الدكتور عدنان منصور | وزير الخارجية اللبناني الأسبق
لم يبق في لبنان مرفق إلا ودخل فيه وباء السوق السوداء، الذي بدأ يضرب ويقوّض بالصميم الأمن الحياتي، والمعيشي والخدمي للمواطن اللبناني، ويضعه ويضع البلد كله على حافة الانفجار والتآكل الداخلي، بكلّ أخطاره الذي يطيح بالكيان اللبناني من جذوره، ويضع الشعب على طريق الفوضى والفلتان الذي لا أحد يعرف مداه وتداعياته ونتائجه المدمّرة.
عصابات ولصوص ومافيات تتحرك على عيونكم، يا حكام، ويا زعماء، ويا وزراء، ويا نواب، ويا مسؤولين! وباء السوق السوداء قضى على حاجيات المواطن الحياتية الرئيسة، مثل الدواء، والبنزين والمازوت، والغاز، والماء، واللحوم، والمواد الغذائية، والمولدات الكهربائية، ووو…
ما يُكتشف كلّ يوم من المواد المخزّنة هو القليل القليل مما يُخزّن في دهاليز هذا البلد المنكوب بالفجرة من التجار ذوي الضمائر الميتة السوداء، ومن الجهات الخفية العميقة التي تغطيهم وتستفيد من خلالهم، وهي جهات أصبحت مكشوفة للعلن. كيف يمكن لمؤسسات رسمية، كالبلديات مثلاً يوزع عليها حصصها من المازوت بالسعر الرسمي، وهناك من يفرض عليها بيعه كمية من حصتها بالسعر الذي اشترته، ليقوم في ما بعد بتخزين هذه الكمية في خزاناته المخفية تحت الأرض، ليبيعها لاحقاً في السوق السوداء. وفي حال رفضت المؤسسات التخلي عن كمية من حصتها، فما عليها الا أن ترضخ لقرار الجهة التي تحصر فيها تاريخ التسليم. وهو تاريخ يخضع للابتزاز وقد يطول حتماً، لفرض الضغوط، حتى تجد المؤسسة نفسها أن لا مفرّ من العودة الى شروط الجهة الخفية.
هذا الأمر ينطبق أيضاً على البنزين والغاز وعلى مواد وسلع أخرى حيوية للمواطن. فمن هم الذين يتغطون وراء السوق السوداء، ومحركيها وموجهيها، والمستفيدين منها؟!
هل تكفي المداهمات من آن الى آخر، لمواد أو سلع أو محروقات أو أدوية مخزنة بصورة غير شرعية وضد القانون، في هذه المدينة أو المنطقة، في هذه المحافظة او تلك، ومصادرة البضائع المخزنة، وإقفال المستودعات بالشمع الأحمر، ليترك سبيل المجرم المتاجر بحياة المواطن وعيشه ورزقه، بإشارة أو هاتف من هذا المسؤول أو ذاك، وهو الشريك الخفي في الجريمة؟!
ففي كل مرة تداهم فيها «السلطات» أوكاراً يُخزن فيها مجرم قاتل، الأدوية، والسلع الغذائية. الفاسدة، والمنتهية الصلاحية، او المحروقات على أنواعها، نجده في نهاية الأمر، بقدرة قادر، يخرج طليقاً، يصدر بحقه صك براءة، يفيد أنه كان يقوم بعمله وفقاً للأصول، ولم يخالف بتاتاً القانون، ولم يخرج عن الضوابط والأصول والقواعد المرعية. بذلك يصبح المجرم القاتل مظلوماً، جرى التحامل عليه، فيما السلطة «تسرّعت» في قرارها بحقه و»ظلمته»، وشوّهت صورته «الناصعة».
لذلك، من حقه بعد ذلك، الادّعاء عليها، لتحصيل ما تبقى له من «ضمير» و»شرف» و»إنسانية» تركها مخزنة في مستودعاته ومخازنه، بانتظار بيعها وتصريفها في الوقت الذي يناسبه. هكذا تخرج السلطة متهمة، والمجرم المحتكر القاتل بريئاً!
هل من أحد في هذا البلد يعرف عما آلت اليه التحقيقات مع الذين خزنوا وباعوا اللحوم والأسماك الفاسدة، والذين تاجروا بالأدوية المنتهية الصلاحية، وغيّروا تواريخها! والذين تلاعبوا على منصات الصيرفة، وعززوا من طغيان السوق السوداء على حساب العملة الوطنية، وغيرها من التحقيقات حول عشرات الملفات السوداء التي يندى لها الجبين…
أين هم الآن تجار السوق السوداء، والمخزنون للسلع خلافاً للقانون، والمواد الفاسدة والذين أوقفوا لإجراء التحقيقات معهم! وما هي الأحكام التي صدرت بحقهم، وهل هناك واحد منهم داخل السجن !
المواطن اللبناني، يعرف جيداً من يدعم ويحرك دولة السوق السوداء ويقف خلفها، ومن هم المستفيدون منها! كما يعرف أيضاً تفاصيلها وما يدور حولها، مثل ما يعرف غيره من أبناء هذا الشعب المسحوق.
يعلم المواطن من هو الموجه، الكبير والصغير، النافذ، والمستفيد، الحامي والراعي، المخزن والموزع، البائع والشاري. يعرف أنّ مافيا عميقة من عصابات المحتكرين، متجذرة متكاملة، بكامل أوصافها وأدوارها ومنافعها، تقودها طغمة مفسدة في الأرض، أوصلت البلد والشعب الى ما هو عليه اليوم من بؤس وذلّ وقهر وفقر.
يا حماة ورعاة السوق السوداء الظاهرين والمستترين، متى تتوقفون عن نهمكم، وطمعكم، وفجوركم، وجشعكم!! متى ستتحرك فيكم ذرة من النخوة، والضمير، والشرف، والحسّ الإنساني، وترحموا المواطن الذي خنقتموه وقتلتموه!
إلى المواطن اللبناني نقول: لقد رفعت عنك الطبقة الحاكمة المستغلة، وما فيها من زعماء ومسؤولين وسياسيين، كافة أنواع الدعم الحيوي. وأنت من الآن فصاعداً أمام مسؤوليتك الوطنية، لتتخذ قرارك الحر، وهو أن ترفع دعمك بالكامل عن هذه الطبقة المستبدّة التي أفقرتك وأذلّتك، ومرّغت كرامتك وأنفك في التراب.
لا تغفر لهؤلاء المجرمين الذين قتلوك، وجوّعوك، وهجّروك، وأفقروك ونهبوك! كرامتك ووطنيتك تستدعي منك عدم نسيان ما فعلوه بحقك، وحق أسرتك وأطفالك، وحق شعبك ووطنك.
ليكن حسابك معهم بعد أشهر في صناديق الاقتراع، (هذا إنْ حصل), ولا تغرّنك حينئذ شعاراتهم الطنانة، وخطاباتهم المنافقة، ولا تصريحاتهم الرنانة، ووعودهم الكاذبة.
وليكن صوتك لمن صانك، ولمن وقف معك، وبجانبك وقت الشدة، ودافع عنك، وقدّم يد المساعدة إليك، ولم يكن يوماً مسؤولاً تاجراً، او سمساراً أو محركاً في دولة السوق السوداء!
حان الأوان لرفع دعمك عن عتاة الفساد، والمقامرين بالوطن، وبأرواح ومعيشة الناس. وليكن هدفك الرئيس إستعادة قرارك وحريتك وكرامتك، وحقك في حياة كريمة، تعيش فيها المواطنية الحقيقية الحرة، لا حياة القهر والإستزلام والذلّ في دولة فاشلة مقززة لا مثيل لها في العالم كله. دولة أقلّ ما يُقال فيها، إنها دولة السوق السوداء!