النيوليبرالية ونهاية القانون الدولي (الحرب على سورية نموذجاً)
الدكتور ذو الفقار عبود | كاتب وباحث عربي
من الوهم تصور إمكانية تطبيق واحترام القانون الدولي لتتساوى أمامه جميع الدول، في ظل اختلال خطير لموازين القوى يحكم النظام العالمي، ذلك أن معايير القوة والثراء هي ما يحكم علاقات الولايات المتحدة الأميركية بالأمم المتحدة، لدرجة تدفع إلى تفسير السلوك الأميركي مع المنظمة الدولية على أنه نابع من إحساس واشنطن بأن هذه المنظمة لا تقع فقط فوق الأراضي الأميركية وإنما ينبغي أن تكون جزءاً من وزارة الخارجية الأميركية حيث تغطي وحدها ربع ميزانيتها سنوياً.
وفي ظل استمرار هذا الاختلال في موازين القوى، فإن الولايات المتحدة الأميركية تحتكر توصيف الإرهاب بأنه كل ما هو موجه ضد مصالحها فقط، وبالتالي ترفض أي تعريف دولي بالإرهاب (وهذا ما تطالب فيه سورية منذ عقود)، خوفاً من أن يتصادم هذا التعريف مع مفاهيمها وتفسيراتها الخاصة التي فرضتها على العالم.
من الخطير جداً أن يكون العالم محكوماً بإرادة سياسية واحدة هي الإرادة الأميركية، وأن يصبح العالم بعد غياب التوازن الاستراتيجي خاضعاً للتفسيرات الأميركية والتي تحدد ما هو المسموح وما هو المحظور، بحيث تصنف المقاومة كإرهاب وتسمي الإرهاب دفاعاً مشروعا عن النفس وتملك الحق في أن تجيز أو تحظر امتلاك هذه الدولة أو تلك لأسلحة الدمار الشامل.
منذ أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، أعلنت الإدارة الأميركية الحرب على الإرهاب بزعم أنه ضرب في عمق الولايات المتحدة، ولم تقتصر الحرب على الإرهاب في ضرب قواعده، وإنما امتد لاستخدام الحق في الضربات الاستباقية في كل من تشك بهم الولايات المتحدة الأميركية أو يهددون أمنها القومي، وهذه كانت سابقة قانونية ودولية.
لقد سادت عقيدة اللجوء إلى القوة العسكرية الساحقة كعقيدة وحيدة في أجندة السياسة الخارجية الأميركية سواء أكان ذلك متفقاً مع القانون الدولي أم مخالفا له، وسواء جرى ذلك بغطاء من الشرعية الدولية أم دونها، وهذا ما يشكل خرقاً وأزمة تساهم في تعطيل دور القانون الدولي في حل الأزمات الدولية.
كثير من جرائم الولايات المتحدة تمت باسم القانون الدولي والشرعية الدولية قبل وبعد غياب التوازن الدولي، حتى أصبح مذهب الواقعية السياسية الأميركية يرى في خرق القانون الدولي الحل الوحيد لتحقيق المصالح الأميركية.
وإلى جانب فشل القانون الدولي الناظم لاستخدام القوة في العلاقات الدولية، تبرز عدة انتقادات موجهة إلى مدى فعالية هذا القانون في تحريم استخدام القوة، ذلك أن هذا الاستخدام أصبح لا يكلف الولايات المتحدة ثمناً تدفعه نتيجة اتباعها للسلوك العدواني في معالجة الأزمات، لا بل إنها تسعى للظهور بمظهر من يحترم هذا القانون ويمتثل لأحكامه فليس من الصعب على السياسين الأميركيين تبرير إلغاء وتجاوز القانون الدولي، وخصوصاً إذا كان هذا القانون يشكل عائقاً أمام مصالحهم، والتي تحدد كل التوجهات في العلاقات الدولية، وكل ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط من حروب لهو خير دليل على عدم جدوى القانون الدولي في ضبط المشهد الدولي لأن فعالية أو دم فعالية هذا القانون هي رهينة مصالح الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها.
إن سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم، تعمل على تسريع عملية التفكيك التام للنظام القانوني الدولي الذي نشأ على أنقاض الحرب العالمية الثانية، حيث يكشف أنصار نظام الأحادية القطبية القسري اليوم عن سعيهم الحقيقي إلى تحطيم قواعد القانون الدولي، وعلى الرغم من أن هذه القواعد لم تكن مثالية أبداً، إلا أنها كانت تتمتع، على الأقل، بمزايا عدة أهمها توفير الاستقرار النسبي والذي بات مهدداً الآن بالتلاشي منذ نهاية حقبة الحرب الباردة وسقوط جدار برلين.
من جانب آخر، فإن العصر الذهبي المفترض لنظرية فرانسيس فوكوياما في نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية، قد كشف عن نفسه على أنه مجرد سرقة واسعة النطاق تؤدي إلى إفقار الملايين من الناس الذين شكلوا الطبقة الوسطى سابقاً.
لقد شكل تفكك الاتحاد السوفييتي أهم الأحداث المأساوية في القرن العشرين، حيث غاب توازن السلطة القائم بين الدول القومية القوية فقط الذي كان يضمن احترام القانون الدولي، فالدول تتفاعل في إطار ثنائي أو متعدد الأطراف، وهذا يعني ضمناً أن على الدول الأطراف التفاوض بحسن نية من أجل التوصل إلى توافق في الآراء بشأن التفسير الذي يجب تقديمه لكل القضايا الخلافية ومنها قضية الإرهاب وقضية المقاومة المشروعة.
هناك قواعد ومبادئ غير معلنة تعتبر عميقة ومتأصلة في القانون الدولي العرفي، وقد خرجت من صلبه أغلب الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، إضافة إلى آراء الفقهاء القانونية والتي تشكل القاطرة الثانية للقانون الدولي الحالي.
بالنسبة للقانون الدولي العرفي، فهو يتكون من عنصرين، العنصر الأول يتمثل في وجود ممارسة مشتركة على نطاق واسع للقانون الدولي من قبل مجتمع الدول القومية (أو الاعتياد والتكرار)، أما العنصر الثاني فهو التطبيق الشامل والمشترك وبشكل عام لمبادئ القانون الدولي من قبل الدول القومية بحيث إن القواعد المتفق عليها تخضع للتفسير القانوني.
من أجل تطبيق الأحكام القانونية لأي اتفاقية أو معاهدة، من الضروري أن ينظر إليها على أنها جزء لا يتجزأ من هيكل القانون الدولي، فهذا الأخير لا ينظر إليه على أن تطبيق قواعده تقتصر على الدول الأطراف المتعاقدة بل تتعداها إلى كل الدول القومية في المجتمع الدولي بما فيهم تلك الدول التي لم تصدق على هذه القواعد والأحكام.
استطراداً لما سبق، ينظر إلى الآراء القانونية الفقهية على أنها أكثر أهمية وخصوصاً في الحالات التي لا يكون فيها هناك قاعدة قانونية جاهزة للتطبيق، فإذا لم يكن هناك قانون وضعي أو اجتهاد لتسليط الضوء على سلوك الدول، يمكن القول بأن تكييف القانون للسلوك غير واضح بعد.
فيما يخص الفكرة السابقة، إن عدم وضوح هذه الحالة قد يولد انحرافاً لدى الدول في تطبيق قواعد القانون لأنه سيغريها كي تكون حرة في تفسير القواعد القانونية التي لا تزال تقارب حالات ذات فراغ قانوني، والسابقة المهمة، ذات السمعة السيئة، على هذا الانحراف هو ما يعرف بمبدأ “مواجهة العدو”، الذي يعد ذريعة دائمة للولايات المتحدة في فرض إجراءاتها العدوانية وحيدة الجانب على الدول والشعوب، والتي لن يكون آخرها ما يسمى قانون قيصر الذي هو وجه من وجوه الإرهاب الاقتصادي بحق الشعب السوري.
وفي عودة لهجمات الحادي عشر من أيلول 2001، حيث ابتكرت الولايات المتحدة، من جانب واحد، عقيدة تسمح بتجاهل مبادئ القانون الإنساني المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف والقانون الدولي العرفي بحيث شرعت في تنفيذ ما سمته “الحرب على الإرهاب”.
فبعد أن شعرت بحرية التصرف كقوة مهيمنة في ذلك الوقت، قدمت حكومة الولايات المتحدة فكرة مفادها بأن الحماية الممنوحة للمقاتلين العسكريين عادة لا يمكن تطبيقها على الأفراد الذين يتصرفون خارج نطاق الجهات الفاعلة غير الحكومية، التي لا تحمل شارات مميزة والتي تبنت قواعد غير معترف بها للاشتباك العسكري التقليدي.
من هنا، أدى تبني عقيدة “مواجهة العدو” إلى حدوث سلسلة من الانتهاكات لقواعد القانون الدولي الآمرة التي تشمل الحرمان من الحقوق المرتبطة بمحاكمة عادلة والاتصال بمحامٍ في الوقت الذي يكون فيه قادراً على الوصول إلى أدلة تجريمية.
وما زاد الأمر خطورة، هو طريقة أخذ الاعترافات عبر ممارسة التعذيب، كما تم التوصل إلى مستوى أكبر من عدم الشرعية عندما اختارت واشنطن تنفيذ برنامج الترحيل السري الاستثنائي، وقد أثارت هذه العمليات، التي نفذتها أجهزة المخابرات الأميركية، انتقادات كثيرة من قبل علماء القانون، والتي أدت إلى مطالبة المحاكم الأجنبية باعتقال وتسليم المرتكبين بحيث يمكن توجيه تهم إليهم على أراضي الدول التي تعتبر بعضها حلفاء الولايات المتحدة الأميركية.
من أكثر الآثار الجانبية المؤسفة لمثل هذا التصرف الخارج على القانون هو أن التنفيذ يتم من قِبل دولة هي الأقوى في العالم، وعضو مؤسس للأمم المتحدة يشغل مقعداً دائماً في مجلس الأمن، ما يؤسس لسابقة تم اعتمادها من دول أخرى، حيث اجتاحت تركيا الشمال السوري واحتلت أجزاء واسعة منه، وهذا ما يقوض النظام العالمي للأمم المتحدة ككل، فبمجرد البدء بتطبيق هذه القواعد غير القانونية، سيصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، العودة إلى الوضع السابق.
وفي هذا السياق، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل الانسحاب الأحادي للولايات المتحدة من معاهدات الحد من انتشار الأسلحة النووية، أي معاهدتي الأسلحة النووية متوسطة المدى و معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية.
بالمثل، فإن الضغط الذي تمارسه واشنطن لإجبار طهران على إعادة التفاوض على “خطة العمل الشاملة المشتركة” – JCPOA (أو ما يعرف بـ “الإتفاق النووي الإيراني”)، وخصوصاً أن إيران قد امتثلت لأحكام المعاهدة باعتراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يؤكد على مستوى الوقاحة المطلقة التي استحوذت على سياسة واشنطن الخارجية.
أخيراً، هذه السابقة من الفوضى المستمرة والتي شجعت بعض الشرائح العميقة في الولايات المتحدة على فرض سردية مبنية على معلومات استخباراتية مزيفة من أجل تبرير التدخل العسكري في العراق وليبيا وسورية، جاء بالتواطؤ مع الشركات المالكة لوسائل الإعلام.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه مع تركيز وسائل الإعلام الإخبارية في يد قلة قليلة من الأشخاص المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بشركات صناعة الأسلحة، يسهل إلى حد كبير خداع الرأي العام للقبول اختيارياً بفكرة شن الحروب على مدار العقدين الأخيرين.
وسائل الإعلام نفسها التي لم تهتم باحتجاجات أكثر من 15 مليون شخص احتجوا على غزو للعراق 2003، واحتجاحات ملايين السوريين ضد الاحتلال الأميركي والتركي لأجزاء من الوطن السوري، واحتجاجات مئات آلاف السوريين في الحسكة والقامشلي ضد سياسات تنظيم قسد المرتبط بالاحتلال الأميركي.
إن نتيجة كل هذا التسلسل من الأحداث هو أنه، وبعد 20 عاماً من أحداث 11 أيلول (2001) يثبت هشاشة الأمن الدولي على غرار ما حدث قبل وقوع الحرب العالمية الثانية،
فالأحدات الدولية المتتالية وما ينتج عنها من كثرة اللجوء إلى القوة تؤكد عدم فعالية القانون الدولي في ضبط سلوك الدول ومنعها من استخدام القوة أوالتلويح بها دون مبرر، وغياب ضوابط فعالة تحدد هذا الاستعمال، ولكي يتم احترام هذا القانون يجب خضوع الدول لمقتضياته مع الالتزام بمضامينه ذلك أن عدم الامتثال لأحكام القانون الدولي سوف يصبح أمراً مألوفاً وتجري عليه العادة دولياً لأن المجتمع الدولي اعتاد على هذه الخروقات.