محمود بري | كاتب وباحث لبناني
ما كان بمائة ألف يصبح بمليون، فلا تعترضوا. ومهما تحسّنت الأوضاع، فالأسعار التي حلّقت عالياً، لن تنخفض. هذا من دروس التاريخ القريب وأحداث الأمس وما قبله وما قبل قبله.
القُطعان متروكة لعليقها تحت فأس فجور التُجّار، وما يُسمّى “الدولة” مُنصرفة إلى التبشير بالدِّين الجديد: رفع الدعم.
لا رقابة البتّة بعد اليوم، لا على صناديق الإنتخابات ولا على الأسعار… تماماً كما كان الوضع بالأمس وقبله وكل أمس في جمهورية الـ”قصب مّصّ”. المفاوضات على تقاسم الوزارات والشتائم على طريقة لُعبة “يا طالعا يا نازلي” وصلت إلى نهايتها، وبرزت من عشّها الحكومة التي… لا لزوم لها بوجود الفعاليات-اللصوص الحاكمين. الأنسب كان ترك القوم لقدرهم ليتابعوا التخصص في البحث عن الماء والكلأ، على مِثال السلف البدوي التائه… فهذا الكَوم البشري اليباس في أسفل الدنيا ونهايات دوران الكوكب، لن ينقذه سوى منجل الشيطان.
“الحق ليس علينا”، يقول الذين فوق. “سبق أن حذّرناكم مراراً، لكنكم مُهملون ومُنهمكون بالنقّ…غرامكم الزعرنة وقطع الطرقات وبيع الغلنات، وهذا كلّه ممنوع… أيها الآتون تهريباً من أخطاء التاريخ. “تفو عليكن”.
اخترعنا لكم فكرة البطاقة التمويلية لتخفيف الأعباء، لكنكم لم تتركوا لنا فرصة هندستها وحشوها بالمال، فاضطررنا لإطلاقها عنوةً بـ 25 دولار للرأس، ثم نسينا أن نخصص لها ميزانية. نعم. كل تلك الاجتماعات والوزراء والخبراء والتخطيط والبحث والمراوغات والسندويشات والتصريحات… من أجل مجرّد 25 دولاراً. تبّاً لكم! هل تعتقدون حقاً أن إعادتنا إلى ما قبل القرن الأول للهجرة، هي إنجاز عظيم، وهل تصدّقون، أنتم أنفسكم، تأكيداتكم التافهة على الشفافية، وهيوإياكم لا تساوون عُقب سيجارة لَفّ في زقاق مُظلم!
بطاقة تمويلية. كم هي فارغة هذه التسمية المسروقة من “كُورات” الجامعة، وقد نفختوها بالرياء والهوا الأصفر. تقولون إنها مخصصة لـ 500 ألف راس، لا أكثر ولا أقل. فمن أين بالله عليكم جئتم بهذا الرقم المُفقّط، كيف توصلتم إليه؟
عندما كانت عشائر مبنى ساحة الحمام يُقرّون قانون البطاقة، كانت “اليونيسيف” تُعلن أن “ما نسبته 77% من الأسر اللبنانية لا تملك ما يكفي من غذاء أو مال لشرائه، وأن 60% منها تضطر إلى شراء الطعام عبر مراكمة الفواتير غير المدفوعة أو الاستدانة، وأن 30% من أطفال لبنان ينامون وبطونهم خاوية”. وهذه الأرقام “تحسّنت” اليوم مع الدولار.
هل يعني لكم هذا أيّ شيء؟ وهل إن حلّ أزمة الفاقة لدى جماهير الشعب المنهوب، تتوقف على 25 دولار لـ 500 ألف نسمة؟
… وإذا افترضنا أن منظمة الأمم المتحدة للطفولة صادقة في أرقامها، ومثلها صندوق الغذاء العالمي الذي أحصى اللبنانيين بحوالى ستة ملايين بشري، فماذا يبقى بالتالي للملايين الآخرين (خارج النصف مليون المُستهدفين) من الشعب العبيد.. كيف يأكلون ويلبسون..؟ أم أن المحظيين بالبطاقة سيساعدونهم من الـ 25 دولار؟
وافتراضاً اضطرار حاكم المصرف إلى دفع الـ 25$ اضطراراً إلزامياً، وهذا افتراضٌ مغلوط في الأساس، فالمعروف أنه لن يدفعها بغير العملة الوهمية (الليرة)، فما الجدوى من كل ذلك؟
يبدو أن الدين الجديد يحتاج هو أيضاً إلى الصبر، وغضّ النظر والكثير من “البلكفة” – بِلا كيف.
ونعود إلى سيرة البطاقة، الصوتية وربما الجرثومية، ألم يخبركم أولياء الأمن الممسوك أنها ستكون مصدراً مُبتكراً لنزاعات جديدة لن يتحملها بلد تركبه السعادين؟
هذا “الحيص ــ بيص” من فعلكم أنتم أيها الناس…أنتم ولا أحد سواكم. نعرف أنكم ستشغلون بالنا على البطاقة كما “شغلتو بالنا” على محطات البنزين، “اللا يشغل بالكم”. انتم فعلاً مصيبة تمشي في الشارع. لم تتركوا علبة “أسبرو” في الصيدليات ولا إبرة “لاروتريكتينيب” ضد السرطان في مستودعات الأدوية. قرّفتمونا وزارة الصحة ومستودعات الأدوية والملقبين بالحُجّاج من ذوي اللحى المهندمة، و”مسودّات الإدّيسين” من أصحاب اللحى الوحشية (المهَوشرة)… قرفنا وجوه الصفوف الأولى في الكنائس والحسينيات والجوامع. قرفناكم وقد جلستم بعيداً فوق التلّة تواصلون جريمة النقد غير البنّاء. قرّفتمونا الحُكم والكُرسي ومواكبنا المُجلجِلة وحتى صورنا الفوتوغرافية وهي تحمل وجوهنا كما كانت قبل عقدين أو ثلاثة، وقد “رَوتشتموها” واستخدمتم أحدث برامج الـ”فوتوشوب” لتحسين خياط، أعني لتحسين ملامحها…محنا، ربما لأسباب شتائمية لا غير. ثم، وعندما برزنا أمامكم بعد كل هذه الشهور المريرة من التحضيرات، تذرّعتم بأن دون البطاقة مستحيلات تقنية وسياسية ومزاجية وحيوانية تحول دون الاستفادة منها، لا سيّما بجهود السيد التضخّم، إبنكم البار.
قرّفتمونا البطاقات على أنواعها؛ قرّفتمونا المباحثات بأي شأن؛ قرّفتمونا الفرصة الأخيرة التي راحت تتكرر بشكل أسبوعي كاد أن يصبح يومياً؛ قرّفتمونا الدولار “الفريش”؛ قرّفتمونا الجمارك والبزّاق والرز ذي الحبة القصيرة؛ قرفتمونا مصرف لبنان وعملة لبنان وكازينو لبنان وكهرباء لبنان وخريطة لبنان وحكومة لبنان وحدود لبنان وبحر لبنان وعلم لبنان… ولبنان شخصياً. بسببكم صرنا نفضّل العمى على الكِحل والسم على الدسم… والأسوارة على الزند والكُعبرة معاً.
كلنا، نحن العاملون على حلّ مشاكل بلدكم، جميعنا من دون استثناء، ويا لمساوئ الصُدف، مطلوبون من العدالة بتهم لصوصية وجرائم دموية وخيانات عاطفية وعائلية ووطنية وعُظمى. هذه علامة من القدر. ألم تلاحظوا ذلك يا أصحاب “الذكاء اللبناني” الشهير..(!) أم ستكتشفون الآن بأنكم أغبياء مثل الغنم والدجاج، لا تقرأون حتى الخط العريض!
أخفينا عنكم المواد الاستهلاكية المدعومة التي حصّلناها بتراب المصاري، ثم هرّبناها إلى أهلكم وأخوانكم وأقاربكم في مهاجر القارات كلّها، ليطمئن بال المغتربين على الوطن. فتحنا لكم المدارس رغم أنف الكورونا، كي يتعلم أولادكم من أجل مستقبل… كندا وأستراليا والسويد. طفّشنا شبابكم إلى بلاد الكلب والكلبة، ليرتاح أولادنا في شفط الانتاج الزراعي المحلي وتصديره إلى العراق الشقيق، وأنتم “كالحمير تحمل أسفارا”… (لا مِن شاف ولا مِن دِري).
سوّدنا وجهنا مع الأميركيين كرماً لكم ولسورية، ولم يعجبكم. قصدنا الشام بسياراتنا الرسمية وهي “متروسة” بغالونات المحروقات وقوارير الغاز (تهريب)، وقد جمع السائقون والمرافقون ثروات صغيرة منها… لم ينلنا منها قرش واحد. كنا نود أن نناقش مع “الأخوة السوريين” ملفاتنا الشخصية بعد أن “نبوس التوبة”، وأن نتباحث وإياهم بوضع البرازي (بعد هذه الغيبة) وإمكانية فتح مكاتب تمثيلية لأقراصها المُسمسمة في بيروت والمناطق، للحيلولة دون تزويرها، إلا أن الجماعة هناك أصروا على حصر الكلام بموضوع الكهرباء والغاز من الأردن ومصر.
من أخبرهم إننا بحاجة إلى الكهرباء والغاز!
كلّنا شرقوسطيون متدينون ونتعايش في لبنان، لا مفرّ من ذلك. ما يوحدنا بعد اليوم هو ديننا الجديد: رفع الدعم، ونحن لا نُجدّف. التعتير عندنا هو المبتدأ والخبر. بلغنا والحمد لله خاتمة المطاف واقتربت ساعة الحسابات.
الويل لمن لا يحمل “ذخيرة” الصرافين و”حجاب” البنزين و…الرقم الضريبي.
الرقم الضريبي!
ترى من أين جاء الوزير الأهبل بهذا اللغز الغريب؟