حسن عليق | كاتب واعلامي لبناني
«بكرا بيتعوّدوا»، العبارة المنسوبة إلى رياض سلامة تعليقاً على تعامل اللبنانيين مع انهيار قيمة الليرة، باتت دستور أكثرية قوى السلطة. منذ سنتين، عاش لبنان ثلاث صدمات اقتصادية كبرى، يجري التعامل معها كما لو أنها لم تكن: صدمة إفلاس القطاع المصرفي المكابر على إعلان إفلاسه وانهيار الليرة، وصدمة رفع الدعم، وصدمة انقطاع الطاقة الكهربائية والمحروقات معاً.
كل واحدة من هذه الصدمات كفيلة، وحدها، بهدم اقتصاد ولو كان قوياً، وبتدمير قدرات السكان المعيشية. الانهيار لا يُمكن أن يستمر، ولو في أفشل دول العالم، من دون خطة إنقاذ، لوقف الانهيار وعكس المسار نحو العودة إلى «الحياة الطبيعية». رفع الدعم لا يمكن أن يتم، ولو في أكثر الرأسماليات توحشاً، من دون شبكة أمان اجتماعي. حتى البنك وصندوق النقد الدوليّان، وسواهما من مؤسسات نظام سيادة رأس المال في العالم، يوصيان بأن يكون قرار إلغاء الدعم عن السلع الأساسية متزامناً مع برامج حماية اجتماعية، للطبقات الأكثر ضعفاً. وأكثر ما ينبغي الامتناع عنه، هو رفع الدعم فجأة عن الغذاء والدواء والاستشفاء والمحروقات والطاقة. صدمات متتالية أصابت سكان لبنان، مترافقة مع جائحة كورونا العالمية، وانفجار المرفأ، وأزمة سياسية مستمرة منذ ما قبل انسحاب الجيش السوري أنتجت عدم انتظام في المؤسسات الدستورية (فراغ حكومي، فراغ رئاسي وتمديد نيابي…) استهلك أكثر من نصف الأعوام الـ 16 الماضية.
صدمات متتالية، أتت بعد إجراءات حصارية نفّذتها الولايات المتحدة الأميركية، بدأت عام 2011 بقرار إعدام البنك اللبناني الكندي (وهو العام الذي بدأ فيه ميزان المدفوعات اللبناني يشهد عجزاً استمر حتى اليوم)، ثم إجراءات حصار سوريا تزامناً مع اندلاع الحرب فيها، وقرارات العقوبات بحق شركات وأفراد لبنانيين، وصولاً إلى إعدام بنك الجمال صيف عام 2019 (صاعق الانهيار) وإقفال المصارف بعد 17 تشرين الأول 2019 (قرار اتخذته جمعية المصارف أثناء وجودها مع سلامة في واشنطن). طوال تلك الفترة، كانت البنوك تكنز الودائع في مصرف لبنان الذي اتخذ حاكمه كل الإجراءات الممكنة من أجل خنق الاقتصاد، وتوّجها، بغطاء من أكثرية سياسية عابرة للانقسام التقليدي، بقرار رفع الدعم عن المحروقات. وسبق ذلك القرار قانونٌ أصدره مجلس النواب في نيسان 2021 منح فيه سلفة خزينة لمؤسسة كهرباء لبنان بقيمة 300 مليار ليرة. هذا القانون يمكن تسميته بقانون العتمة. فالمؤسسة كانت تطلب 1500 مليار ليرة لتأمين ثمن الوقود الكافي لتوليد الطاقة الكهربائية وصيانة معامل الإنتاج حتى نهاية العام الجاري. لكنّ عدداً من الكتل النيابية (القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل وحركة أمل) ضغطت لخفض قيمة السلفة حتى 300 مليار ليرة، تحت طائلة عدم إصدار القانون. وشنّ ممثلون عن هذه الكتل عملية تضليل شنيعة للسكان، متعمّدين الكذب عبر القول إن خفض قيمة السلفة هدفه الحفاظ على أموال المودعين التي لم تحرّك هذه الكتل ساكناً لحمايتها، لا قبل الانهيار استباقاً، ولا بعده حفاظاً على ما تبقى منها. ببساطة، صدر قانون العتمة، عبر حجب الأموال عن مؤسسة كهرباء لبنان. ثم غطّت هذه الكتل، وغيرها، قرار سلامة رفع الدعم عن المحروقات. هذه الكتل تنقسم إلى قسمين. القوات والاشتراكي والمستقبل فعلوا ما فعلوه امتثالاً لأوامر أميركية بإيصال البلاد إلى الدرَك الأسفل من الانهيار. أما كتلة حركة أمل، ففعلته نكاية بالتيار الوطني الحر. وفي خلفية قانون العتمة وقرار رفع الدعم، انحياز كلي لأصحاب الثروات والمصارف.
ما جرى كان تأثيره كارثياً. لم يسبق أن اتخذت دولة، عن وعي كامل، قراراً بتدمير اقتصادها بالصورة التي فعلتها السلطة اللبنانية. ما يشهده لبنان حالياً من انقطاع للطاقة الكهربائية والمحروقات لا يمكن أن تشهده أي دولة من دون حرب مدمّرة. فالطاقة هي العمود الفقري للحياة في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد. ونتائج وقف إنتاج الكهرباء وقطع المحروقات لا تعيد سكان لبنان إلى المستوى الذي كانوا يعيشون فيه بعد الحرب الأهلية مباشرة، بل تُرجعهم إلى زمن ما قبل إنشاء سكة الحديد وإقامة أول معامل إنتاج الكهرباء زمن السلطة العثمانية. والدولة التي فُرِض عليها هذا الواقع، بقرار خارجي وداخلي، هي دولة يقول حاكم مصرفها المركزي إن بين يديه 14 مليار دولار «نقداً»، و17 مليار دولار ذهباً.
مجلس النواب، بوصفه المؤسسة الدستورية الأمّ، كان ينبغي أن يكون الحصن الأخير دفاعاً عن حقوق أبناء «الأمة» ومصالحهم. كان يُنتظر منه إصدار قوانين تُجبر مصرف لبنان على استمرار الدعم إلى حين إقامة شبكة أمان اجتماعي، وعلى ضمان استمرار إنتاج الكهرباء بالطاقة القصوى، وعلى تمويل إقامة معامل إنتاج جديدة تكفي لتغطية كامل حاجة البلاد. كان يُنتظر منه أن يكون على قدر المسؤولية، لإخراج البلاد من صدمة الانهيار.
جلسة مجلس النواب، أمس، يمكن اعتبارها خاتمة الاستقالة من بذل أيّ جُهد إنقاذي. هذا الواقع الداخلي، متشابكاً مع الحصار الخارجي، لا يواجَه بقرارات تقليدية. البلاد تعيش حالة انهيار تام يُعبَّر عنها بانقطاع التيار الكهربائي، وفقدان المحروقات. موازين القوى في المؤسسات الدستورية موزعة بين شريك لدول الحصار (سياسياً ومالياً)، ومستقيل من مسؤوليته وعاجز عن التغيير من الداخل ومشتغل بالنكاية. والواقع أشبه ما يكون بحالة حرب غير معلنة. وإزاءه، لا بد من حلول غير تقليدية، على رأسها تأمين مصادر الطاقة، في وجه الاحتكار والحصار، والتفافاً على العجز التام للمؤسسات. إجراءات طوارئ هدفها إنعاش المريض والحؤول دون وفاته. هنا تحديداً تكمن أهمية استيراد النفط من إيران. إنه ليس حلاً للأزمة في لبنان، لكنه بالتأكيد شريانٌ للحياة، في وجه قوى الموت الداخلية والخارجية.