ومع بداية العام الجديد يزداد قلق الأمير محمد بن سلمان مع اقتراب استلام جو بايدن مهامه الرئاسية في البيت الأبيض الذي أعلن أكثر من مرة نيته محاسبة الحكومة السعودية وجعلها تدفع ثمن سجلها في مجال حقوق الإنسان والانتهاكات واغتيال الصحافي جمال خاشقجي، واعتقال الناشطات والحقوقيات والمفكرين والكتاب، وحث على أهمية إعادة النظر في العلاقات بين واشنطن والرياض.
وشن الأمير محمد بن سلمان حملة اعتقالات تعسفية واسعة ضد أمراء ورجال الأعمال ورجال الدين والكفاءات والنخب من كل المناطق والتيارات والتوجهات والمهن، وامتلأت السجون بالمعتقلين والمعتقلات وهذه أول مرة يتم فيها اعتقال عدد كبير من النساء لأسباب تتعلق بحرية الرأي والعمل الحقوقي. سياسة التهميش والتغييب والاستخفاف بالشعب لم تتغير في عهد الملك سلمان وابنه ولي العهد الأمير محمد الذي يروج للانفتاح والترفيه، فهو في الحقيقة كبقية العهود السابقة الحاكمة في السعودية من حيث عقلية الاستبداد وتهميش للشعب المغيب والمطلوب منه في كل عهد وسلطة ان يطبل ويمجد سياسة الملك سلمان وابنه ولي العهد.
أرقام قياسية
انتهاكات حقوق الإنسان والحريات في السعودية تتسع وتسجل أرقاما قياسية حسب تقارير المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، وقد طالبت العديد من الدول في العالم بمحاسبة سلطات الرياض عن تلك الانتهاكات الخطيرة، إثر قيامها بحملة اعتقالات تعسفية للآلاف. وتشير التقارير إلى تعرض المعتقلين للتعذيب، والنساء للتحرش، بالإضافة إلى الآلاف من المحرومين من حرية السفر والانتقال وتوقيف الخدمات ومنها الحكومية كإجراء عقود الزواج أو تسجيل واستخراج أوراق رسمية لأفراد العائلة أو التمكن من الحصول على الخدمات كرقم هاتف أو استئجار سيارة.
وقد طالت الاعتقالات التعسفية علماء ومفكرين وكتاب وإعلاميين وشخصيات معروفة، بسبب التعبير عن الرأي والمطالبة بالإصلاح والتغيير، كما ان هناك اعتقالات جرت لبعض أفراد السلطات الحاكمة بسبب الصراع على عرش الحكم، وأخرى طالت آلاف رجال الأعمال بمبررات كثيرة والسبب الحقيقي هو إخضاع وإضعاف كافة الشخصيات في البلاد، وهذه تعد جرائم ضد الإنسانية وتقع بأوامر من الحكومة الرسمية.
وبرزت انتقادات دولية واسعة لسجل انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية منذ عهد الملك سلمان وابنه الأمير محمد بن سلمان، وأصبح حديث الصحافة ووسائل الإعلام الدولية حول حقوق الإنسان نقلا عن المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان متكررا وبشكل أسبوعي وحتى يومي، رغم محاولات السعودية دفع مبالغ كبيرة لشركات العلاقات العامة لتلميع سمعتها، بل ان إدارة ترامب وعبر وزارة خارجيته التي تحصل مئات المليارات من الرياض للسكوت عن الانتهاكات والحصول على الدعم والحماية من واشنطن نشرت تقريرها السنوي بشأن حقوق الإنسان في العالم، حيث انتقد أوضاع حقوق الإنسان في السعودية، كاشفاً أن حكومة المملكة لم تعاقب في حالات عدة مسؤولين متهمين بانتهاكات حقوق الإنسان. وذكر التقرير إن المحاكم السعودية قضت بإعدام خمسة مسؤولين في قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي (تشرين الأول/أكتوبر 2018) وبرأت ثلاثة آخرين، في إشارة إلى المقربين من ولي العهد بن سلمان.
وأكد التقرير أن موقف الخارجية الأمريكية من هذه الجريمة لم يتغير، وأن السعودية تفتقر إلى الشفافية. وأشار إلى أن في المملكة انتهاكات حقوقية تشمل ممارسات عدة، من بينها الإخفاء القسري والاحتجاز التعسفي والتعذيب والتحرش بالمعتقلات. وأكد التقرير، اتهامه السلطات السعودية بقضايا تعذيب المعتقلين لديها، على غرار ما حدث مع الناشطة والمدافعة عن حقوق النساء لجين الهذلول، من تعرضها لتعذيب جسدي (صعقها كهربائياً مع جلدها، وإرغامها على الأكل بعد حد الإشباع، والتحرش بها جنسياً، وفقاً لما كشفته شقيقتها). حيث كشفت علياء الهذلول شقيقة لجين الهذلول، في نهاية كانون الثاني/يناير الماضي، أن سعود القحطاني المستشار السابق في الديوان الملكي، هددها بالاغتصاب من ثم القتل ومن ثم تقطيع الجسد ورميه في مجاري الصرف الصحي، مع تكرار شتمها بالشتائم الفاحشة، وإفزاعها من نومها في منتصف الليل لكي يبدأوا التعذيب.
وبسبب سجلها في مجال حقوق الإنسان، فشلت الرياض في الحصول على مقعد في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومقره جنيف، لثلاث سنوات بدءا من كانون الثاني/يناير 2021.
رسالة واضحة
هل تسعى الحكومة السعودية لإنهاء الملفات الساخنة التي تنتقد السلطات المملكة وبالخصوص في مجال انتهاكات حقوق الإنسان، لإنقاذ سمعتها وبناء علاقة جديدة مع إدارة الرئيس الأمريكي القادم جو بايدن؟
إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن صرحت عبر مستشار الأمن القومي المقبل جايك سوليفان: انها ستقف ضد انتهاكات حقوق الإنسان. وهذه رسالة واضحة لسلطات الرياض التي بدأت تشعر بالقلق الجدي مع اقتراب انتهاء أيام ترامب الذي دعم الحكومة السعودية وغض الطرف عن انتهاكاتها لحريات وحقوق الإنسان والسكوت حول ذلك مقابل الحصول على مئات المليارات للخزانة الأمريكية. ولأجل تهدئة غضب الإدارة الأمريكية الجديدة، بادرت الرياض بتسريع الإجراءات لإغلاق الملفات الساخنة والمثيرة لدى الإدارة الأمريكية والعالم، وفتح صفحة جديدة مع الرئيس الجديد بايدن بأقل الخسائر، وبالخصوص ملف اعتقال الحقوقيات والناشطات وبالذات ملف الحقوقية لجين الهذلول. حيث طلب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من القضاء فتح ملف المعتقلات وبالخصوص لجين وإصدار أحكام مخففة تحفظ سمعة السعودية واستقلال القضاء ولا يظهر أن الرياض ترضخ للضغوط الأمريكية والدولية، وهذا ما حدث حيث أقيمت أكثر من 50 جلسة محاكمة خلال أسبوع للهذلول بعد سنوات من الاعتقال التعسفي والتعرض للتعذيب والتحرش والإهمال الطبي منذ عام 2018.
وخلال قمة العشرين التي عقدت في الرياض عبر وسائل التواصل الاجتماعي الإنترنت نتيجة تفشي جائحة كورونا، طالبت الجمعيات الحقوقية الدولية بإطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين بسبب التعبير عن الرأي والمشاركة في المظاهرات وبالخصوص المعتقلة لجين الهذلول، مطالبة رؤساء الدول عدم المشاركة في هذه القمة للضغط على الرياض، ولكن المحاولات لم تنجح رغم تسريب أخبار بإمكانية الإفراج إلا أن الرياض تريد الإفراج بطريقة تحفظ كرامتها وسمعة مؤسساتها القضائية، رغم رغبة كبار المسؤولين في الحكومة بإنهاء وإغلاق هذا الملف المزعج الذي يلاحقهم.
ولكن بعد فوز جو بايدن بمقعد الرئاسة الأمريكية وتهديده الدائم للرياض بالمحاسبة نتيجة سجلها في حقوق الإنسان، وتصريحه بجعل السعودية دولة منبوذة، بالإضافة إلى النشاط الرائع لأفراد أسرة الهذلول الذين يعيشون في الخارج حيث بذلوا نشاطا ملفتا ومؤثرا في تسليط الضوء حول قضية شقيقتهم المعتقلة لجين، رغم منع والديهم من السفر والانتقال أو التحدث لوسائل الإعلام. قضية لجين الهذلول أصابت سلطات الرياض بالزلزال وجددت قضية اغتيال جمال خاشقجي بطريقة بشعة على أيدي الاستخبارات السعودية داخل قنصلية المملكة في تركيا والتي تحولت إلى قضية رأي دولية.
رضوخ النظام السعودي للضغوط الخارجية
الحكومة السعودية نشرت خبر الحكم على لجين الهذلول عبر وسائلها الإعلامية ووكالات الأنباء الرسمية وفي ذلك رسالة للدول التي تطالب بالإفراج عن معتقلي ومعتقلات الرأي، وبالخصوص المعتقلات الناشطات الـ 13 في مجال حقوق الإنسان اللاتي تعرضن للاعتقال التعسفي في عام 2018 ومن بينهن سمر بدوي، لجين الهذلول، ونسيمة السادة، هتون الفاسي، ونوف عبد العزيز، مياء الزهراني، ايمان النفجان مساء الزهراني وعزيزة اليوسف وغيرهن، بالإضافة لمعتقلات الرأي مثل: اسراء الغمغام نعيمة المطرود فاطمة النصيف. والحكم يعبر عن رضوخ النظام السعودي للضغوط الخارجية وبالخصوص أمريكا والرغبة بإنهاء هذا الملف بأسرع وقت. ورغم ان الحكم ظالم لأن لجين الهذلول ومن معها لم يقمن بأي عمل يستحق الاعتقال التعسفي والسجن الانفرادي لفترات طويلة والتعرض للتعذيب الوحشي والتحرش، إلا ان الحكم أمام ما صرح به وزير الخارجية السعودية الفرحان والجبير من توجيه اتهامات للجين مثل: “متهمة بجرم يمس أمن البلد” و “الخيانة والتخابر والتآمر ضد الوطن” و”استلام أموال من دول معادية” يعتبر مخففا بل يكشف كذب الحكومة وما يتم تسريبه من اتهامات مزيفة، بقولها إن لجين “قد اعترفت وأقرت بهذا طواعية منها على ادانتها أمام القاضي” كما يكشف كذب ما يردده الإعلام السعودي والمسؤولون بأن “السعودية دولة ذات سيادة والقضاء في المملكة مستقل والحكومة لا تقبل أي إملاءات”. فالتاريخ مليء بما يخالف ذلك، ففي عام 1998 قامت السلطات في الرياض بالإفراج عن الممرضتين البريطانيتين المحكومتين بالإعدام بسبب قتل ممرضة استرالية في الظهران، وبعد زيارة ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز بزيارة للرياض ولانه يحظى بمكانة لدى الأسرة الحاكمة تمت الاستجابة لطلبه. وتم نقض الحكم القضائي الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 2014 على الناشط الحقوقي رائف البدوي، بالسجن عشر سنوات و1000 جلدة، رغم تنديد النشطاء والحقوقيين في الداخل والخارج، وكذلك الجمعيات الدولية ومنها “مراسلون بلا حدود” فقد عبروا عن رفضهم للحكم الظالم، ولكن الحكومة لم تتراجع عن ذلك بل قامت بتطبيق الحكم وجلد الناشط رائف بخمسين جلدة في الأسبوع الأول.
لا شك ان حكومة الرياض تراجعت نتيجة الضغوط الخارجية وكمحاولة من قبل الملك سلمان بن عبدالعزيز لتحسين صورته وصورة بلاده التي تعرضت للانتقاد من قبل الجمعيات والهيئات الحقوقية الدولية ومن قبل بعض الحكومات في العالم، وبعدما شهدت العديد من المدن في العالم مظاهرات شعبية أمام السفارات السعودية للتنديد بسجلها الحقوقي والأحكام القضائية الغريبة والعجيبة التي تصدر بحق النشطاء السلميين.
وفي الحقيقة لولا التدخل الأمريكي وخوف النظام السعودي من إدارة بايدن، لحكم على الهذلول ومن معها بالسجن 20 عاما أو بالإعدام كما حدث مع العشرات بتهمة التعبير عن الرأي والمشاركة في المظاهرات السلمية أو باتهمات التخابر.
الناشطة لجين الهذلول ليست مجرمة وكذلك بقية المعتقلات بسبب نشاطهن الحقوقي، فلم يقمن بأي عمل ليتم اعتقالهن وتعذيبهن، وأي حكم يصدر بحقهن فهو بالتالي ظالم وجائر.
من يحاسب؟
ولكن من يحاسب السلطات السعودية حول ما يقع على الشعب من انتهاكات فظيعة حيث يوجد الآلاف في سجون الاعتقال التعسفي بسبب التعبير عن الرأي؟ فقبل أسبوع تم الإفراج بل انتهاء محكومية المعتقل زكريا آل صفوان بعد السجن 10 سنوات بسبب مقال فقط! وهناك العشرات تم اعتقالهم ولم يخرجوا أحياء من التعذيب الوحشي والإهمال الطبي، بالإضافة إلى وفاة عدد من المعتقلين بعد الإفراج عنهم بأيام كما حدث مع الإعلامي صالح الشحي نتيجة الإهمال الطبي.
وهناك قلق شديد على المعتقلين ومنهم الدكتور محمد القحطاني الذي أعلن إضرابه عن الطعام منذ أكثر من أسبوع بسبب سوء المعاملة ومنعه من التواصل مع أسرته وحرمانه من الأدوية والإهمال الطبي، وكذلك على صحة الداعية المعروف سلمان العودة وغيرهم.
وحسب المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان، فقد اعتقلت السلطات السعودية نحو 59 إعلاميا وإعلامية منذ 2011 وانه يوجد 39 إعلاميا وإعلامية في سجون البلاد حاليا. وما زالت الاعتقالات متواصلة لغاية اليوم لكتاب وعلماء وحتى لأطفال. بل الغريب قيام الجهات الأمنية السعودية باعتقال الناشط عبدالرحمن المطيري المعروف بمدح وتمجيد العهد الجديد والرؤية 2030 والذي كان يصف السجون السعودية بالفنادق ذات خدمة 5 نجوم، ويقال إن السبب كونه سلط الضوء على بعض الحالات الاجتماعية.
علي آل غراش – القدس العربي
الكاتب :
الموقع :www.alalamtv.net
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2021-01-04 18:01:30
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي