الطريق إلى السراي لا تمرّ بأنقرة
غسان سعود | كاتب سياسي لبناني
عشية المصالحة السعودية – السورية في العام 2008، طلبت السعودية من رئيس الحكومة اللبنانية السابق والمكلف حالياً بتشكيلها سعد الحريري أن يظهر حسن نياته تجاه دمشق، لكنه تمنّع. كرَّرت الطلب فتجاهله. فجأة، رنَّ هاتف رئيس ما يعرف بـ”التيار العربي”، شاكر البرجاوي، ليبلغه المتصل بأنه من السفارة السعودية، وأن السفير يودّ دعوته إلى السّفارة للتعارف.
تأكد البرجاوي أنه ليس ضحية مقلب من أحد الأصدقاء، ثم توجه في الموعد المحدد إلى السفارة، ليجد السفير في انتظاره في موقف السيارات، فترافقا إلى الداخل: السفير السعودي والبرجاوي، بكل ما راكمه الأخير في حياته من تجارب سياسية مستفزة جداً للسعودية من أيام جمال عبد الناصر إلى أيام بشار الأسد.
وما كاد فنجان الشاي يصل، حتى أسرَّ السفير لضيفه بأنَّ السعودية ترى فيه مستقبلاً واعداً يستحق الدعم، وأنه ينتظر منه إعداد تصور بهذا الشأن، فحمل البرجاوي كومة الأحلام التي حاول السفير أن يزرعها في رأسه وغادر. أما السفير، فسارع إلى تسريب محضر الاجتماع، مبهراً ومملحاً بشأن الاستثمار السعودي البيروتي السياسي الجديد.
هكذا أقلعت سيارة الحريري على عجل باتجاه قصر الرئاسة السورية، لتنهي السفارة السعودية على عجل أيضاً علاقتها بالبرجاوي. ورغم ذلك، بقيت الرسالة عالقة بوضوح في رأس الحريري: في لحظة التسويات الكبرى، كما في لحظة الصدامات الكبرى، يمكن لأي كان أن يحل محل أي كان، ولا يوجد أحد في السياسة، كما في جميع القطاعات الأخرى، ليس له بديل. وإذا كانت حكومة حسان دياب قد انتقلت من إنجاز “عدم الاستمرار في الدفع” للدائنين إلى التدقيق الجنائي، فإن انفجار بيروت مثّل الفرصة الاستثنائية غير المحسوبة بالنسبة إلى الحريري للعودة إلى السراي. وما كاد يشاهد الرئيس نجيب ميقاتي يعد أوراق اعتماده التقليدية، حتى هرع ليوقف استنزاف الأعصاب ويضع ورقة التكليف في جيبه.
ما فعله الحريري يومها كان ذكياً جداً: هجم نحو التكليف على وقع تسريبات من ماكينته بأنه حصل على ضوء أخضر خليجي – أميركي للعودة إلى السلطة، فيما لم يكن هناك في الواقع أي بصيص ضوء في نفق العلاقة الحريرية – السعودية. ولما كان الفيتو السعوديّ – الأميركيّ ثابتاً، فقد ثبتت كتلة القوات اللبنانية بالحزبيين وغير الحزبيين على عدم تكليف الحريري، فما كان منه سوى الاتصال برئيس كتلة الحزب السوري القومي الاجتماعي النائب أسعد حردان ليستأذنه تكليفه، متعهداً برد الجميل القومي عبر منحهم حقيبة وزارية.
هذا ليس تفصيلاً عادياً، فالقومي لا يمكن أن يسمي الحريري من دون تشاور مع القيادة السورية. وحين يستأذن الحريري الحزب القومي ليؤمن له نصاب التكليف، فإنه يعود إلى رئاسة الحكومة من بوابة دمشق. وهكذا كان، بعيداً من أنظار اللبنانيين طبعاً، لكن ليس أنظار الخليجيين والأميركيين.
وضع التكليف في جيبه وانكفأ، فالتأليف صعب: التأليف مشروع أزمة مع الولايات المتحدة والسعودية إذا ضمت الحكومة وزراء لحزب الله، ومشروع صدام جديد مع المجتمع المدني الذي لن يجد هذه المرة سياسياً غيره في الحكومة. التأليف سيفضح عجزه عن تمرير إصلاح واحد من الإصلاحات الفرنسية، لأن المجالس والهيئات والصناديق إنما هي مجالسه وهيئاته وصناديقه، وحاكم المصرف المركزي صديقه. كيف يؤلف وهو يعلم أن رئيس الجمهورية الذي يفترض أن يشاركه التأليف لم يشعر بحياته بالخذلان والخيبة وقلة الوفاء وصولاً إلى حد الكره تجاه أحد كما يشعر تجاهه!
تمكن سعد من تمرير التكليف، لكن التأليف شيء آخر: أزمة الثقة المعلنة هي بينه وبين الرئيس عون. أما غير المعلنة فهي بينه وبين كل من (1) واشنطن، (2) وباريس، (3) والرياض، (4) ودمشق، (5) والرئيس نبيه بري، (6) والمعارضة السنية الممثلة في مجلس النواب، (7) والقوات اللبنانية، (8) ووليد جنبلاط، (9) وطلال أرسلان، (10) والجماعة الإسلامية، (11) وأيتام 14 آذار الذين تخلى عنهم قبل أعوام، (12) ومجموعات المجتمع المدني المختلفة. باستثناء حزب الله، لا يوجد فريق واحد محلي أو إقليمي أو دولي يثق بسعد الحريري.
أميركياً، تذهب إدارة وتأتي أخرى فيما يبقى بعض الموظفين الثابتين، مثل وكيل وزير الخارجية دايفيد هيل الذي يعول الحريري عليه اليوم، لكن الأساس في واشنطن ليس رأي هيل، إنما ذلك الجدول التقييمي الخاص بالسياسيين والضباط والقضاة والإعلاميين في كل بلد، وهو يُعرِف عن الحريري بأسوأ تصنيف ممكن، لجهة الجبن والتردد والفشل وعدم إمكانية الاتكال عليه. هذا ثابت كما يعد ثابتاً أن ما من أحد يجرؤ على ذكر اسمه أمام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ولا سبيل أبداً في الأفق لعودة المياه إلى مجاريها بينه وبين السعودية. أما الدور الإماراتي، فيقتصر هنا على الحد من خسائر محورهم، في انتظار نضوج البديل.
الأبواب جميعها مقفلة في وجهه. يزور الإمارات كسائح، ولا يقدر أحد على منحه التطمينات اللازمة ليزور السعودية، ولو كسائح أيضاً. يطلب الحريري موعداً من الرئاسة التركية. تؤكد المعلومات أن ذلك كان قبيل تكليفه بتشكيل الحكومة. مر أكثر من 75 يوماً إذاً قبل إعطائه موعداً. هل كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مشغولاً إلى هذا الحد؟ لا طبعاً، لكن لماذا تستثمر تركيا في شخصية سياسية لبنانية تستفز ولي العهد السعودي بشكل كبير أولاً، وإذا خيرت هذه الشخصية ثانياً بين تركيا والسعودية فستختار الأخيرة حتماً؟
لو كان ثمة حماسة تركية تجاه الحريري، لعبّرت عنها خلال العامين الماضيين، سواء تركيا أو قطر، لكن لا أبداً. التقييم التركي للحريري لا يختلف عن التقييم الأميركي الفرنسي السعودي الإماراتي السوري: “لا يُعول عليه”، مع التأكيد دائماً أن التركي أكثر تعقيداً وتدقيقاً ومتابعةً بكثير ممن اعتاد الحريري التعامل معهم، وإذا كان خداع أولئك صعباً، فإن التحايل على التركيّ مستحيل.
هكذا أعطي الموعد لرفع العتب فقط ومن أجل تلك الصورة: يضيفها إردوغان إلى ألبوماته، ليلفت نظر من يعنيهم الأمر إلى أنه قادر، ولكن لا يريد. يريدها سعد ورقة ابتزاز للسعوديين، فيما يريدها إردوغان ورقة انفتاح عليهم. أما أوضاع سعد القانونية والمالية في إسطنبول، فذلك ملف آخر يلزمه بأن يُسلّف التركي أكثر، وخصوصاً أن الرئيس التركي ليس ممن يفصلون العمل الخيري الإنساني عن العمل السياسي.
هل تتأثر مسارات التأليف إيجاباً بزيارة الحريري لأنقرة؟ لا أبداً. لا يمكن إيجاد أية إيجابية تربط بين تأليف الحكومة وصورة الحريري على مائدة إردوغان. نجح الحريري في انتزاع التكليف على مضض من رئيس الجمهورية، لكنه لن يتمكّن من انتزاع التأليف بالطريقة نفسها. وإذا كان للتكليف ألف ممر وممر، فإن للتأليف ممراً واحداً: بعبدا أقرب إلى بيروت من أنقرة ودمشق والرياض وباريس وواشنطن.
الميادين نت
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي ” المراقب ” وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً