د. اسامة دنورة – سورية
يخطئ كثيراً من يقرأ في الليبرالية الجديدة عقيدةً محض اقتصادية تقتصر آلياتها على «اللبرلة» الاقتصادية، والخصخصة، ودعم سيطرة رؤوس الأموال الخاصة على القطاعات الإنتاجية، وتقليص دور الدولة الاقتصادي إلى حدود دنيا.
فتلك المحددات النظرية والتطبيقية في الاقتصاد السياسي «على أهميتها» لا تعدو كونها بنية فوقية لظاهرة أو نمط اجتماعي-اقتصادي- ثقافي- سياسي متعدد الأبعاد، عالمي التأثير، تشمل تأثيراته المتشعبة الثقافة والإعلام والأخلاق والدين وأنماط السلوك الفردي والاجتماعي.
مشكلة النيوليبرالية مع الدين مثلاً لها أكثر من وجه، فالظاهرة الدينية بالإجمال لها حاملان؛ الأول هو «اللاهوت» (التيولوجيا، أو علم الإلهيات)، أما الثاني هو «التيوصوفيا» أو الحكمة.
الحامل الأول «التيولوجي» هو أحد الحوامل الهامة للموروث التاريخي المنتِج للانتماء والهوية، فالتاريخ هو الحامل الأساس للوعي القومي والوطني، أما التاريخ الديني على وجه الخصوص، فهو بنصوصه المقدسة والهاغيوغرافيا، وبجانبه الطقسي وجانبه اللغوي، وأيضاً ببعده الفني المعماري في بناء المساجد والكنائس، والإنشاد الديني والفن الأيقوني، يمثل بجوانبه المذكورة جميعاً حاملاً تأسيسياً للموروث التاريخي، وبالتالي فهو من حوامل الهوية التي لا يمكن أن تُبنى في ظل أي شكل من أشكال القطيعة مع التاريخ.
أما الحامل الثاني للدين، وهو يتعلق بالحكمة، فهو يختزن تنظيم علاقة الإنسان بنفسه وجسده، وعلاقته بأخيه الإنسان، وبالتالي فهو يختزن المنظومة الأخلاقية التي تعتبر أساساً للتنظيم السليم للاجتماع الإنساني.
ومن هنا فإن الليبرالية الحديثة، التي تعمل على إعلاء أولوية المصالح الفردية على المجتمعية، لديها مشكلة مزدوجة مع الدين، بوصفه حاملاً للانتماء والهوية من جهة، وأيضاً بوصفه حاملاً للأخلاق والفضيلة والتماسك الأسري والمجتمعي من جهة أخرى، وكلاهما، الأخلاق والهوية، تُعليان من المعيار الجماعي على حساب المصالح الأنانية المنعزلة للفرد.
الليبرالية الحديثة باختصار تريد عزل الإنسان عن أي شبكة أمان مجتمعية لكي يصبح حصراً تحت هيمنة المال، فلا الترابط الأسري ولا الانتماء القومي ولا الإيديولوجي منسجم مع أولوية حاكمية المال، وبالتالي تلك جميعها يجب أن تُضرب في مقتل لكي تبقى السلطة الحصرية على الإنسان هي للمال.
إن بقاء الهيمنة على حاضر ومستقبل الإنسان مرهونة حصراً بالمال يعني أن هذا الحاضر والمستقبل يصبح أوتوماتيكياً بيد من يملك المال، فأصحاب الثروات والاحتكارات الكبرى سيكونون في هذه الحالة ليس فقط فوق سلطة الدولة، بل فوق المجتمع والإنسان، وباعتبار أن أصحاب الثروات هؤلاء غالباً ما يكونون من «الكومبرادور»، فتبعية الإنسان موصولة بهذه الطريقة إلى مركز المال العالمي المنتج لعملة الاحتياط الرئيسة في العالم، ألا وهي الدولار، فالليبرالية الحديثة هنا عبر حربها على الدين لا تريد للإنسان أن يتوجه بقبلته إلى الكعبة أو الأقصى أو كنيسة القيامة، ولا حتى للفاتيكان أو سواه من المراكز الدينية أو الروحية، بل تريد منه بالمحصلة أن «يسجد» للاحتياطي الفدرالي!
يرى الاقتصادي الألماني ماكس فيبر، وهو أحد أهم مؤسسي علم الاجتماع الحديث، يرى في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» «أن البروتستانتية «الكالفنية» (وهي الأكثر رسوخاً واتساعاً في الولايات المتحدة) أنجزت تحولاً دينياً صب في مصلحة المدخلات الممهدة للرأسمالية»، ويمكننا أن نضيف هنا أيضاً المدخلات الممهدة لقبول الليبرالية الحديثة.
فاستناداً لما جاء به «فيبر» فقد لعبت الكالفينية دوراً مهماً في ظهور العقلية الرأسمالية، وذلك لقولها بأن النجاح على الصعيد المادي هو دلالة على نعمة إلهية واختيار مسبق للخلاص، وقد أدى ذلك عملياً إلى تمجيد الثراء، وهو ما ينطوي على مفارقة وافتراق عن آيات إنجيلية محكمة يقول فيها السيد المسيح: «مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أن يَدْخُلَ غَنِيٌّ إلى مَلَكُوتِ اللهِ» (مر 10: 25)، وفي موضع آخر «لاَ يَقْدِرُ أحد أن يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأنه إِمَّا أن يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أن تَخْدِمُوا اللـه وَالْمَالَ». (مت 6: 24)، ولعل إبراز التناقض في هذه النصوص ما بين خدمة اللـه وخدمة المال، وما بين الثراء وملكوت السموات، يجعل مفهوم الـanti Christ يتجسد في عابدي المال، وذلك، ومن حيث المآلات التاريخية، هو على نقيض «قرنيّات ماغديبورغ» Centuriators of Magdeburg التي سعت لوسم البابوية والكثلكة بهذه التهمة.
إن سيطرة المال، وعبادة المال، وبالمحصلة في زمننا الحالي سيطرة الدولار، هي واحدة من أهم أدوات الليبرالية الحديثة في الهيمنة على العالم، تضاف إليها أدوات أخرى كالهيمنة على الشبكة العنكبوتية، وهنا أيضاً لسنا بعيدين عن ما قاله كيريل الأول بطريرك موسكو وعموم روسيا وأسقف الكنيسة الروسية الأرثوذكسية خلال مقابلة بمناسبة عيد الميلاد 2018 على التلفزيون الروسي الحكومي، حيث حذّر من أن «المسيح الدجال هو الشخص الذي سيكون على رأس الشبكة العالمية للسيطرة على البشرية جمعاء».
أما في الدين الإسلامي فحب المال «الجم» هو أمر منكر، حيث يصف البيان الإلهي في محكم التنزيل في سورة الفجر طباع المشركين بالقول: بسم اللـه الرحمن الرحيم: «كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمَّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً».
وبناءً على ذلك كله يمكننا أن نكشف عن سبب أكثر وضوحاً ومباشرة للعداء الذي تكنه النيوليبرالية تجاه المنظومات الدينية والأخلاقية، ألا وهو التناقض ما بين عبادة اللـه وعبادة المال.
وبناءً أيضاً على كل ما سبق نستطيع أن ندرك أهمية ما حذّر منه الرئيس بشار الأسد من خطورة الليبرالية الحديثة على القيم، وضرورة التصدي لها باعتبار مشروعها يهدف لنزع الانتماء والدين والأخلاق من المجتمع، ما يجعلها حرباً على الهوية لا تقل في ضراوتها عن الحروب المباشرة والحروب الإرهابية التي استهدفت تاريخ وحاضر المجتمعات العربية خدمةً لمشروع الهيمنة الأميركي – الإسرائيلي.
الوطن السورية