محمود بري | كاتب وباحث لبناني
لم أعرف ما الذي كان يجري حقاً خارج هذا الهلع الذي التهم الشارع سريعاً مع عودته بعد طول غياب. وجدتني محشوراً على حين غرّة في تلك الزاوية العميقة بين جدارين، و سط جمع من المذعورين. لعلعة الرصاص بدت بذيئة في ذلك النهار، كما لو كانت صيحات زعران يشتمون بمكبرات الصوت. لم أعلم أنها حرب… وأنهم قنّاصون، وأننا أهداف، إلا بعد ان راح مشهد الدم يبلل تلك المساحة المكشوفة أمامنا من الشارع، ورجال يركضون بخطوات فوضوية في كل اتجاه وسط غابات من الخوف والذهول. لا أعتقد أن أحداً في تلك الثواني الثقيلة، استطاع أن يصدّق حقيقة ما يراه أمامه، لا أنا ولا الآخرين. وحدها تلك الأجساد المنتفضة غير بعيد منّا، على الزفت، مثل عصافير مذبوحة، كانت الصلة الوحيدة لنا بالحياة… شعرتُ أن حياتي تتسلل كالرمل من بين جمع من موتى مُفترضين يتمترس كلٌ منا بالذين من حوله.
لم أجد طريقة ممكنة للخروج من علبة الموت هذه، وكان جهلي هذا هو الذي أنقذ حياتي. أحد الشبان من الجمع، تجرّأ وتقدّم خطوتين خارج الزاوية، خطوتين كانتا الأكثر حذراً في حياته على ما أعتقد. وخلال لحظات كان الجميع، وأنا معهم، منشغلين بسحب الجسم المُدمّى نحونا مبللاً بأحمر غزير وجرح غائر.
الأمر جدّي إذن، فكّرت بصوتٍ مسموع. تزاحمت في جبيني أسئلة كثيرة ومخاوف غريبة راحت تنهش كياني مثل ذئاب حكايا الأطفال المُفزعة. أنا المقاتل (السابق ــ كأيّ لبناني) وكنتُ أظنني شُفيتُ من إدمان الجنون والمغامرة. ومن دون أن أنتبه، قفز الصحافي المُرتدي ثيابي واندفع يحاول الركض خلف تساؤلاته. كانت القبضات قاسية وهي تجذبني إلى الخلف لمنعي من اقتحام الخطوتين نحو شارع الموت. لم أكن أعرف أحداً من هؤلاء الذين امسكوا بي ولم يتركوني، لكن وجوههم كانت عميقة الجذور ومألوفة كوجوه أصدقاء.. لم أتعرّف بهم من قبل. جميعنا كنّا نتقاسم وجبة الحذر والمخاوف وأصبحنا بذلك رفاق نجاة، ومعنا مُخضّبٌ بالدم لا نعرف كيف ننقذ حياته، وقد سقطنا حيارى مثل صراصير مُرتعبة في سروال مدينة لم تغتسل بعد من حروبها السابقة.
وكما يفعل البشر غالباً، راح الذين حولي يتحدثون…كلّنا في آن واحد، “نتبادلون” الأسئلة المستحيل الإجابة عنها، ونحاول استيعاب هذه الرؤية الثقيلة لواقع عصي على الفهم.
لماذا؟
كان هذا هو السؤال المفتاح الذي لم نعثر له على قفل لنجيبه.
لا أعرف كيف مضى الوقت وكيف خرجنا من الزاوية العميقة بين شلّة كبيرة من الجنود المُدججين بالعصبية والحذر. وحين أصبحنا على المقلب الآخر من تلك الحرب، استعاد المرقطون تعابيرهم التقليدية وتلك البسمات التي تعبّر عن الرضا.
في المساء، وعلى أريكتي المعتادة أمام شاشة اللاب، راحت نشرات الأخبار تطرق تجربتي الطازجة بالأكاذيب الوقحة. شاهدتُ الزعيم اللعين أنيقاً وقد ظهر يرتدي أحدث جرائمه. تحدّث مليّاً بادعاءات ومزاعم ملؤها الخسة والدناءة. ربما لم يعلم بانني كنت محشوراً في تلك الزاوية العميقة حين شاهدتُ دمي على الزفت. ربما لم يهتم البتّة بمعاينة حوضُ أحزاني الذي كان يفيض جرّاء رحيل هذه الوجوه الندية التي فقدتها، وأنا لم أكن أعرف أصحابها أبداً. ربما لم يكن ليهتم بمقدار سخطي على فوضاه وعنفه وتعصّبه ووحشيته، ومافيات النهب التي يديرها، لكنه من دون أدنى شك، كان يعلم ما ارتكبت يداه، ولم يشعر بأي أثر لضميره الذي لم يولد معه، لذلك مضى يؤكّد بانسياب “ذات الأجراس” انه سيكرر فعلها… وأن لا مانع عنده من تكرارها.
…أعلم أن دولتنا منخورة، وأن معظم رؤوسها خاوية. لكن، أليس في البلد دركي وقاضٍ… وكسرة عدالة!
ليست سابقة بالنسبة إليه. لطالما فعلها ولطالما ارتكب. وطالما ثمّة دولة وشاشة وجريدة يمكن لها كلّها أن تبيع وجهها وقلبها للشيطان، فلن تقوم لبلدي قيامة.