اخبار لبنانكتاب الموقع

الغموض والتوافق: هكذا يُحطّمون البلد .

محمود بري | كاتب وباحث سياسي لبناني .

غموض النصوص. هذا هو السلاح الأمضى بيد الطبقة السياسية العُليا، والذي طبع تاريخ لبنان منذ الاستقلال حتى الطائف، وما يزال.
غموض النصّ يفتح على تعدد المعنى، ما يُتيح لكل طرف سياسي أن “يُجلي” هذا الغموض بتفسيره الخاص للنص بما يحقق له مصلحته. من هنا تتعدد ألوان القانون الواحد بتعدد المضطرين للخضوع له، فإذا بكل واحد منهم، وبفضل الغموض النائم في “صاعق” القانون، يجعل لهذا القانون معنى معيّناً ومعنى مختلفاً عنه وغيره مناقضاً له في آن واحد، والحرية مُطلقةٌ لكل واحد من الذين فوق ليعتمد المعنى الذي يفضله، ويتمترس خلفه.
وبالفعل لو نظرنا في ما تعتبره “الدولة” دستورها، لوجدناه معززاً بثالث أوكسيد الغموض، والمادة الواحدة فيه، أيّ مادة تقريباً، “يمكن” للسياسي أن يفسّرها على هواه. وهذا الغموض ذاته المكتنف للدستور، يطبع أيضاً مواد اتفاق الطائف الذي “عمّدوه” دستوراً هو الآخر. والقول إن تطبيق جملة مواد هذا “الاتفاق- الدستور” يشكل المسار الإنقاذي للبلد، ما هو إلا كتابة على الماء ولن يُجدي فتيلاً، إذ أن الغموض في النصوص يفتحها على تفسيرات شتى، متنوّعة وأحياناً متناقضة، ولن يكون مفيداً بالتالي لتحقيق الغاية من الأغنية الرسمية المكررة “دولة القانون والمؤسسات”. وفي المحصّلة فإننا نعيش في بلد لا قانون فيه.
وإلى الغموض، هناك “مدمّرٌ” إضافي يتمثّل في ما يسمّونه التوافق. ففي أربع أرجاء الدنيا يكون توافق المختلفين سلوكاً إيجابياً وبناءً، إلّا في لبنان اليوم. فهو يعني من دون مبالغة ولا مواربة توافق مجموعة سياسيي البلد الأساسيين جميعاً، على ناس البلد. لذا فالاختلافات المسماة عقائدية بين قيادات 8 آذار وقيادات 14 منه، ليست في واقعها العملي غير تمثيليات هزلية…مُبكية، يؤديها سوبرمانات الطوائف، جاهدين لتمريرها على عيون المواطن. هذا في حين أن ما أسماه عُلية قومنا بـ “الديمقراطية التوافقية” لا تعدو كونها بدعة تُلغي الديمقراطية من أساسها وتستبدلها بنمط وبيل من الفردانية الطوائفية. لذلك يصفها أربابها بالفرادة، وهي فعلاً فريدة في العالم.
وأكثر ما يتجلّى هذا التوجّه “التوافقي”، إنما يكون في ميدان تأليف الحكومات، منذ العمل بـ “دستور” الطائف على الأقل. ففي حين يقتضي النظام الديمقراطي تشكيل حكومة تمثّل الأكثرية وتجسّد الحُكم، تقابلها معارضة تتكوّن من الأقلية الباقية التي تنشط في متابعة عمل الحكومة ومراقبته وبالتالي كشف المخالفات والتعديات على القانون واستغلال الصِفة وتسخير المنصب لجني الفائدة الشخصية، والعمل على قطع دابرها، إلى ما هنالك مما تؤديه المعارضة من مهام وأدوار… فإن إصرار “القيّمين” الحُكّام على المناداة بحكومة توافقية والعمل من أجلها، مما يبيعوننا إياه على أنه “وطنية فائقة” من جهتهم، وإمعان في بذل التضحيات وإصلاح ذات بين المتخاصمين في البلد، لا يعني في الحقيقة والواقع سوى أنهم يبحثون عن توافقهم في ما بينهم كأوائل في طوائفهم، من أجل تقاسم جلد الدب بما يرضيهم جميعاً في الحُكم وفي “المعارضة”. هذا يضمن تعطيل الديمقراطية لصالح ما هو قائم اليوم من فوضى وتسيّب وإفلاس…، وبالتالي فهم يجعلون تفاهماتهم وتسوياتهم تحل عملياً محل القوانين والأنظمة. وبفضل ذلك يتسيّد الفساد وتحت إبطه النهب واختلاس الخزينة والهيمنة على نِسب غير قليلة من جِعالات المؤسسات الرسمية (ماء وكهرباء وجمارك…)، مع اعتماد تسمية مبتكرة وخدّاعة لكل ذلك هي “الهدر”، الأمر الذي يظنون أنه يُبرّئهم جميعاً، في حين أنه لا يُلغي حقيقة السرقات الموصوفة التي تنعش دويلات الطوائف، البديل العملاني المبتكر لدولة القانون والنظام.
والأكثر إثارة للأسى هو العمل الدؤوب على ثبيت زعماء الطوائف كممثلين حقيقيين ودائمين لناس البلد، وهذا لا يستقيم مع واقع هؤلاء المتزعّمين وثقلهم الجماهيري الحقيقي. أحد الأمثلة الصارخة على ذلك الزعم هو القول إن الحريري هو الأقوى في طائفته. الحريري وحده ولا أحد سواه. وهذا “ليس صحيحاً ولا دقيقاً”. والدليل نجده في أمور كثيرة من أبرزها الانتخابات النيابية الأخيرة. فهي أضاءت على العديد من الحقائق المتناقضة مع البروباغندا التي يديرها أبطال تضليل الرأي العام. ذلك أن الحريري حقّق في الانتخابات النيابية الأخيرة تراجعاً بيّناً في حصته النيابية (من 33 نائبا عام 2009 إلى 21 فقط في انتخابات 2018 ). يُضاف إلى ذلك، الجهد الذي بذله بعض حلفائه المحسوبين على 8 آذار حيث عملوا على دعمه في صناديق الاقتراع البيروتية بأصوات جمهور يمونون عليه وهو من غير السنة، فنجح ضعيفاً وبغير أصوات طائفته (التي هو الأقوى فيها!). ولا شك أنه هو نفسه علِم من ماكينته الانتخابية مقدار النسبة الضئيلة التي حصل عليها من أصوات سُنّة العاصمة، إضافة لخسارته المُدوية في معقل أساسي له هو سنّة طرابلس.
ولو قرأنا في مزامير جميع الحكومات التي قامت بعد “إنتهاء الحرب”، وكلّها حريرية بمعنى مباشر أو غير مباشر، لتبيّن لنا أنها لم تُقصِّر في دفع البلد دفعاً إلى حالته الراهنة شبه الميؤوس منها، من دون أن يرفّ رمش للسياسة ولا للعدالة… وحتى جريمة العمل على تحطيم لبنان عبر تفجير المرفأ، والتي غرقت التحقيقات فيها تحت سابع بحر، وجعلت وزيراً سابقاً للدفاع يبحث عن “واسطة” ما كي يتمكن من إيصال معلومات ثمينة لديه بخصوص الجريمة، مما لم يتحقق له مع المحقق العدلي المعزول (الذي لم يجد متهماً واحداً يستحقّ العقاب)، ليتمكن الوزير السابق أخيراً من تسليم معلوماته إلى المحقق الجديد. وهذا كلّه لم يحرّك حجراً في هذا البنيان العائب الذي هو جمهورية الفساد والنهب.
والمشكلة الأساسية هنا تتجلّى في جلد الشعب ــ الدب الذي يريدون الاستمرار في تقاسمه ولا يحسبون حساباً لخط الرجعة. فالجميع يعرفون الدب، لكن الدب لا يعرف أحداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى