محمد زكريا عباس | كاتب لبناني .
أصحاب الفكر لا يموتون. هم كالشهداء، أحياء في عقول ووجدان الأمة. ولا نبالغ إذا ما اعتبرنا أن الكثير منهم يولدون حين رحيلهم عن هذه الدنيا. لعلّ موتهم يهزّ عقل الانسان وقلبه، ويدفعه إلى البحث واصلاح النفس وتطويرها والسير على خطى الراحلين العظماء، كبعض وفاء لهم.
لن أتكلم في هذا المقال عن شخصية وحياة أنيس النقاش الثورية والنضالية، وعن أسفاره وبطولاته وعنفوانه بين بيروت وفيينا وطهران وباريس وسوريا، فهو الثائر والمفكّر الأممي العابر للحدود التي اصطنعتها دول الاستعمار تبعا لمصالحها وأطماعها وانسجاما مع سياساتها العدوانية.
لا بد أن يتحوّل فكر الأممي أنيس إلى مدرسة نستلهم منها الكثير من النظريات وأسس ومنهجية التفكير، والتحليل المبني على الواقعية المنطقية المستندة على المعرفة والدقّة وسعة الاطلاع، وقبل كل ذلك على اليقين والثقة بالله كما كان.
لقد كان أنيس النقاش مجبولًا باليقين، ومن شدة يقينه يحدّثك كأنّه عالِمٌ بالغيب، أو هناك ملاكٌ يتمتمُ له في أذنه بما يتحدّث. وهذا ما جعل العديد من متابعينه يضعونه في مقام المُبالغين من أجل رفع معنويات بيئة محور المقاومة، إلّا أنه في كل خطاباته ومحاضراته كان يعي جيدا ما يقول، وعلى ماذا يستند. فدائما يجب أن لا يفسد الخلاف في الودّ قضيّة.
“منذ اجتياح آذار 1978 بدأْتُ عملية الانتقال إلى مرحلة بناء المقاومة الاسلامية في لبنان” . هكذا عبّر المفكّر الأممي في إحدى مقابلاته الصحافية مع صقر أبو فخر(في كتاب أنيس النقاش، أسرار خلف الستار). كما يكشف أنه توقع الحرب الأهلية في لبنان. وتنبأ من سجنه في فرنسا خلال شتاء 1981 بفرضية اجتياح لبنان من قبل العدو الاسرائيلي، وذلك عبر رسالة أرسلها لمركز التخطيط في منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، وتم توثيقها لدى وزارة الخارجية الفرنسية. لقد كان أنيس نافذ البصيرة منذ صغره. وهذا ما جعله يلتقي بعماد مغنية وقاسم سليماني ويواصلوا الدرب سويّا.
وفي إطار التعرّف على بعض من بصيرته وفكره، سأذكر بعض أفكاره وتوصياته علّها ترافقنا في نضالنا ومقاومتنا حتى تحرير فلسطين وقيام دولة العدل العالمية. يقول أنيس، الثائر الأممي:
أولا: “إن الظاهرة الثورية تتوالد، وهي بوجودها تكشف أن العدل غائب في العالم”.
ثانيا: “فكرة محاربة الارهاب جوهرها أن الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تحارب القوى الثورية في العالم”.
ثالثًا: “المطلوب دائما هو تجديد العمل الثوري، والاستفادة من التجارب السابقة. وأي عمل ثوري يجب أن ينطلق من صدقية الشعار والمبدأ فحسب. وأقول: ما دامت شعلة الثورة العالمية مستمرة، فلا أعتقد أن الظلم والظالمين سيرتاحون”.
رابعا: “أخطر ما يمكن أن تواجهه الثورة، أو أي عمل ثوري هو الغرق في تناقضات ثانوية وفي معارك ليست لها أهمية، وأن ينسى المناضلون التناقضات الرئيسية”.
خامسا: “أكثر ما يضايقني هو قلة الفاعلية أو انعدامها، أي من يقول ولا يفعل، لأن أي قول، لكي يكون ذا أثر، يجب أن يقترن بالعمل المباشر، وإلا يصبح كلاما وتنظيرا فقط. وخاصة في مثل قضايا الدفاع عن العدالة والحرية والمستضعفين”.
سادسًا: “إن الظروف الموضوعية هي الأقوى دائما من الظروف الذاتية. أي إن الإنسان جزء من آلة كبيرة، ربما تستفيق على فكرة اليوم وتكون السبّاق إليها والرائد فيها. لكن عدم تنفيذك الفكرة لا يعني أن الفكرة لن تنبثق في مكان آخر من هذا العالم”.
سابعًا: “أشكال النضال تتغير، والخريطة الجغرافية والجيو سياسية تتغير. والأدوات السياسية تتغير والشعارات تتبدل، لكن جوهر الصراع هو نفسه”.
يقول أنيس النقاش الأممي الذي كان رائد فكرة تأسيس مشروع”الحرس الثوري الايراني” لحماية الثورة من الانقلابات، أنه طبّق في حياته ما تعلّمه من أساتذته، فهو المتواضع الذي يقرّ لهم بالعرفان والجميل عليه. لقد تعلّم منهم –حسب تصريحه- أن يكون دائما مع الشعب، وأن لا يغرق خلال التحليل في المعلومات فيكون التحليل مقتصرا على جهة واحدة من دون البعد السياسي والبعد الجيو-استراتيجي للمسألة. وأن لا يغرق في النظرية فيكون منظرًا بلا وقائع، فالتحليل يجب أن يكون مبني على النظرية والمعلومات. كما تعلّم كيف يجمع أناس ذو ميول مختلفة حول فلسطين.
في إحدى المرات سُأل أنيس النقاش “متى ستذهب إلى فلسطين”، فأجاب: “في أقرب فرصة تسمح لنا فيها الأحوال.. في أي لحظة أتمكن من الدخول إلى أرض فلسطين سأدخل”. يبدو أنه هذه هي “الرواية التي ما تمّت” بحضورك الجسدي، لكن حتما أنت ستكون حاضر في روح كل من ستطأ قدمه أرض فلسطين فاتحًا لها، من دمشق وصعدة وطهران وبغداد والبحرين وجنوب لبنان، و من كل بقعة مقاومة في هذه الأرض بوصلتها فلسطين.
السلام عليك أيها الشهيد العارف المتيقِّظ غير الغافل؛ كنت في مقاومتك ونضالك وفكرك وبصيرتك ويقينك مصداق الآية القرآنية، “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ”.