الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
لم يكن هبوط طائرة “السوخوي” الحربية الروسية في مطار القامشلي حدثاً عادياً، بل يحمل في ثناياه مؤشّراً جديداً على طبيعة التحوُّلات التي تجري في السياق السوري ومحيطه الإقليمي، ليكشف بعض تفاصيل التفاهمات الدولية، وخصوصاً الأميركية الروسية، وانعكاس ذلك على مستقبل المنطقة.
تحولت سوريا إلى ساحة صراع دولي ـ إقليمي يُصنَّف بالأعنف في تاريخ المنطقة، بعد بدء الاضطرابات في درعا وتمدُّدها إلى أغلبية المناطق السورية، وخصوصاً في مناطق الأرياف التي شهدت تحوُّلات سلبية كبيرة لمصلحة المدن في سنوات ما قبل الحرب.
وشهدت أيضاً التدخل الدولي المباشِر على يد الولايات المتحدة، التي استغلت اجتياح تنظيم “داعش” منطقة عين العرب (كوباني) ووصوله إلى قلب المدينة تحت عينَي الاستخبارات التركية ومباركتها، بالإضافة إلى عجز الحكومة السورية عن التدخُّل لحماية حلفائها السابقين، الأمر الذي أتاح الفرصة للبنتاغون في تلقُّف فرصة استغاثة القادة الكُرد، ودخول معركة إنقاذ المدينة، بدءاً بالضربات الجوية منذ 23 أيلول/سبتمبر 2014، بعد سبعة أيام من بدء الهجوم، ليصبح الحضور العسكري الأميركي البري واضحاً، عبر وجود 2000 جندي أميركي، بصورة غير شرعية، في منتصف عام 2015، في مجموعة من النقاط شرقيّ الفرات.
بدأ الدخول العسكري الروسي المباشِر لسوريا بعد عام تماماً من التدخل الأميركي، وكان بطلب من دمشق وطهران من أجل منع حلف “الناتو” من التدخل، بعد ارتفاع سوية الضغوط العسكرية للمجموعات الإرهابية المسلَّحة المدعومة من أنقرة، ووصولها إلى منطقة جورين في الغاب، بعد سقوط مدينة إدلب في شهر آذار/مارس 2015، وهي النقطة الأخطر في الحرب السورية، والتي ستنكشف، بسقوطها، المنطقةُ الوسطى والساحلُ السوري، ثم تدفق المجموعات المسلّحة إليهما، وانهيار ما تبقّى من الأراضي السورية.
كان وجود القوتين الدوليتين الواضح والصريح في الأراضي السورية، دافعاً إلى فتح قنوات التنسيق المباشِر بينهما، منعاً لأي تصادم عسكري غير محسوب، قد يدفع إلى اشتباك أوسع بينهما، لا يريدانه. فكان أن تم الاتفاق على حصر الدور الروسي في مناطق غربيّ الفرات، والدور الأميركي في مناطق شرقي الفرات. وثبّتت الولايات المتحدة الأميركية هذا الفصل من خلال تدمير كل الجسور الواصلة بين المنطقتين، مع الإبقاء على ممرين أساسيين، في الطبقة وجسر قراقوزاق، الواصل بين منبج ومنطقة عين العرب في الشمال.
وعلى الرغم من تباين السياسات بين الإدارات الأميركية المتتابعة، فإن الأمر المشترك بينها هو الإقرار بفشل التدخل العسكري الأميركي في تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية من أجل إعادة تركيب المنطقة، بدءاً بأفغانستان حتى شرقي البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى التكاليف الاقتصادية الهائلة، والتي تجاوزت عشرين تريليون دولار، وما أفرزته هذه الحروب من فرص لكل من الصين وروسيا في البروز قوتين عسكريتين واقتصاديتين مهدِّدتين استمرارَ الولايات المتحدة قطباً وحيداً عالمياً.
اتخذت الإدارة الأميركية الجديدة قراراً قضى بإعادة ترتيب وجودها في منطقة غربيّ آسيا، من أجل تقليل الاستنزاف، اقتصادياً وبشرياً، ومحاولة إعادة تشكيل المنطقة من خلال تفاهمات جديدة مع روسيا وإيران، ومحاولة استبعاد الصين عن الوصول إلى شرقيّ المتوسط، فبدأت واشنطن الانسحاب من أفغانستان على أمل أن تتحوّل الأخيرة إلى تهديد مشترك لدول الجوار الأفغاني، وشرعت في العمل على الانسحاب العسكري الكبير من العراق، مع الإبقاء على وجود عسكري مقنَّع في أضخم سفارة أميركية في العالم.
تتطلّب الاستراتيجية الأميركية الجديدة إخراج المنطقة من حالة الاضطراب المُهدِّد لجميع دولها، وهذا يتطلّب إنهاء الأزمة السورية التي تحوّلت إلى التهديد الأكبر لكل دول الجوار، بما في ذلك الكيان الإسرائيلي، بالإضافة إلى دول الخليج، التي انعكست عليها الأزمة السورية من جهة، من دون إغفال هزائم المملكة العربية السعودية والإمارات في اليمن على يد “أنصار الله” والجيش اليمني من جهة أخرى.
استطاعت موسكو أن تنتزع من الإدارة الأميركية الإقرار بأولوية الدور الروسي في سوريا، ومسؤوليته عن إدارة ملفات المنطقة، على نحو يحفظ المصالح الأميركية وأمن “إسرائيل”، وخصوصاً ما يتعلّق بمصادر الغاز ووسائل نقله، في صورة لا تضرّ مصالح روسيا، التي حصلت على ضمانات التحكم في ذلك.
أصبح من الواضح أن المتغيّرات السورية الأخيرة، والتي حدثت بدءاً من درعا، مروراً بالتفاهمات الأميركية ـ الروسية بُعيد اجتماع بايدن وبوتين في جنيف منتصف شهر حزيران/يونيو من هذا العام، تسير وفقاً لإيقاع الإدارتين. ومهمة موسكو هي الحلول مكان القوات الأميركية في الشمال السوري، بعد إنشاء قاعدة عسكرية في القامشلي في أقصى الشمال الشرقي لسوريا عند الحدود التركية، وعلى بُعد مئة كم من المالكية/ديريك، الأمر الذي يجعل روسيا تتمركز في كل نقاط الحدود الجنوبية لتركيا مع سوريا، وهو ما يشكّل ورقة ضغط كبيرة على استمرار الطموحات التركية في قضم ما تبقّى من الشمال السوري، وإعادة ضبط الدور التركي الذي تجاوز الحدود المسموحة له أميركياً، والمهدِّد لروسيا والصين وإيران.
على الرغم من توقيع موسكو ودمشق اتفاقيةَ إنشاء قاعدة عسكرية روسية في القامشلي منذ عامين، فإن موسكو لم تستطع سوى إيصال سرب من الحوامات ونظام دفاع جوي متطوّر إلى مطار القامشلي. ويمرّ عامان لتأتي محاولة مرور الشرطة العسكرية الروسية من دير الزّور إلى الرقة، بعد عبورها من غربيّ الفرات إلى شرقيّه، ثم هبوط الطائرة الحربية الروسية، سوخوي، في مطار القامشلي بعد خمسة أيام من المحاولة، ليؤكد هذان الحَدَثان التسارع في إنجاز التفاهمات الروسية ـ الأميركية بشأن سوريا، وإنهاء حالة تقسيم الأدوار بين شرقيّ الفرات وغربيّه، وقرب الانسحاب الأميركي من مناطق شرقيّ الفرات، بالإضافة إلى قرب إجراء مصالحة بين حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ودمشق برعاية موسكو، والوصول إلى اتفاق بين الطرفين يحقّق مصالح دمشق من خلال وجود دولة مركزية، مع إدارة لامركزية موسَّعة تتيح للسوريين الكُرد دوراً أكبر في مستقبل الحياتين السياسية والاقتصادية لسوريا.
وما رسائل الرجل الثاني في حزب العمال الكردستاني، جميل باييك، إلى دمشق، سوى تعزيز لرسائل هبوط السوخوي في مطار القامشلي، في انتظار مآلات العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وما سيكون له من تداعيات على كل ما يجري من تفاهمات دولية، بحضور صنعاء التي تحضر نتائجها بقوة في كل الملفات.
الميادين نت