محمود بري | كاتب لبناني
لا أعرف على وجه التحديد تاريخ سقوط بيروت في يد المغول… ولا تاريخ المجزرة الرهيبة الأولى التي قاموا بها. إلا أن مجازرهم متواصلة. التاريخ الذي لا يذكر ذلك هو نصوصٌ مدسوسة وغير صحيحة… مثله كمثل تسعة أعشار ما نعتبره تاريخنا. ولا بأس لو اعترف مجنون هنا أو هناك، بأننا شعوب بلا تاريخ. فهذه، على مرارتها، أهون من التّعلّق بقطار مُعطّل منذ ألف عام. وهي حقيقة مُحايدة، إنما من الممكن (وبسهولة كبيرة) تكذيبها وطمسها ومسحها وسحبها من كتبنا للتاريخ ومن برامج مدارسنا وجامعاتنا.
هذا أمر أكثر سهولة من الكذب. والدليل أننا فعلناه… ومن دون جهد. نعم. نحن استبدلنا ما اختزنته الأحداث المُخجلة في تاريخنا، بكل ما أردنا له أن يكون، لكي ندعم ونثبت افتخاراتنا… ورحنا نتشاوف بما أنجزته مخيّلتنا الجماعية المريضة بالإدعاء والعنجهية، مما ثبّته رُواة السلاطين. وهكذا صار هذا الكمّ من الرُّغاء الخاوي، هو تاريخنا المُدوّن.
وهذا لم يكن حصوله حكراً على الأمس البعيد الذي نسميه “تاريخنا” ونلقّبه بالمجيد. فاليوم أيضاً، وأنت تتابع المقالات الواجهية والتغطيات الأساسية لمجريات الأمور ، في بلدك الصغير ، على صفحات جرائدنا وعلى شاشاتنا، من بيروت حتى آخر هذا المبغى المتناثر شعوباً وقبائل وكمائن (من المَيّ إلى المَيّ)، تجد الكذّابين التافهين أنفسهم، هؤلاء الكتبة المأجورين- المسعورين، يوقعّون تخرّصاتهم التي يسمونها افتتاحيات ومقابلات وتحليلات… موجّهة جميعها لتمجيد… هولاكو العصر الذي يتخذون له تسميات وألقاباً تفخيمية مختلفة، بحسب البلد الذي “يُهولِك”فيه، فيُسقطون عليه لقب ملك هنا ورئيس هناك، بينما هو هو نفسه، هولاكو، إنما بأنياب يخفيها تحت قناعه التمساحي.
ما فعله المغول ببغداد لم يصل، على فظاعاته، إلى ما فعلوه ويفعلونه اليوم ببيروت.
بغداد أولاً، دخلوها غُزاة بـ 200 ألف سفّاك متعطّش للدماء، ذلك الجيش الوحشي الهمجي الذي لا يؤمن بدين من الأديان السماوية، ولا يعرف أيّ عرف أخلاقي. وهذا التوصيف لـ”إبن كثير” في كتابه المشهور “البداية والنهاية”، والذي يشير إلى أن جيش الخلافة يومها كان عشرة آلاف رجل…لا أكثر. وتحدث هذا “المُأريخ” أن “الوزير ابن العلقمي هو الذي أقنع الخليفة أن يُخَفّض عدد الجيش من مائة ألف إلى عشرة آلاف”، واتهمه صراحة بأنه خائن ومتآمر مع المغول. وهذا ربما يدعو إلى التعجّب…إذ كيف يكون الوزير في تلك الأيام، والذي هو الوجه الآخر للخليفة، خائناً ومتآمراً على الخليفة وعلى الخلافة وعلى بغداد…! لكن إذا علمنا أن ابن العلقمي كان شيعياً، يصبح اتهام “المُأيرخ” له مفهوماً في عرف هذه الأمراض التي يسمونها شعوباً وقبائل.
المهم… أن بغداد سقطت وقام هولاكو بقتل الخليفة بيده “وجرت الدماء من الميازيب في الأزقة”، وتواصلت المقتلة لأربعين يوماً، وصارت بغداد “آنس المدن”… خراباً أمام جثث أبنائها الذين ذكر “المُأيرخ” إياه “أنه اختُلف في عددهم، فقيل 800 ألف قتيل، وقيل مليون و800 ألف، وقيل مليونان، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، وهم في خوف وجوع وذلّة وقلّة…”.
من بغداد إلى بيروت…
مغول بلدنا اليوم ليسوا بالفؤوس بل بربطات العُنق. ليسوا بالسيوف والخناجر إنما بالشعارات والدولار والأسعار. إبتكروا لنا قضايا وهمية تحت يافطة استرجاع فلسطين، ولوّنوها بما اختاروه من عدالة ومساواة وحقوق للطائفة، ثم مضوا في توزيع السلاح علينا، في القاطعين الإثنين، وأشعلونا في حروب من أجلهم هم… تارة “شرقية وغربية” وطوراً “وطنية وإنعزالية”…إلى ما هنالك.
وبينما كنّا نتخاصم ونتعادى ونتقاصف، تحت توجيهاتهم الوبيلة، كانوا يتباركون بما نفعل في سهراتهم الهاتفية، ويتنادمون بكؤوس لحمنا ودمنا… وبعد أن أنهكونا قاالوا لنا إن الحري قد انتهت، واخترعوا لنا ما أسموه ألسلم الأهلي”، ثم شيئاً فشيئاً راحوا يقضمون الدولة (بالتراضي)، هذا لك وهذا لي، ونحن نفرح وننتفخ. وكلّما لمسوا تقصيراً ما في التحشيد، هناك أو هنا، كانت المدافع تتدخل لإثارة الحماس والحمية…ويا غيرة الدين… والمجتمع المسيحي في خطر.
…وحديثاً فقط، حين علمنا أن المقدس الأساس عندهم ليس الوطن ولا فلسطين ولا الأمة ولا حقوق المسلمين ولا المجتمع المسيحي..ولا ..ولا..، كان الزمن قد تأخر كثيراً علينا. فهم لم يعودوا في الدولة فحسب، بل صاروا هم الدولة، استباحوا المناصب والمراتب والمال العام ثم الخاص بما في ذلك ودائع الناس في البنوك… وصاروا هم الذين يستوردون كل ما نجده أمامنا على رفوف المتاجر، وبالتالي فكلّما ضاعفوا الأسعار تضاعفت ثرواتهم… وهم لا يشبعون ولا يأخذون العبرة ممن سبق.
إذا كان تعداد ضحايا المغول في بغداد اقترب من المليوني بشري، فهنا في لبنان الضحايا بالملايين…بعدد اللبنانيين… الذين لا يعرف عددهم غير الله بغياب كل إحصاء.
لا تشتموا المغول والتتار… كانوا أقل من هؤلاء وحشية وجشعاً وجريمة، وكانوا أصدق وأرفع شرفاً. فهم على الأقل لم يستغلوا شعارات الدين ولا الوطن ولا القضية ولا الطائفة ولا الطبقة ولا المنطقة. ثم إنهم لم يُنكروا ما اقترفوا… ولم يمشوا في جنازات من قتلوهم.
أمّا أنتم… أنتم غُلاة الوطنيين وخُدّام الفقراء وهُداة التائهين…
فأنتم مغول الزمن الحالي… أنتم خجل كل لبناني وعربي؛
أنتم خجل الإنسان. لكنكم أيضاً، ويا لتفاهة الزمن، أنتم، وحسب النص الذي صيّرتموه تاريخ لبنان: أنتم مُنقذو الوطن.