ادى “الربيع العربي” الى تداعيات كثيرة على منطقة البحر الابيض المتوسط، فكان عدم الاستقرار السياسي والامني والاقتصادي من ابرز الدوافع لبداية حملة مكثفة من الهجرة غير الشرعية من الدول المتوسطية والتي يطلق عليها مصطلح دول المصدر، الى دول اوروبا المطلة على المتوسط التي يطلق عليها مصطلح دول الاستقبال
يقارب الديبلوماسي اللبناني الدكتور حمزة جمول الذي يشغل حاليا منصب نائب رئيس البعثة الديبلوماسية اللبنانية في جمهورية المانيا الاتحادية، وعمل سابقا كمستشار في البرامج الاوروبية العابرة للحدود في المتوسط والتي تعتبر الالية التنفيذية للسياسة الاوروبية لحسن الجوار، هذا الموضوع من زوايا مختلفة، في كتاب “السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي في المتوسط – دراسة لازمة الهجرة” (“دار ابعاد”) والصادر بالانكليزية، ويتناول فيه العناصر الاساسية للسياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي في منطقة البحر الابيض المتوسط، للفترة الممتدة بين عامي 2011 و2017، مع تركيز على ازمة الهجرة واللجوء في دول الاتحاد الاوروبي بسبب تداعيات “الربيع العربي” .
تضمن الكتاب معطيات مهمة يكشف عنها للمرة الاولى حول الوسائل التي اعتمدها الاتحاد الاوروبي لمواجهة ازمة الهجرة غير الشرعية من المتوسط، بالاضافة الى تقييم لمدى فعالية هذه الوسائل في الحد من التدفق غير القانوني، وتأثيرها على التضامن بين دول الاتحاد الاوروبي.
تعرّف الفصول الاولى على مؤسسات الاتحاد الاوروبي التي تساهم في اتخاذ القرارات والتشريع، علما ان بعض تلك القرارات يحتاج الى اليات تصويت مختلفة وذلك وفقا للجهاز الاوروبي الذي يصدر القرار. مثلا ان اي قرار يتعلق بادارة ازمة الهجرة واللجوء يحتاج الى اجماع الدول الاعضاء. من هذا المنطلق، تجلت الصعوبات التي رافقت مسار التفاوض الاوروبي – الاوروبي للتوصل الى اتفاق حول اتفاقية دبلن التي ترعى ملف الهجرة في الاتحاد الاوروبي.
تباعا، عرض الدكتور جمول تطور العلاقات الاورومتوسطية التي تعتبر الركن الاساسي والقانوني لأي اتفاق او حوار بين الدول الاوروبية والدول العربية المطلة على المتوسط، والتي يطلق عليها الاتحاد الاوروبي مصطلح الدول المتوسطية الشريكةPartner Countries Mediterranean. ضمن هذا المنطلق، نجد من المهم لفت النظر الى ان العلاقات الاورو- متوسطية بدأت تتخذ شكلا مؤسساتيا مع مسار برشلونة والشراكة الاورومتوسطية الذي دخل حيز التنفيذ في عام 1995.
ضمن هذا السياق، وبعد مرور ما يقارب 26 عاما على اعلان الاتحاد من اجل المتوسط، يعرض الكاتب بعض الاخفاقات التي رافقت عمل هذه المؤسسة ومن اهمها: لم تتعرض الدول الاوروبية لأزمة النزوح فحسب، بل شهد لبنان والاردن وتركيا اكبر موجات نزوح او لجوء من سوريا بسبب الازمة. ضمن هذا السياق، سجل في لبنان نزوح ما يقارب 2 مليون سوري.
اهم طرق العبور الى اوروبا يمكن عرضها على الشكل الاتي:
- الحدود البرية الشرقية للاتحاد الاوروبي. واهم مناطق العبور هي الحدود الاوكرانية البولندية، وتجذب تلك المنطقة لاجئين من العراق وروسيا والكونغو.
- منطقة غرب البلقان. وتجذب تلك المنطقة لاجئين من سوريا وافغانستان وليبيا والمغرب للعبور الى هنغاريا وكرواتيا.
- منطقة شرق البحر الابيض المتوسط عبر بحر ايجه. وهي تلك المنطقة التي تجذب لاجئين غالبيتهم من اصول سورية، مع تسجيل لجنسيات اخرى من الكونغو ونيجيريا ويعبرون تركيا الى اليونان.
- منطقة وسط البحر الابيض المتوسط. وهي منطقة عبور ناشطة جدا، وتجذب لاجئين قادمين بشكل اساسي من تونس وليبيا باعتبارهم مناطق تجمع لجنسيات افريقية، وتستعمل هذه المنطقة للعبور الى ايطاليا وخصوصا جزر لامبيدوزا صقلية وسردينيا.
- منطقة غرب البحر الابيض المتوسط. وهي منطقة عبور من المغرب الى اسبانيا، وتجذب لاجئين من المغرب والجزائر ومالي وتشاد.
- منطقة غرب افريقيا. وتجذب لاجئين من المغرب وساحل العاج ومالي.
تفيد الدراسات ان حركة الهجرة غير الشرعية من تلك المناطق – البوابات الى دول الاتحاد الاوروبي سجلت في الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2017 اعلى معدلات الهجرة واللجوء بعد الحرب العالمية الثانية. ضمن هذا السياق، وصل الى دول الاتحاد الاوروبي اكثر من 630 الف طالب لجوء في العام 2014، وما يقارب 1,5 مليون شخص في 2015. وكانت الجنسيات الاكثر شيوعا بين طالبي اللجوء في اوروبا في العام 2015 هم السوريون (46.7%)، والافغان (20.9%)، والعراقيون (9.4%).
تجدر الاشارة الى انه قبل عام 2015، كان معظم اللاجئين يصلون الى اوروبا من طريق عبور البحر الابيض المتوسط من ليبيا الى ايطاليا، ويرجع ذلك الى حد كبير الى انهيار الضوابط الحدودية خلال الحرب في ليبيا. لكن في العام 2015، مع تنامي حركة المراقبة للسواحل الاورومتوسطية وتنامي حالات الوفيات في البحر الابيض المتوسط، بدأ البحث عن بوابات عبور اكثر امنا لجهة المراقبة الحدودية وسلامة العبور، فبدأت الغالبية العظمى من اللاجئين الى اوروبا استخدام بوابة منطقة شرق البحر الابيض المتوسط من بحر ايجه للعبور من تركيا الى اليونان، وبعد ذلك خط البلقان في اتجاه الاتحاد الاوروبي برا.
يعرض الكاتب الاجراءات التي اتخذها الاتحاد الاوروبي لمواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية، مثل تفعيل عمل الوكالة الاوروبية لحرس الحدود والسواحل – فرونتكس- التي تأسست في العام 2004، وانشاء مراكز استقبال اللاجئين وتوقيع اتفاقيات تعاون مع دول ثالثة.
تتمثل مهمة الوكالة الاوروبية لحرس الحدود – فرونتكس – في الحد من هشاشة الحدود الخارجية للاتحاد الاوروبي وضمان امنها، بالاضافة الى تحديث قدرات الحدود وخفر السواحل الاوروبية. بدأت الوكالة مع تنامي ازمة الهجرة غير الشرعية الى الاتحاد الاوروبي، تنشيط دورها، ووضعت فرونتكس خطط عمل موجهة لمراقبة الحدود الاكثر هشاشة. نأخذ على سبيل المثال، عملية بوسيدون التي تشمل الحدود البحرية اليونانية مع تركيا والجزر اليونانية لمراقبة الحدود، وانقاذ الارواح في البحر والتسجيل وتحديد الهوية، فضلا عن مكافحة الجريمة العابرة للحدود. كثيرة هي العمليات التي نفذها الاتحاد الاوروبي في مياه البحر الابيض المتوسط والتي تناولها الكتاب مثل تريتون، ثيميس وصوفيا.
ضمن هذا السياق، وفي العام 2016، تفاوض الاتحاد الاوروبي مع تركيا على اتفاقية لاغلاق الحدود اليونانية – التركية. نص الاتفاق على موافقة تركيا على استعادة جميع المهاجرين غير الشرعيين من تركيا الى اليونان، على ان يدفع في المقابل الاتحاد الاوروبي الى تركيا 6 مليارات يورو. ساهمت الاتفاقية في تراجع عدد المهاجرين الوافدين الى اليونان من تركيا. على سبيل المثال، سجلت اليونان بعد اشهر من توقيع الاتفاقية ما يقارب 2700 حالة عبور غير شرعي للحدود، وذلك بانخفاض 90 في المئة مقارنة بالفترة التي سبقت توقيع الاتفاقية.
في الجهة المقابلة، دفع تشديد المراقبة او اغلاق طريق البلقان كنتيجة للاتفاق التركي – الاوروبي، المهاجرين، الى اعتماد طريق وسط وشرق البحر الابيض المتوسط عبر ايطاليا على الرغم من المخاطر الجمة التي قد تنتج. بالفعل، تم تسجيل في نيسان عام 2016، اي بعد اشهر من الاتفاق التركي – الاوروبي، حادثة غرق قارب كبير بين ليبيا وايطاليا، ما اسفر عن وفاة ما يصل الى 500 شخص (سجلت الفترة بين عامي 2011 و2017 اكثر من 5000 حالة وفاة في البحر الابيض المتوسط). دفع هذا الامر ايطاليا الى توقيع اتفاق ثنائي في اوائل العام 2017 مع حكومة ليبيا المعترف بها من الامم المتحدة، تبذل بموجبه ليبيا المزيد من الجهود لمنع المهاجرين من الوصول الى اوروبا. في المقابل، قدمت ايطاليا المال والتدريب لخفر السواحل الليبي ولمراكز احتجاز المهاجرين في شمال ليبيا. انخفض عدد اللاجئين الوافدين الى ايطاليا بشكل ملحوظ.
عمل الاتحاد الاوروبي على مكافحة الاتجار بالبشر، وذلك من خلال اعتماده على جولات مراقبة للسواحل الاوروبية والمياه الدولية التي تنشط فيها حركة العبور الى اوروبا.
بالاضافة الى ذلك، تناول الدكتور جمول التحديات الداخلية التي واجهت الاتحاد الاوروبي بعد موجة اللاجئين في العام 2015، وعندما بلغ عدد طالبي اللجوء في الاتحاد الاوروبي 1,26 مليون شخص. الامر الذي ساهم في تنامي ظاهرة الشعبوية اليمينية، وتكثيف الجهود لمكافحة الارهاب وخاصة ظاهرة المقاتلين الاجانب. كذلك، ظهر الى العلن التباين بين الدول الاعضاء بسبب التفاوت في نسبة تحمل الاعباء بين دول الدخول الاول، وهي الدول الاوروبية المطلة على المتوسط وباقي دول الاتحاد الاوروبي وهي دول الشمال. ادى هذا الامر، الى نقاش اوروبي حاد حول روحية الاتحاد الاوروبي التي تقوم على التضامن بين الدول الاعضاء، اي ضرورة توزيع حصص اللاجئين بشكل عادل بين الدول وبالتالي اعادة صياغة نظام دبلن الذي يحدد البلد الاوروبي الذي تقع عليه مسؤولية معالجة طلب اللجوء وهو بلد الدخول الاول.
ختاما، يتطلب هذا الامر، وفقا للكاتب، البحث في سبل ولادة اتفاق اورو متوسطي جديد لمواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية على اسس التعاون والتضامن والشراكة الجدية. ضمن هذا الاطار، يقترح الدكتور جمول تحديث الشراكة الاورومتوسطية لتتماشى مع المتغيرات الطارئة والمتسارعة، ووضع حلول مشتركة للتحديات المشتركة على ان تعتمد الحلول في المقام الاول على البعد التنموي الاقتصادي والاستقرار السياسي، وليس على اسس امنية تقوم على نظرية اغلاق وعسكرة الحدود بين الضفتين.