اللاءات الإيرانية وبيت القصيد.
د. رفعت بدوي | باحث لبناني في الشؤون السياسية والإستراتيجية .
حفل خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن خلال مؤتمر ميونخ الأمني باهتمام واسع حيث شارك في الندوة كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ممثلين لأوروبا.
بايدن في ندوة ميونخ عبّر بصراحة عن نية إدارته الانخراط في محادثات جدية مع إيران بشأن برنامجها النووي من خلال مجموعة 5+1 أي العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران حسبما انتهت إليه المجموعة والذي اعتبر تاريخياً وأقر عام 2015.
رسائل أميركية سبقت كلام بايدن في ميونخ وصفت بالتراجع الإيجابي على قاعدة خطوة مقابل خطوه وصولاً إلى ملاقاة إيران في منتصف الطريق، وترجم ذلك بوقف تجديد العقوبات «الترامبية» على إيران وتخفيف قيود التنقل والسفر المفروضة على الإيرانيين وأخيراً قبول إدارة بايدن بإعطاء الاتحاد الأوروبي صفة الوسيط لإجراء محادثات مع إيران تحت مظلة 5+1.
إيران بدورها وفي معرض ردها على الإغراء الأميركي حددت خطوتها الثابتة ونوعية مفتاح باب العودة إلى الاتفاق النووي في موقف حازم بدءاً من المرشد السيد علي الخامنئي مروراً برأس الدبلوماسية محمد جواد ظريف ووصولاً إلى الحرس الثوري وتوابعه حددت بلاءات ثلاثة.
– لا لتغيير صيغة اتفاق 2015 بمعنى رفض إيراني لمطلب أميركي أوروبي بإشراك كل من السعودية والعدو الإسرائيلي في أي مفاوضات حول برنامج إيران النووي.
– لا لبحث أي ملف خارج إطار ما تم إقراره في الاتفاق النووي تحت مظلة 5+1، ما يعني رفضاً إيرانياً مطلقاً للبحث في ملف تطوير البرنامج الصاروخي الإيراني وذلك لاعتبارات سيادية تتعلق بحماية إيران والدفاع عنها.
– لا عودة للعمل بالاتفاق النووي قبل إزالة جميع العقوبات التي فرضت على إيران بعد اتفاق 2015 وهنا بيت القصيد.
اللاءات الإيرانية لم تأت كرد فعل إنما أتت بفعل رسالة قوية موجهة إلى أميركا وحلفائها في المنطقة وعلى قاعدة إيمان بأن «زمن أول قد تحول» وأن السطوة والظلم والعنجهية الأميركية التي مورست على إيران في عهد ترامب لم تؤت أكلها ومن غير المسموح أن تؤتي ثمارها في عهد بايدن.
وللتذكير فأن المرشد الإيراني علي خامنئي سبق له أن رفض عرضاً أميركياً للجلوس على طاولة التفاوض برسالة كتبت بخط يد دونالد ترامب حملها إليه رئيس وزراء اليابان «شينزو آبي» في 2019 وهو الذي سمع من خامنئي كلاماً واضحاً مفاده أن لا ثقة لدينا بأي إدارة أميركية جمهورية كانت أم ديمقراطية.
التراجع الأميركي الإيجابي فيما خص العودة إلى ملف الاتفاق النووي قابله هجوم إيراني مدروس ومتحرر من أي ضغوط، فإيران بررت هجومها بالتزامها بنود الاتفاق النووي لكن أميركا نفسها هي التي نكثت وانسحبت من الاتفاق من دون أي مبرر وإن من بادر إلى الانسحاب عليه رتق عورته للعودة إلى الاتفاق وليس إيران، التي بدأت اللعب على قاعدة «أنا الغريق وما خوفي من البلل» وذلك بعد نجاحها في كسر رهان دونالد ترامب الذي خرج من البيت الأبيض من دون أن يتلق أي اتصال هاتفي من إيران التي طالبت بدورها بإلزام أميركا دفع تعويضات مالية تصل إلى سبعة مليارات دولار أميركي جراء الضرر الذي لحق باقتصادها نتيجة العقوبات الترامبية غير العادلة.
طهران لم تغلق الأبواب كلها إنما تركت الباب لبايدن موارباً حيث يجب عليه التقاط الفرصة قبل التحلل الإيراني الكامل من الاتفاق والمباشرة بزيادة نسبة التخصيب من خارج إطار الاتفاق.
وزير الدبلوماسية الإيرانية محمد جواد ظريف صرح بأن إيران ستعود عن خطواتها التخصيبية التصعيدية إذا رفعت واشنطن العقوبات الأميركية وعادت إلى العمل بروح الاتفاق النووي. وفي خطوة إيرانية إيجابية إضافية أعلنت إيران في بيان مشترك مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها ستبقي على التعاون القائم بينها وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية من خلال البروتوكول المعمول به ومن دون قيود.
إذاً فإن طهران أكثر تحرراً من إدارة بايدن التي وجدت نفسها مكبلة من حلفائها في المنطقة السعودية والعدو الإسرائيلي، فالسعودية الممتعضة من القرار الأميركي وقف بيع أسلحة أميركية إلى الرياض وأبو ظبي، ومن مطالبة واشنطن بوقف المجزرة الإنسانية بحق اليمن، وإعلانها رفع الحوثيين من لائحة الإرهاب، كلها قرارات صبت في مصلحة طهران ولو بشكل غير مباشر. ثم إن إعلان بايدن نيته العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني أيضاً يصب في مصلحة تعزيز الدور الإيراني في المنطقة على حساب حلفاء أميركا ولاسيما العدو الإسرائيلي الذي يجهد في إبقاء العقوبات على إيران وتعطيل أو عرقلة أو إلغاء فكرة العودة الأميركية للاتفاق النووي ولو أدى ذلك إلى اندلاع حرب في المنطقة.
وعلى عكس ما أشيع عن الود الذي ساد الاتصال الهاتفي بين نتنياهو وبايدن فإن مصادر مطلعة أفادت أن ما دار بين الطرفين هو تحذير بايدن لنتنياهو من مغبة الإقدام على أي مغامرة عسكرية ضد إيران بشكل منفرد أو بالاشتراك مع الدول الخليجية.
تدرك إدارة بايدن أن أي مغامرة عسكرية في المنطقة لن تكون مقتصرة على الجغرافية الإيرانية وستكون نتائجها كارثية وبالغة التكلفة.
خطوات التراجع الأميركي لن تكون مقتصرة على الملف النووي حصراً والسبب هو أن إدارة بايدن تسعى إلى تجنيب المنطقة مواجهة شاملة مع الاستفادة من حالة عدم الاستقرار مقابل التفرغ لمواجهة اقتصادية وسياسية محتدمة مع الصين وروسيا.
فالعودة الأميركية إلى الاتفاق النووي وإنهاء الحرب اليمنية هما خيار التكلفة الأقل، وانطلاقاً من ذلك يتدرج تراجع الهيمنة الأميركية على المنطقة وقد يكون مقدمة للانسحاب الأميركي من العراق وسورية. أما بقاء القواعد الأميركية وقواتها في هذين البلدين فقد يعني تكبدها خسائر بشرية بتكلفة باهظة لا يمكن لأميركا تحملها.
ومع اختلال الميزان الأميركي في المنطقة فإن مصلحة إدارة بايدن تكمن في الإقدام على رفع العقوبات وهو بيت القصيد والخيار الأقل تكلفة.