ايمان بشير | كاتبة وصحفية لبنانية
“يا الله، عوّضْ علينا بسيّد متل هالسيّد”.. مَن منّا لا تراوده عبارة الرجل السبعينيّ، الذي بكى بحرقة في البقاع خلال تشييع الشهيد القائد السيّد عباس الموسوي عام 1992. مَن منّا لم تبقَ عبارته تلك، التي اعتبرها البعض “حلماً” أو “معجزة” يصعب تحقيقها، ترنّ في أذنيه. من كان يدري أن شخصاً وُلد في منطقة محرومة سيشغل العالم بكلمة منه. الحديث عن ميلاد السيّد لا يعني ولادته الفيزيولوجية فحسب، بل ميلاد القائد المقاوم، الذي يعتبره الصديق والعدو على حدّ سواء، من أقوى القادة في المنطقة والعالم. توفّي الرجل المسنّ، وبقيت عبارته تتردّد في أذهاننا كلّما رأينا “السيّد” على الشاشات يقضّ مضاجع العدو، ويرسم بقواعده تاريخ المنطقة.
وُلد السيّد حسن نصر الله في الـ28 من تشرين الثاني من العام 1959، أما التاريخ المذكور في السجلات الرسميّة فليس دقيقاً. نشأ نصر الله في عائلة متواضعة، من بلدة البازورية التي هُجّر منها إلى بيروت إبّان الاحتلال الإسرائيلي. تفوّق في مدرسته، وسرعان ما التحق بالحوزة لدراسة العلوم الدينية. في بداية شبابه، ساعد السيّد والده وإخوته في “الدكان”، مصدر رزقهم آنذاك، وفي تعشيب الأرض ورعايتها لتأمين لقمة العيش. كان هذا أول عمل يمارسه في حياته. أحبّ السيّد نصر الله أن يصبح عالماً، ولطالما كان يجمع إخوته وأخواته في المنزل ويقف على كرسيّه الصغير ليخطب بهم، واضعاً قطعة قماش على رأسه. عند عودته إلى بلدته البازورية، امتنع الاحتلال عن ترك منزل العائلة، فسكن مع أهله في غرفة عند أحد الأقارب.
كان الشهيد السيد عباس الموسوي الشخصية الأكثر تأثيراً في السيّد نصر الله، كما يقول. لم يكن أستاذه فحسب، بل كان صديقاً وأخاً عزيزاً. بقيا معاً منذ عودة السيّد نصر الله من النجف إلى لبنان إلى حين استشهاد السيّد عباس. السيّد قارئ نهم، هوايته التي رافقته منذ الصغر. أكثر ما يحبّه هو قراءة الكتب على أنواعها. في إحدى المرات، طلب السيّد نصر الله من أخته المرحومة الحاجة زكية كتب الدراسة الجامعيّة، حينما كانت تتابع دراستها في اختصاص الماليّة، فقرأها جميعها وأعادها إليها. قاد السيّد نصر الله سيارة للمرة الأخيرة في بعلبك عام 2004، بعد انتهاء إحياء يوم القدس العالمي يومذاك، تجوّل في الجرد وعاد بهدوء. كانت تلك المرة الأخيرة التي يقود فيها السيّد نصر الله سيارة بنفسه. إلا أنه تجوّل بالسيارة في ما بعد في مناطق عديدة، ومنها الضاحية الجنوبية، من دون أن يجلس خلف مقود السيارة.
عام 1992، ورغم صغر سنّه حينها، تولّى السيّد نصر الله منصب الأمين العام لحزب الله. اختير لشدّة تأثيره ومهاراته القياديّة التي كان يحملها. ما لبثت أن مرّت سنوات قليلة، حتى ترجم السيّد أعلى درجات ولائه للوطن، مقدّماً نجله الأكبر “محمد هادي” شهيداً أثناء قتاله ضدّ الجيش الإسرائيلي المحتلّ في منطقة الجبل الرفيع، جنوب لبنان. في بداية الطريق، امتُحِن نصر الله بأبوّته. انتصر السيّد المقاوِم على السيّد الأب. لا عجب، فعْلُ المقاومة دوماً ينتصر. فيه بذل السيّد أغلى “ما يملك”. ضمّد جراحه بشكر الله على “عظيم نعمه أن تطلّع إلى عائلته فاختار منها شهيداً”. ابتسم أثناء تشييع الشهيد هادي، حتى لا يُقال إن العدو كسره. راح يخفّف عن الحاضرين بدلاً من تخفيفهم عنه. رغم التحاق هادي بصفوف القتال الأماميّة، لم يكن السيّد يعامله على نحوٍ خاص، ولم يفرّق بينه وبين إخوته يوماً، لا إخوته في المنزل ولا حتى في المقاومة. فقد سلك مسيرة يدرك خواتيمها جيّداً.
أتمّ السيد نصر الله اليوم الـ62 عاماً. فاضت العقود الستّة بالتضحية. سطّر راسمها بمواقفه محطات مصيرية سجّلها التاريخ، فطمع به. صار التاريخ ينتظر “السابع” بفارغ الصبر. الرجل لن يتكرّر، هذا ليس كلام محبّيه فحسب، بل ألدّ أعدائه. يحسدون اللبنانيين عليه، “يا ريت عنا متلو”… سمعت هذه العبارة في أكثر من دولة، من المستضعفين المضطهدين، الذين حُرموا مَن يحمل قضاياهم بصدق، ويدافع عن كراماتهم في وجه المستكبرين، ومن الأقوياء الذين رأوا في مسيرة السيّد جداراً صلباً يتّكئون عليه كلما ضعفت نفوسهم.
أسئلة كثيرة ينتظر محبّو نصر الله بشغف معرفة إجابتها. ليطمئنّوا، قد يدوّن السيّد مذكراته يوماً، لكنه لا يفعل الآن لضيق الوقت. يروي السيّد بعض قصصه القديمة لأولاده حين يجتمع بهم، فقد وجد في عائلته “البئر الأمينة” لأسراره. يحمل حفيد السيّد حسن، الأكثر شبهاً به، اسمه. لم يطلب “نصر الله الجدّ” تسمية أي حفيد باسمه، لكن نجله محمد جواد فعل. هو شيءٌ من الوفاء لوالده. عندما كان يجتمع مع عائلته، كان السيّد يساعد في المهام المنزليّة، كأي أبّ، وأكثر ما كان يُشارك فيه هو ترتيب مائدة الطعام أو إعادة لملمتها. الملوخية هي طعامه المفضّل. يتابع السيّد الإنتاجات الدينيّة والثقافيّة، بالقدر الذي يسمح له الوقت بذلك، وكان أول من شاهد فيلم “الرسالة” قبل عرضه.
للسيّد أمنية، مثل أي شخص يحلم بأشياء يحبّها، قد تراوده في عيده كل عام. في حال تسلّم أحد الأمانة العامة لحزب الله عنه، وخيّروه في تحديد وجهته، يشتاق السيّد للعودة إلى البقاع، إلى ذلك المنزل الذي كان يسكنه بعد عودته من العراق، بجانب حوزة “الإمام المنتظر”. المنزل الحُلم من دون أعمدة، جدرانه تشي بشقاء الشباب. منزل فيه التقى بالقادة المقاومين، قضى أجمل اللحظات وأقساها في آن واحد، تلك كانت ذكريات تتأرجح بين البساطة والطمأنينة. قد يكون هذا هو سبب حبّه للعودة إليه. منزل أقرب إلى الناس وإلى الله في الآن عينه.
في مثل هذا اليوم يُحيي الملايين ميلاد السيّد، يدعون له، أمهاتٍ وأطفالاً ورجالاً وشيوخاً. يتمنّون للهموم التي أثكلته دفاعاً عنهم أن تتبدّد. للحياة التي وهبهم إياها أن تطول. للأمان الذي منحهم إياه بعد الذلّ والاحتلال والهوان أن يُصان. يُقدّمون اعتذارهم عن المتحاملين عليه، بعد كل هذه السنوات من التضحية. يتحلّون بالبصيرة التي ألهمهم إياها، فيصمدون. هل يعيش السيّد احتفالاً بميلاده اليوم؟ على الأرجح لا، لكن عائلته تُحيي المناسبة، فرِحةً، بعيداً عنه. ليس هذا المهم. الملايين يحتفون بميلاد السيّد. يحبّهم ويحبونه. يعتبرون هذا اليوم عيداً لأحد أفراد عائلاتهم. بل يرَون في السيد أباً وسنداً وعائلة حصينة. الملايين يفْدون نصر الله بكل ما يملكون. هؤلاء الملايين هم عائلة السيّد.