟
كل ما ذكر مؤلم ومزعج ومفضوح لكن الأكثر إيلاماً وغرابة أن تقدم أطراف التآمر والعدوان بالاعتراف ببعض ما تم التخطيط له والعمل على إنجازه وتحويله من إطار الخطة النظرية إلى الواقع القائم، في حين يستمر بعض المحسوبين على العروبة والإسلام بدفن الرؤوس في الرمال والمكابرة والدجل وتقديم تفسيرات كنفشارية لا تقنع من به ذرة من عقل، فهاهي وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة تعترف عياناً بياناً بأن/ السي. آي. أي/ هي من صنعت القاعدة بالتنسيق مع المخابرات السعودية لإغراق السوفييت في أفغانستان أكثر فأكثر وأن استثمار أولئك بعد خروج الاتحاد السوفييتي من أفغانستان ما يزال مستمراً، وهاهي المسؤولة الأمريكية ذاتها في مذكراتها التي نشرتها مؤخراً بعنوان: «خيارات صعبة» تؤكد بأن المخابرات الأمريكية قد خططت بشكل محكم وعملت بكل ما تستطيع لإيجاد الدولة الإسلامية، وإنه تم الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي وعدد من الدول الأخرى لضمان الاعتراف بالدولة الإسلامية» داعش» فور الإعلان عنها في بداية الشهر السابع من العام الماضي لكن تطور الأحداث نسف كل ما تم التخطيط له، في حين يكابر أغراب الردة ويستمرؤون الحديث عن أن «داعش» صنيعة «النظام» في سورية ـ فكيف لإنسان سوي أن يتصور ذلك في ظل ما يجري ميدانياً على أرض الواقع؟
هنا لابد من الإشارة إلى الوثيقة التي نشرتها صحيفة / الغارديان البريطانية/ في خضم عمليات غزو العراق واحتلاله عام/ 2003م./ والتي أكدت وجود مخطط أمريكي – بريطاني مشترك لإسقاط سورية وغزوها منذ عام 1957 بمساعدة الإخوان المسلمين ، والسبب الرئيس الذي دفع إلى ذلك هو نمو مشاعر العداء للغرب في سورية وتزايد ميلها نحو الاتحاد السوفييتي بدرجة أقلقت الأمريكيين والبريطانيين، ولتلافي ذلك تم تحديد الهدف بالإطاحة بالحكومة السورية ذات التوجه البعثي العروبي والميول السوفييتية، وتنصيب حكومة موالية للغرب ولحلف بغداد تتسم بالاستبداد وتمارس القمع ضد الشعب السوري، واللافت للانتباه في الوثيقة المذكورة هو آليات التنفيذ التي تم تحديدها وهي متطابقة مع ما تم اعتماده على أرض الواقع بعد أكثر من خمسين عاماً، ومنها: القيام بتمويل لجنة أطلق عليها اسم لجنة سورية الحرة، وتسليح ميليشيات لفصائل سياسية داخل سورية، وممارسة أعمال مخابراتية لإشعال تمرد داخلي، وهذا يفسر سبب تسمية عصابات القتل المأجورة « الجيش الحر» الذي لا يقل إرهابه عما ارتكبته وما تزال ترتكبه «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية» و»داعش» التي انفلتت همجيتها من كل عقال، لكنه ليس انفلات الصدفة، بل هو تقيد حرفي بمضامين ما توصلت إليه عبقرية التآمر وتفتيت المنطقة عبر تشظي دولها القائمة بفعل الهمجية الممنهجة التي تم اعتمادها، وإلا كيف يمكن فهم وصول التمدد الداعشي إلى لبنان واجتياحه مساحات واسعة من العراق بوتائر وتسارعات تفوق مثيلتها لدى المارينز الأمريكي عام 2003م.
باختصار شديد يمكن القول: إن الجرائم والمجازر والإرهاب الذي تمارسه العصابات الإرهابية المسلحة في دول المنطقة ليس عفوياً قط، بل خطوات مدروسة بعناية من قبل المخطط والمشرف الصهيو ـ أمريكي على المشروع التفتيتي لتعميم حالة من الرعب والهلع والذعر تسبق وصول تلك العصابات إلى هذه المدينة أو تلك بهدف تحقيق ما يمكن تسميته بالانتصار بالرعب، ولا أدل على ذلك من قيام أولئك القتلة بتصوير جرائمهم وما يقومون به من تمثيل بأجساد الشهداء والموتى، وهذا لا يمكن فهمه إلا عندما يتم الانطلاق من منهجة تلك الهمجية التي يريدون عبرها العودة بالمنطقة وشعوبها إلى العصور الحجرية، والأمر ذاته ينطبق على ما ترتكبه حكومة نتنياهو من مجازر يندى لها جبين الإنسانية بحق أبناء غزة الصامدة المقاومة، والغريب أننا لم نسمع كلمة واحدة من أصحاب العروش والكروش الذين أصموا الآذان وهم يتحدثون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، مع العرض أن غالبيتهم لا يجيد لفظ كلمة الديمقراطية بشكل صحيح، فهل قتل آلاف الأطفال والنساء والشيوخ والعجز في غزة أمر ممنهج أم أنه محض الصدفة؟ وما هو الفرق بين تحويل أجساد أولئك الأبرياء في غزة إلى أشلاء بصاروخ صهيوني يطلق من طائرة أو من غيرها وبين تحويل أجساد الأبرياء أيضاً إلى أشلاء بسيارة مفخخة أو عبوة ناسفة أو قذيفة هاون عشوائية تستهدف أولئك في هذه المدينة أو تلك في كل من سورية والعراق ولبنان؟ وما الذي كانت واشنطن وزبانيتها سيفعلونه لو قامت أية دولة في العالم بقصف المدنيين العزل وتدمير المدارس التابعة للمنظمة الدولية فوق رؤوس من يلتجؤون إليها وتحويلها إلى مقابر جماعية بدل أن تكون ملاذاً آمناً للهاربين من جحيم الإرهاب الصهيوني يقيناً منهم أن تلك المدارس تحمل بعض هيبة المنظمة الدولية التي ـ للأسف ـ تحولت إلى ضحية من ضحايا الهمجية الممنهجة التي يقودها أصحاب الرؤوس الحامية في واشنطن وتل أبيب، ويتسابق حملة الفكر المتصحر لتقديم وقودها ممن تم غسل أدمغتهم وتحويلهم إلى مجرد أدوات تقاد بالريموت كونترول لتشويه قيم الإسلام السمح والعروبة النابضة بكل معالم الحضارة الإنسانية.