المعلوم والمجهول في المسار السياسي للكيان اللبناني والدور المرتجى للحركة السياسية اللبنانية

حسن عماشا | كاتب وباحث لبناني

حين تتحول قوة سياسية اجتماعية تمسك في مفاصل الادارة العامة للكيان اللبناني. الى مجرد قوة ابتزاز لا تملك ان تقدم شيئا حتى الى البنية الاجتماعية الحاملة لها الا بما تقتنصه وتنهبة من موارد “الدولة” . وتعطل كل مقومات الفعل الاقتصادي والسياسية والاجتماعي. تصبح ليس فقط قوة نافلة وحسب. بل تكون خطر و”شرا مستطيرا” لا يؤمل منها أي خير ينعكس على الحياة العامة.
تلك هي حالة ما يسمى “تيار المستقبل”. وتلك هي النتيجة الحتمية التي آلت اليه طبيعة ودور الحريرية بمؤسسها رفيق الحريري. دون ان يعني ذلك اي اعفاء من المسؤولية لشركائه في تركيبة المكونات السياسية ما بعد “الطائف”.
اذا كانت الحرب الأهلية في لبنان 1975/1990 ابقت على شيء من مقومات البنيان الدولتي من مؤسسات وقطاعات وموارد حيوية يمكن من خلالها اعادة بناء ما هدمته الحرب والتأسيس عليه. فان مشروع اعادة الاعمار الذي شكل عنوان الحريرية ومبرر وجودها قضى على كل مقومات اعادة البناء على اسس اجتماعية وحول ما بقي حي منها الى مجرد عبئ على الخزينة العامة دون ان يقدم اي مردود يذكر في أي مجال. وليس هذا وحسب بل ان المنهج الحريري أدى الى ضرب كل القطاع العام والسيطرة على مجالاته بعقلية مافياوية جعلت البلد يخضع بكل مكوناته الى مزاجيتها. وإرتهانه بقوته اليومي وأسباب استقراره السياسي والاجتماعي الى ارادات قوى اقليمية ودولية تضع في أولوياتها أمن واستقرار الكيان الصهيوني على حساب كل اعتبار أخر.
هذا ما جعل كلا القوى السياسية تقف عاجزة امام عنجهية وصلف آل الحريري سواء كانوا في مواقع السلطة بشكل مباشر أو خارجها بأشخاصهم ومسيطرون عليها عبر أدواتهم. والعجز في وضع حد للحريرية وأدواتها ناتج بالدرجة الاولى عن أن معظم القوى الفاعلة في الحياة السياسية كانت في موقع الشراكة معها التي ادت الى استنزاف كل شيء وإستنفاد كل رصيد يمكن الاعتماد عليه لبناء المقومات التي توفر الحد الأدنى للأمن الاقتصادي والاجتماعي. وكذلك فان القوى الأخرى المؤثرة والفاعلة من خارج بوطة الشراكة هي أيضا عاجزة عن الوقوف بوجه الابتزاز الذي تمارسه الحريرية. بكونها تفتقد الى مشروع وطني ذا مضمون اقتصادي اجتماعي بمستوى التحديات التي تواجه هذا الكيان اللبناني. وفي طليعة هذه القوى “حزب الله” والتيار العوني.
الأول يرسم أولوياته بناء على دوره في مقارعة العدو الصهيوني وبناء القوة العسكرية المباشرة التي تؤهله لذلك. تاركا شؤون البلد الاقتصادية والاجتماعية لشريكه في النسيج الطائفي رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل نبيه بري. الذي هو ابرز شركاء الحريرية في كل مراحلها. ولو انه في الموقف السياسي الوطني والقومي العام. يبقى في الاصطفاف المتماهي مع حزب الله ومحور المقاومة والممانعة.
أما التيار العوني الذي تجاوزته قوى “الطائف” مجتمعة منذ العام 1989. ما زال يرضخ تحت سقف المشاركة وإستعادة حقوق المسيحيين في مواقع السلطة التي استباحتها الحريرية وحلفائها في المناطق وأبرزهم الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. في ظل اختلال واضح هو أن البنى السياسية في البيئة المسيحية منقسمة بين اتجاهين أساسيين الأول يرتضي ما تمنحه إياه الحريرية باسم الواقعية آملا ان تتغير موازين القوى الاقليمية والدولية في صالحه لإستعادة مكانة ودور كانتا له قبل الحرب الأهلية. أما الثاني وهو التيار العوني يفترض انه بتحالفاته السياسية الداخلية والاستناد الى حجم التمثيل الشعبي يمكنه استعادة الحقوق المسلوبة. دون النظر الى أولويات حلفائه ومدى قدرتها على التناغم معه في المواقف اليومية وخصوصا حين تتخذ طابعا هجوميا. رغم الخيبات التي مني بها منذ “التحالف الرباعي” . وادراكه لإنعدام المقومات الحقيقة للإستقلال في الخيارات السياسية والاقتصادية من مواقع السلطة. لا زال يرزح تحت عبئ الفكر السياسي الكياني ومنطقه الايديولوجي. رغم سقوط هذا الفكر وأثر المدمر الذي انتج الحرلاب الأهلية ولم يتعلم بعد من دروسها.
أما في المجهول:
—————
كان لبنان منذ ما قبل تكوينه ككيان سياسي مرتبط موضوعيا في الأجواء والأوضاع المحيطة به. كانت لها انعكاسات ايجابية احيانا وسلبية في احيان اخرى. دون ان يكون له القدرة على التأثير فيها بالنظر الى حجمه وطبيعة تركيبه الاجتماعي. وبمعزل عن الرغبات والارادات للقوى المكونة له. وهو منقسم تاريخيا بين ولائين. واحد للغرب وواحد للشرق يستعر التناقض فيه وبين مكوناته تبعا لدرجة التناقض في المنطقة ولا يستقر في اوضاعه الى بالقدر الذي تستقر فيه اوضاع المنطقة. وهكذا كان حتى في أوج هيمنة وسيطرة القوي والمدرسة الكيانية السياسية. من كل الطوائف والمذاهب والمناطق.
اما بعد الحرب الأهلية اصبح لبنان اكثر ارتباطا وعضويا بمسار احداث المنطقة وارادة العزل فيه هي الأقل تأثيرا وتتلاشى فيما لو قرر احد اطراف النزاع في المنطقة اشعاله.
ولو أن ميزان القوى في لبنان لم يكن في صالح المقاومة وبشكل كبير لما كان لبنان اليوم ينعم بهذا الاستقرار الأمني النسبي. لأن طبيعة القوى المناوءة له وارتباطاتها وانتهازيتها التي تعتاش من موارد ومكتسبات. نظير ما تقدمه من خدمات للقوى الاقليمية والدولية ولا تملك أي حرص في خلفيتها على البنى الاجتماعيىة التي تحملها وتعيش على حسابها . حاولت مرارا استدراج الحرب لأن فيها تتعاظم مورادها. وهي بدورها لم تثنيها محاولاتها السابقة رغم انهيارها في المواجهة . ورغم ذلك لن تتوانى عن المحاولة لتفجير الاوضاع لو انها توهمت في قدرتها على السيطرة في مناطق معينة بما يتيح لها ان تمارس الدور الذي تأمله في خدمة اسيادها.
لا شك ان مظاهر الحوار والتفاهم على الحد الأدنى من الاستقرار مع التيار الذي يلبس لبوس الاعتدال والمتمثل بتيار الحريري . يشكل حاجة وضرورة في هذه المرحلة رغم انه فاقد للسيطرة على الجمهور الذي تفلت من يديه لصالح قوى الارهاب والتكفير. الا انه ما زال يشكل القوى المعتمدة من قبل المراجع الإقليمية والدولية والتي بيدها أيضا ليس فقط توفير الأمن والاستقرار في لبنان بل وتأمين وصول الموارد الحياتية اليومية إليه.
ان هذا الارتهان ما كان ليحصل لولا انه لم تطلق يد الحريري المؤسس في شؤون اعادة البناء و الذي جعلها مرهونة بابسط الاحتياجات للارادة الخارجية. غير ان الاستمرار في الخضوع لهذا الابتزاز سوف يصل الى طريق مسدود مع ضيق الهوامش في الصراع على المنطقة العربية. وما تهرب منه اليوم القوى السياسية الوطنية – القومية سيواجهها كاستحقاق مفروض ما لم تستعد له عبر تأمين موارد حقيقية وتنمية القدرات الانتاجية في كافة المجالات تحسبا لقطع الطرق على وصول هذه الموارد من الخارج سواء عبر البحر او البر. كما ان اضعاف التيار الوهابي ومتفرعاته وفي مقدمته الحريرية وأتباعها عبر تعزيز مقومات الحياة لدى البيئة الاجتماعية الحاضنة لها. يوفر الفرص حتى للقوى الاقليمية الداعمة لها للتغيير في رهاناتها وعدم الدفع باتجاه التفجير للأوضاع وجر البلد نحوى الفوضي اذا ما شعرت بفقدان السيطرة وتركت البنى الاجتماعية التي تشكل ادوات تخريب وفوضى في حالة من العوز وانسداد الافق.
هنا يكمن الدور المنوط بالقوى الوطنية التقدمية والرهان على ارتقاء الأداء السياسي للتيار العوني وان يستدرك حزب الله ويلحظ من ضمن مسؤولياته هذا التحدي الوجودي كقوة فاعلة ولها اكبر التأثير ولا يكتفي بما يعبر عن مجرد محفز أو مؤيد للمطالب الحياتية للناس في المناطق التي هي بعيدة عن وجوده وتأثيره المباشر.

كُتبت المقالة عام 2015

Exit mobile version