محمود بري | كاتب وباحث لبناني
هذا ليس خبراً. فالرجل يتصدّى لملف جرمي مرفوع في وجه منظومة سياسية كاملة تختصرها أسماء السياسيين الأربعة “المتهومين” الذين “علكوا الرسن” ورفضوا المثول أمام القضاء متذرعين بحجج واهية.
الأربعة موضوع التحقيق، ليسوا مقطوعين من شجرة، بل هم بما يمثله كل واحد منهم، فلذات قلب النظام وسواد كبده، وبالتالي فمساءلتهم… ولو من أين الطريق، هي إذلال للنظام برمته، مما لا يجوز ولا يمكن أن يحصل.
كان من الحري بأيّ محقق، حتى لو كان البيطار، بل لأنه البيطار بالذات، أن يأخذ بعين الاعتبار أنه ليس في سجل التاريخ القضائي لهذا البلد ــ العجيبة أي محاكمة لشخصية سياسية في قضية سياسية أو أمنية أو جرمية من أي نوع كان، وأن شخوص المنظومة السياسية جميعاً، بما فيهم الذين خارج الحكم، يتمتعون بقوة كونية مثل قوة خارقة سوبرمان الجبّار، تحميهم من “كريبتونيت” المساءلة وتعفيهم من كل ملاحقة قانونية في حال ارتكاب أي جريمة، حتى لو كانت تفجير مرفأ بيروت والتسبب بمقتل ما يزيد على المئتي مخلوق بشري وجرح أكثر من ثلاثة أضعاف هذا العدد، ناهيك عن تدمير ما لا يقل عن ثلث العاصمة، لعله الثلث الأجمل والأعرق فيها. وطالما صدّق المحقق أنه قاضي تحقيق كامل الصلاحية كما في الكتاب،ومضى يمارس عمله كما لو كان في بلد سيّد وفي دولة ذات كرامة، فلا بد له من أن “يتربّى” بفعل ارتكابه هذا، ليس باقتلاعه فقط، بل أيضاً بجعله عِبرة لمن يعتبر، وبالتالي إقناع كل من يمكن أن يخلفه، إذا وُجد مجنون بهذه المقاييس، باستحالة المهمة التي توكل إليه، لتنتهي الهمرو جة سريعاً بتسجيل الجريمة ضد مجهول.
والحال فالتحقيق في النكبة التي نزلت بالمرفأ، أيّ تحقيق، وأياً كان المحقق، لن يكون ممكناً أن يصل أو يُفضي إلى نتيجة. ولمن يُكثر من متابعة الصحافة الأجنبية، فالأجدر به أن يطمئن إلى أن الجرائم على هذا المستوى في لبنان، لا تنتهي كما أمام أي محكمة في باريس أو بروكسل أو ليزبون، بل لا بد أن تنتهي على الطريقة اللبنانية المعروفة: إلقاء القبض على القتيل، وفرار القاتل. وكل ما سوى ذلك لا يعدو كونه غُرفاً وهمية من دون سقف ولا جُدران. فما يُسمى “الطبقة السياسية” هم مجموعة من الذين لا يُمسّون (Intoutchables) والحصانة التي يحملونها تجعلهم فوق أيّ محاسبة.
وبموجب كل ذلك، فقليل العقل وحده يعتقد أن “التحقيقات” يمكن أن تُفضي إلى نتيجة. وهذا الشواذ هو في واقع الأمور غاية المنطقية والواقعية، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن القضاء اللبناني، بكل نزاهته وجبروته وعلمائه الأفذاذ، وبعد سنة وشهر وعدة أيام على تفجير المدينة-العاصمة، لم يعرف بعد من أستحضر سفينة نيترات الأمونيوم عبر حاجز مدمرات الأمم المتحدة التي تُسيّج الشاطئ لحماية البلد (…) ومن أمر بتفريغها، ومن أمر باحتجاز الشحنة الخطيرة، ومن غطّى وجودها سنوات طوال في المرفأ، ومن.. ومن…
وبعد هذا هل يأمل أي صاحب ربع عاقل بعد أن يعرف من فجّر ومن قتل…!
ويبقى العامل الأهم: إن أحداً من اللبنانيين (المُقيمين والمغتربين) لا يمحض السياسيين الممسكين بزمام الأمور القضائية وغيرها في البلد،أي مستوى ولو ضئيل من الثقة أو الاحترام . وهذا ما يجعل اتهام الناس لهم سهلاً جداً على الدوام. ولا ننسى أن لفظة “الجسم اللبّيس” هي تعبير لبناني حرٌّ سيدٌ مُستقلّ.
إن تعطيل المحاسبة في انفجار المرفا هو الإبن الشرعي للنهج القائم في البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية، عندما أقر البرلمان اللبناني قانوناً للعفو، هو ذاته الذي عقد قرانه على ثقافة التهرب من المحاسبة.
وبخصوص الأكثر من خمسين منظمة دولية، بينها “هيومن رايتش ووتش” و”منظمة العفو الدولية”، التي دعت لتشكيل بعثة تحقيق دولية في الانفجار، فمن المُتوقع ان يخبرهم أحد المستشرقين أن القوى السياسية في البلد قد انصرفت الآن إلى حملاتها الدعائية تمهيدا للانتخابات التي تقترب، وأمامها برامج مكثّفة لغسل الشوارع والأدمغة وإفهام “المواطنين” أن الجماعة، وإن كانوا هم السلطة ظاهرياً، إلا أن السطان الحقيقي بالواقع لم يكن إلا الإمبريالية والعدو الصهيوني الغاشم، وهذا بالذات ما حال دون ممارستهم الحرة للحكم الرشيد. مع التذكير بنيّة هذا الزوجي الجُرمية بتطيير الانتخابات، بحيث يصير من الأفضل ترك الكرتون ملصقاً كما هو… وترك هذا المحقق العدلي ليختنق من تلقائه تحت أمواج أكبر جريمة في تاريخ لبنان تتطلّب شرعاً عشرين فريق عمل من المحققين إلى جانبه.
بالنسبة للذين يستغربون أشدّ الاستغراب هذا التاييد الكاسح للمحقق العدلي البيطار، ومناصرته في وجه معارضيه ومنتقديه العاملين على “قبعه” بذريعة أدائه و”زعبراته”، فليس عليهم غير أن يستذكروا أسماء ووجوه السياسيين الأربعة الذين اتهمهم وطالب بمقاضاتهم.