محمود بري | كاتب وباحث لبناني
كان ينقص اللبناني المزيد من التمرّس في معاناة تشكيل الحكومات، لكي يكتشف ويفهم الأزمة الأساس التي تضرب حياته، بدءاً من السياسة إلى كل ما يتفرّع عنها من مشاكل ومطبّات تزيد تعقيدات الحياة في بلد يعيش آخر أيامه.
الأزمة أصبحت سِمة واضحة وثابتة تتواصل وتتفاقم ولا يفيد في معالجتها لا أسبرين وأد الفتنة ولا مراهم السلم الأهلي، وهي العلاجات الوحيدة التي يعتمدها سياسيو المرحلة المتواصلون منذ “الأمير علّاقة”.
لذا فالفتنة التي يجسّدها الرسميون وكلابهم، يعملون بدأب على وأدها بتثبيتها في كل تفصيل وخلف كل منعطف، ويُهيّئون لها الفرص لتتجلّى على زعم أنها (أي الفتنة) السبيل الاجباري لاستعادة حقوق هذا القوم أو ذاك.
ولا غرابة في سلوك رجال السلطة، فهم قبضوا لتكريسها “اتفاقاً” بينما هي نوع رديء من الإملاء الإجباري، ثم لقبّوها دستوراً بكل استخفاف بالدستور، وما هي في حقيقتها غير… إلية ضبّ صحراوي مسمومة حملوها إلينا من مضارب ذلك البدوي اللعين.
لذلك… ولأسباب أخرى مما تبيّن ويتبيّن كل يوم، من الواجب التصدّي مباشرة لهذا الداء المُعيق ومعالجته من دون تحايل ولا سفسطة، بعيداً عن أساليب الزعبرة التي يعتمدها القادة والزعماء الذين يتكررون في النكبات وفي كل عصر كنجم مُذنّب في السماء. وهم برعوا في خيمياء السمكرة الشوارعية، فاستغلوا بياض قلوب المناصرين لكي يعتمروا ألقاب “صمّامات أمان” البلد، وجعلوا من أنفسهم وأعوانهم “مواسير” الحكم و”حنفيات” الوزارات ومفاصل الإدارات والفيش ــ الحرامي للشبكات المالية. وهنا بيت القصيد.
ولا بد من استدراك. إن تخلّي الرئيس الحريري عن حلم تشكيل الحكومة التي تُبقيه على قيد “الحياة السياسية”، لم يكن نوعاً فيتنامياً من الفداء والتضحية في سبيل الوطن (بعد تسع أشهر عُظمى من الخيانة)، بل كان المهرب الإكراهي الذي ألزمته به القوى المُشغّلة بعد أن غضبت عليه فطردته، وتعلّم ألّا يُشكل حكومة من دون مباركتها وتأييدها والالتزام حرفياً بأجندتها، وإلا ركبته اللعنة كما حصل مع المرحوم الوالد.
بالدم والألم تعلّم سعد الحريري درسه في السياسة البلدية، وبنى بفعل هذه التجربة الفظيعة قناعة محددة وثابتة لا يجرؤ أن يحيد عنها، لا سيّما وقد رأى ورأينا جميعاً الثمن الباهظ للخروج على الحدود المرسومة.
ولعلها القناعة ذاتها التي عنونت تجربة المرحوم الوالد، وربما كانت السبب الحقيقي لاغتياله العنيف… بصرف الاهتمام عمّا قيل غير ذلك.
رفيق الحريري دفع ثمن خطأ ما، لا يعرفه إلا هو وهم، والبعض من حرسه القديم التقط الشيفرة، وأدرك في لحظة تجلٍّ أن أيّ معارضة يبديها في وجه القوة العاتية، ستكون بمثابة شرب السمّ للتجربة، فانقلب على ما كان كي يتجنب “النوم بين القبور، ومعاناة المنامات الوِحشة”.
هكذا التقت التيارات الحارة والباردة في محيط السياسة البلدية، وتحالف المتخاصمون على المنابر ليقفوا صفّاً واحداً في مواجهة الذين جاءوا بهم إلى قمة الزعامة.
وهذه ظاهرة تحت بشرية يتفرّد فيها النظام اللبناني. وبعد ذوبان جليد القطب، ظهر أن الأزمة الحقيقية ليست في بيت الحريري كما يفضّل بعض المغالين في استثمار الخصام، بل هي في ذلك النصّ الذي سمّوه اتفاقاً ثم دستروه… ليتضح من مجريات الأمور أنه رسم لضرب النظام اللبناني الأساسي الذي كان، وإحلال صيغة بديلة له، مختلفة عنه بقدر كان كافياً لتفجير كل المشاكل التي هبّت في وجه الحُكم والحكومة وبالتالي بين مختلف وجميع “الأقليات اللبنانية” التي يتشكّل منها هذا “الشعب ــ المازة”، والتي تستنبت في رؤوس زعاماتها الكثير من الخس المرّ…
ولا حاجة لإضاعة الوقت في تسريب الاتهامات، تارة بالقول إن الاتفاق لم يتم تطبيقه بكل مواده، و/أو إن ما جرى تطبيقه منه، لم يُطُبّق بالطريقة السليمة. فهذا كان المطلوب أساساً. والقوى المحلية المشرفة على التطبيق لم تكن تتصرف بشذوذ بل بأوامر صريحة من خارج تستقوي به.
وحتى الولايات المتحدة أو فرنسا، لم تكونا مستعدتين لمخاصمة نواطير البترول إكراماً للحق والخير والجمال، أو دفاعاً عن مصالح لبنان واللبنانيين.
إن صيغة تفجير لبنان من الداخل هي بالذات ما زرعه الطائف في البلد تحت قناع “إتفاق” وقّعوا عليه (عتم) في تلك المدينة الكالحة، بعد أن نال كلُ واحد منهم نصيبه من الكرم والخير.
لذلك فالحل، إن كان ثمة من يسأل عن حلّ، فلن يكون… إلا على حساب “اتفاق الطائف” بالذات، بمعنى القفز على رأسه ودقّ عنقه. ذلك أن أزمة النظام اللبناني تفاقمت إلى أقصاها حتى باتت تنخر الكيان بفعل هذا الاتفاق- الدستور. ولا أفق إيجابياً ممكناً من غير بناء نص آخر مختلف يقوم عليه نظام بديل يكون مناسباً للبلد… قبل أن ينتهي البلد ويختفي ويغيب في جوهر النفق الذي أشرف على ثقبه الأسود.
وهذا يتطلّب رجال دولة… بينما المتوفر لدينا رؤساء عصابات وزعماء مافيات.
لذلك فالحل ليس ممكناً ولا مستحيلاً.