د . صفيّة انطون سعادة – أستاذة جامعية
في مقالته المنشورة على موقع «خمس نجوم» بعنوان «لبنان: تدمير ممنهج ووهم انتظار بايدن»، عمد الصحافي اللبناني سامي كليب إلى ربط أحداث عالمية بالتطورات على الساحة الداخليّة، بطريقة انتقائية واعتباطية، محملاً ح الله مسؤولية ما حصل ويحصل في لبنان. يقول الكاتب:
«قاتل ح الله عشر سنوات على أرضٍ غير أرضه في سوريا، ورفع مستوى تدريبه القتالي، وحصل على أسلحة استراتيجية، صار المُهدّد الفعلي لإسرائيل، وصار أيضاً رأس حربة إيران في المنطقة، يعادي من تعاديه ويصادق من تصادقه، فتوسّعت رقعة شقاقه مع دول عربية عديدة. من سيقبل بهذا الواقع؟»
يُظهر هذا المقطع سرداً لتسلسل الأحداث يجافي «الواقع» على عدد من الأصعدة:
أولاً، قلْب الأسباب إلى نتائج. فح الله ليس «المهدّد الفعلي لإسرائيل»، بل العكس تماماً، إسرائيل هي المهدّد ليس فقط لح الله، بل لجميع دول «سوراقيا»، وذلك منذ قرار وعد بلفور بإنشائها عام 1917. لم تخفِ الحركة الصهيونية، آنذاك، مشاريعها بالاستيلاء على منطقة الهلال الخصيب بأجمعها، في ما أسمته «إسرائيل الكبرى»، وهذا واضح في رسائل حاييم وايزمان إلى رؤساء الدول الغربية لمن قرأ الثلاثة وعشرين مجلّداً التي تحتوي على آرائه وأعماله.
لا تمانع إسرائيل بإقامة علاقات طبيعية مع دول الخليج أو شمال أفريقيا، لأنّ لا مطامع لإسرائيل في هذه الدول، لكنّ الوضع مغاير تماماً في ما يختصّ بنا. هي تريد الأرض، والماء والبحر، ولا تخفي ذلك، وما الصراع الأخير حول النفط إلّا عيّنة من مسار طويل من الحروب، والقتل وهدر طاقات لبنان ودول «سوراقيا». لذلك، ح الله هو النتيجة وليس السبب. هو المدافع عن هذه الأرض وليس المهاجم.
ثانياً، إدراج مقولة إنّ «ح الله قاتل على أرض غير أرضه» هي مقولة فيها الكثير من المجافاة لواقع تقسيمات «سايكس – بيكو» الملائمة لإسرائيل وللغرب، لأنّ عنوانها الكبير هو «فرّق تسُد»، والكاتب في موقفه هذا يوافق على التقسيمات التي فرضها الغرب بالقوة العسكرية على المنطقة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ويعتبر أن لا علاقة بين سوريا ولبنان بأكثر ممّا هي علاقتهما بإسرائيل! إنّ كلّاً من لبنان وسوريا مهدّدان يومياً من قبل إسرائيل، لأنّ هذه الأخيرة تريد أرضهما، فهي استولت على الجولان ولا تريد إعادته، وقبعت في جنوب لبنان عشرين عاماً ولم تخرج إلّا نتيجة المقا. ومة المسلّحة التي آزرتها سوريا، لأنّ أيّ دخول لإسرائيل إلى لبنان يعني بالضرورة تهديداً لسوريا، فإذا سقط لبنان، سقطت سوريا، والعكس صحيح أيضاً.
لقد اخترع سايكس – بيكو لبنان كمنطقة مسيحية عازلة لحماية إسرائيل
ثالثاً، يعي الغرب تماماً ترابط دول الهلال الخصيب تاريخياً، واقتصادياً واجتماعياً. لذلك، يعمد إلى فصل بعضها عن البعض الآخر، وإذكاء نار الحقد والخصومة بينها، كالقول إنّ لبنان يدفع ثمن التدخّل السوري، بينما الحقيقة هي أنّ هاتين الدولتين تقومان بالدفاع عن نفسيهما أمام الهجمة الإسرائيلية الآن، وأكثر من أيّ وقت مضى، لأنّ الولايات المتحدة الأميركية تريد تخصيص إمكاناتها لمواجهة الصين.
تدرك الولايات المتحدة الأميركية أنّ هذه المنطقة تمثّل وحدة جغرافية استراتيجية شاءت أم أبت، والبرهان على ذلك أنّها حين احتلّت العراق عام 2003، كانت تعرف تماماً أنّ ذلك يعني سقوط سوريا ولبنان. لذلك، سارع كولين باول، وزير خارجيّتها آنذاك، إلى زيارة الرئيس السوري وتهديده بتدمير سوريا إذا لم تهادن إسرائيل. فالتوازن بين القوى الذي استطاع الرئيس حافظ الأسد المحافظة عليه، لم يعد ممكناً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واتُّخذ القرار في الولايات المتحدة الأميركية باجتياح دول سوراقيا، منذ عام 1996 (راجع The Clean Break). لم تكن أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر إلّا الحجّة المناسبة للقيام بذلك، بالرغم من أن لا علاقة للعراق بهذه الأحداث، لكن الإعلام الأميركي قوي لدرجة أنّه استطاع أن يحوّر الوقائع، وينشر الأكاذيب فيصدّقها القارئ؛ فادّعى كولن باول في اجتماع للأمم المتحدة بأنّ العراق يحتوي على أسلحة دمار شامل، وأرفق طوني بلير هذه الكذبة بأنّ الصواريخ المدمّرة ستطاول بريطانيا خلال أقل من ساعة.
رابعاً، احتلال القوات الأميركية للعراق يمثّل تهديداً وجودياً لإيران. ووجود محور المقاومة ليس بأكثر من تعاضد دول المنطقة وحراكها الشعبي ضد الاحتلال الصهيوني والأميركي معاً، فحتّى حرب صدّام حسين ضد إيران كانت لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية، وحين انتهى دور الرئيس العراقي بادرت أميركا ليس فقط إلى تصفيته بل إلى تدمير العراق. لذلك، القول بأنّ ح الله صار «رأس حربة إيران» هو قول يجافي الحقيقة، فهذا محور متكامل يدافع عن أرضه ووجوده، وكما يقول المثل: «في الاتحاد قوة».
خامساً وأخيراً، إنّ تدمير لبنان ليس بسبب وجود ح الله كما يقول سامي كليب، وليس بسبب إيران، بل لأنّ علّة وجوده قد انتفت! ولقد كتبت حول هذا الموضوع في مقالة ستنشرها جريدة «الأخبار» عنوانها: «دولة لبنان الكبير: بدايته ونهايته».
لقد اخترع سايكس وبيكو لبنان كمنطقة مسيحية عازلة بين «دولة يهودية» ودول عربية «إسلامية»، وذلك حماية لإسرائيل. لكن، ومع فتح العلاقات الطبيعية والعلنية بين بعض دول الخليج «الإسلامية» وإسرائيل، انتفى دور لبنان المنطقة العازلة، لا بل أصبح عائقاً بفضل مقاومته. هدف تدمير لبنان إلحاقه بإسرائيل، فهل هذا ما يريده الكاتب؟
الأخبار