هادي قبيسي | باحث في الشؤون الإقليمية
النقد والكلام عن المشكلات والثغرات في مجتمعنا هو مصدر لمعلومات العدو. وهذا أمر طبيعي، مثلما نتابع نحن ثغرات مجتمع الاحتلال الاستيطاني على أرض فلسطين المحتلة.
يأتي دور الأكاديمي الذي يقوم بالمسوحات الاجتماعية، في جمع تلك الثغرات واختيار بعضها للبحث، ويقوم بإرسال الطلاب، ابناء المنطقة التي يراد التركيز عليها (بيئة المقاومة)، للقيام بتحقيقات تفصيلية ومعمقة حول تلك الثغرات. وهذا عمل مشروع من الناحية القانونية، وهو يخدم الجهات التي يدور الباحث في فلكها وتقوم بالترويج لأعماله بطرق مختلفة، من مراكز دراسات، وجامعات، وجمعيات راعية للعناوين البحثية المختلفة.
وتزداد قيمة الباحث عند الجهات الاستعمارية كلما كان دقيقًا وموضوعيًا في التقصي عن نقاط القوة والضعف، لأن ذلك يتيح للمستعمر أن يقوم بعمليات استهداف فعالة ومجدية. هذه الموضوعية نفسها هي التي توفر الغطاء للباحث وتتيح له التحرك في البيئة المستهدفة، وهو بالتالي ليس مضطرًا للتعبير عن تموضعه السياسي والأيديولوجي تجاه تلك البيئة.
يمكن للباحث المبتدئ أن يؤخذ بمنهجية البحث الموضوعي “الحيادي”، لكن مع مرور الوقت، يتحول إلى صديق للمستعمر، الذي يقدم له التسويق الكافي وتقدير الذات (نظرًا للدونية الثقافية التي يعيشها)، ويعتبر أن انتقاد المستعمر/المعلم بعيد عن الموضوعية والواقعية، وهذا طبيعي نظرًا لارتباط ذلك الباحث مهنيًا وماليًا بالمنظومة الأكاديمية التي يديرها المحتل/المهيمن. ومع مرور المزيد من الوقت، يصبح هذا الباحث على دراية بأهداف وعداوات المستعمر، لكنه يعتبر أن ما يقوم به المعلم هو عملية تحديث، وفق نظرية التقدم الغربي، وغاية الأمر أن حركات التحرر تقف عقبة أمام تطوير المجتمع، ولذلك يعتبر الباحث أن عمله في مواجهة حالة تحررية، هو مساهمة في تطوير المجتمع، طبعًا المجتمع نفسه الذي تعمل الجهة، التي تمول دراسات هذا الباحث، على استئصاله وتمول الحروب الصهيونية عليه طوال أربعة عقود.
بعض الباحثين يتحركون في ظل هذه البيئة في نطاق رمادي، ليحافظوا على وصولهم إلى دائرة الشهرة الغربية، وتبقى الأضواء مسلطة عليهم، وعلى وصولهم إلى البيئة التي يدرسونها. تستفيد المجتمعات المحلية من الموضوعية البحثية في الإضاءة على مشاكلها. هذا أمر إضافي. وكذلك تستفيد عبر تحسين الصورة عنها مقابل الدعاية السوداء التي تمولها الدول الغربية وحلفاؤها الإقليميون تجاه حالات التحرر، وهذا أمر إيجابي. لكن هذه الإشارات الإيجابية لا تتحول إلى التيار الرئيسي في الإعلام، بل تبقى هامشية دون أي أثر في الإعلام الغربي، بل على العكس، مع امتداد العقود والسنين، تزداد الدعاية الغربية شراسة مع تقدم حركات التحرر، وتبقى اللغة الموضوعية في الأبحاث محصورة الفائدة، وهذا أمر طبيعي، لأن الذي يقبل أن تمول الأبحاث وتنشر في مؤسساته مقابل بدلات مالية خيالية، وهي تتضمن إشارات إيجابية لأعدائه الشرقيين المتخلفين، يدرك تمامًا أين يضع التمويل الكافي لطمس هذه الإشارات وسحقها.
تبقى هذه الفوائد الإيجابية، الناتجة من لعبة الموضوعية، أقل بكثير من الفوائد التي يجنيها المستعمر من خلال عمليات التحقيق المعمق في نقاط ضعف البيئات الاجتماعية التي ينوي استئصالها وتدميرها عسكريًا أو عبر الطرق السياسية، ولذلك تكون للباحث الموضوعي مساحته المحفوظة، ويتم تقديم تلك المساحة كدليل على تسامح الغرب وعدم عدائيته، ويستفاد من هذا العرض المسرحي، لاستقطاب المزيد من الباحثين الشباب إلى هذه اللعبة.
مع تراجع احتمالات نجاح الحرب العسكرية تجاه حالات التحرر في غرب آسيا، تنال الحروب من المستوى السياسي/الاقتصادي أهمية متزايدة، وبذلك تصبح للباحث “الموضوعي” أهمية مضاعفة، فهو الراصد الذي يتم توجيهه، سواءٌ كان مؤيدًا لتلك الحروب أو ناقدًا أو معاديًا لها، لتحصيل الأهداف القابلة للقصف في البيئة الاجتماعية.
في السياق العام، وفي المدى البعيد، لقد مارس الغرب لعبة الموضوعية مع الباحثين المحليين لمدة طويلة. سبق ذلك عمل المستشرقين والباحثين الغربيين في بلادنا وسائر البلاد المستضعفة. ونتيجة كل هذه الأبحاث الهائلة لم يحصل أي تقدم.
لقد عمل الغرب بشكل ممنهج على تدمير اقتصادنا بالشراكة الحتمية الوحيدة مع الفاسدين، وعمل على تدمير البنى الحضرية عبر الحروب المستمرة، ويعمل الآن على تخريب ثقافتنا التي بقيت صامدة وهزمت حروبه المتنوعة.
اختلاط المهني/المالي/الموضوعي مع الشهرة والدونية الثقافية هو داء عضال يصيب النخب التي تعيش تحت خط الهيمنة. لكن يمكن لتلك النخب أن تلعب دورًا إيجابيًا لصالح بيئتها، عوضًا عن تقديم الخدمات للمستعمر في نطاق مهني/موضوعي، بأن تتعمق، كما فعل كثيرون، في فهم منظومة الاستعمار المعرفي، والعودة إلى مجتمعاتها وبيئة النظراء الأكاديميين، لتخوض معركة التحرر العلمي والمنهجي، وتكافح لدعم صمود مجتمعاتها واستمرارية حالة التحرر فيها.