المغضوب عليه.. قبل الإعتذار وبعده

محمود بري | كاتب وباحث سياسي لبناني

كيف يمكن قراءة ما شهده البلد منذ تسعة أشهر وحتى إعلان الحريري اعتذاره المتأخر عصر عودته من القاهرة؟على المستوى الخارجي حيث التأثير الجدّي على الوضع، اعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي “جاك سوليفان” أن “الأخبار عن اعتذار سعد الحريري مخيبة للآمال”؛  وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” رأى في ذلك “خيبة أمل جديدة”؛ وزير الخارجية الفرنسي “جان ايف لودريان” اختار المبالغة الدرامية بوصفه الاعتذار بـ “الحدث المروّع”. الأوضح تعبيراً من كل هذه المواقف أن المعتذر أدار لها الأذن الصمّاء ومضى لتحريك الشارع مذهبياً باحثاً عن “الإرتطام الكبير” الذي لم يحدث لأنه… لن يحدث، الآن على الأقل.

أما الديوك المحليين الذين سارعوا لتعليق الأزمة على المشاجب المُعتادة في سبيل التبرّؤ منها، فكان عليهم أن يحترموا الشارع الذي يعلم علم اليقين أن مسؤولية ما جرى ويجري لا تقع على عاتق الصهيونية ولا على الشيطان الأكبر، بل إن ما نتعرّض له ليس مؤامرة خارجية بالمرّة قبل أن يكون لعبة “حرامية الداخل”.

إن قفزة الدولار من  6500 ل.ل. يوم التكليف إلى أكثر من 23 ألف ليرة بعيد الاعتذار، ليس مجرد “هارد لاك”. ففي هذا التفصيل الرقمي تكمن “حقيقة” الكارثة التي عمل بعض الداخل على التسبب بها ورعايتها حتى تصل إلى ما وصلت إليه، تماماً كما حصل الأمر مع تفجير المرفأ. وبقليل  من المنطق الحسابي البارد يتبيّن أن المشكلة الأساس نجمت عن اختيار الرجل نفسه لـ”حكومة إنقاذ”، والإصرار عليها بطريقة دراماتيكية مبالغ فيها، مع التغاضي عن واقع أنه هو نفسه الذي أوصل أو شارك بفعالية في إيصال البلد إلى الوضع الذي يحتاج معه إلى الإنقاذ.

وعلى أية حال ينبغي الاعتراف اليوم بلا مواربة أن الرئيس الحريري لم يكن يوماُ رئيس حكومة مثالياً… بل لطالما كانت التُهم المُسيئة تلاحق أداءه، سواء في الحكم أو في الإدارة او في السفر والترحال، الأمر الذي أغرى أقرب الناس إليه، شقيقه البكر بهاء، للإستثمار في ذلك بُغية طرح نفسه بديلاً. أما الـ 33 مليار دولار التي قال خلال مقابلته غير الموفقة، أنه أتى بها إلى لبنان، ومعها كل العطاءات والديون والمكرمات والمساعدات والهِبات… جميع ذلك لم يحلّ ولا أي مشكلة في البلد، ولم يوقد شمعة في ظلام العجز المالي للدولة والشلل المتمادي للإدارة. فلا معمل كهرباء واحداً جرت إقامته، ولا صلُج التيار على الرغم من الـ 40 مليار دولار التي تقاسموها بوقاحة على شرفه… ولا محرقة نفايات (بديلة عن التي صُرفت ميزانيتها أيام السنيورة واختفت معه) جرى تركيبها… بل لا إنجاز حقيقياً يمكن تسجيله في خانة حكومات الحريري الأبن وأشباهها، اللهم إلا ما جاء يصبّ في مصلحة المتحاصصين الذين لم يتورّعوا عن تقاسم السرقات والمغانم والديون والقروض والأعطيات على عينك يا مواطن… لتنتهي إلى حساباتهم الشخصية المُهرّبة، مستفيدين من حصانات طائفية ومناصبية وميليشياوية بدت أمامها الأجهزة الرسمية من أمنية وقضائية وغيرها، مجرد هراء.

وللمزيد من توضيح الصورة لابد من شيء من الحياد والنزاهة في الاستعراض.

إن تحطيم مُرشّح مُستغنٍ مثل مصطفى أديب (وكي لا ننسى: منعه صراحة عن التواصل مع أيّ كان ــ وبخاصة مع جبران باسيل ــ من غرفة فندقه البيروتي التي حُصِرَ فيها، حتى إقتناعه باختيار النجاة بجلده والعودة إلى طرابلس ومنها إلى ألمانيا، لم يكن سلوكاً طيباً.

كذلك لم يكن تقييد رئيس حكومة أكاديمي غير معروف وبلا جمهور مثل حسّان دياب، حتى اضطراره إلى الاستقالة، وقبله إحراق محمد الصفدي وبهيج طبارة وسمير الخطيب وكل من يمكن أن يتقدّم، ثم تقديمه لنفسه بعد أن كان رافضاً الترشح لتشكيل أي حكومة على الرغم من إغراءات “حليب العصافير”، كل ذلك لا ينبغي إخراجه من سياقه ولا التغاضي عن مدلولاته. فالرئيس الحريري كان يسير على هدي خريطة طريق يعلم الله من أين جاء بها، علماً بأن تسميته لتشكيل الحكومة أساساً جاءت بأغلبية هزيلة عددياً ومشكوك بميثاقيتها أيضاً حيث امتنعت عن تسميته كما هو معروف، كُتلتا النواب المسيحيين الأوسع تمثيلاً (الإصلاح والتغيير والجمهورية القوية).

ولئن كان أي قارئ صحف يقدّر أن سعد الحريري لن يمكنه تشكيل حكومة بالشروط العجائبية التي طرحها بما يتناقض مع كل ما هو معروف وسائد منذ ألف عام وعام، فإن تسويفه ومماطلته وأسفاره الهروبية كلّها لم تكن سوى طريقته لقتل الوقت، مستغلاً بطريقة مُسيئة مناصرة الرئيس بري له باسم الثنائي، ما أدّى إلى تحفيز حالة الاهتراء ودفعها خطوات واسعة نحو الهاوية.

وهذا  يفسّر استياء عين التينة من اعتذاره، وربما أيضاً من سلوكه الأرعن في بعبدا وطريقته الفضّة المفتقرة إلى اللياقة، في التعامل مع شخص رئيس الجمهورية.

والأنكى من كل ذلك أن فرنسا، التي تعرف سرّ الحريري، حملت بلسان مستشارها الرئاسي باتريك دوريل خلال زياراته مختلف الرؤوس المحلية، سؤال واحداً كان يكرره بأكثر من صيغة: “من تعتقدون أنه الأنسب لمرحلة ما بعد الحريري؟”. والمعنى أن الاعتذار لم يكن مفاجئاً لباريس.

فهل كان الثنائي، وهو الحليف الوحيد الداخلي للحريري، الطرف الذي فاجأه الاعتذار، أم أن مناصرته الحريري كان مشاركة منه في خريطة الطريق إياها؟

مهما كان الجواب، فالسؤال الأهم يتركز على هوية الشخصية التي ستخلف الحريري، بعد ما قيل عن رفض ميقاتي أو تحفظ جهة قوية عليه؟

هل صحيح أن الحل هذه المرة سيكون فرنسياً ــ أميركياً ــ سعودياً، وبالتالي فلا أحد من أعضاء نادي الرؤساء السابقين، سيكون مقبولاً، وبالتالي فالرعاية السعودية، بعد وضع الحريري جانباً، سوف تفتتح عصراً جديداً في السراي على حساب الحريرية وسواعدها، بخاصة بعد أن بلورها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بتساؤله اللاذع: “ما علاقتنا بخلاف سعد الحريري مع السعودية”؟

ويبقى التخوّف من أن الأشهر الفاصلة عن إنتخابات 2022 ستكون حافلة بقرع طبول المعارك. هنا يمكن أن تكون الفرصة مُتاحةً لليد السعودية كي تتصرف، ولا سوريا ولا إيران ولا أيّ طرف آخر يمكنه أن يقوم بالدور الذي يمكنها القيام به بمباركة واشنطن وباريس.

فهل يصح التفاؤل بذلك لا سيما وقد بدأت الحرارة تدبّ من جديد في قنوات التواصل الرسمي مع الرياض بعد إزاحة “المغضوب عليه”؟

 

 

Exit mobile version